كتاب - الاقتصاد السياسي للاحتلال( الإسرائيلي ).
Contributed by زائر on 12-12-1431 هـ
Topic: دراسات فكرية نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

الاقتصاد السياسي للاحتلال "الإسرائيلي".
آخر تحديث:الاثنين ,15/11/2010
القمع ما وراء الاستغلال
إعداد وترجمة: عبدالله ميزر - تأليف: شير هيفير




أصدرت دار (بلوتو بريس) للنشر في 15 سبتمبر/ أيلول 2010 كتاباً بعنوان: “الاقتصاد السياسيّ للاحتلال “الإسرائيليّ” القمع ما وراء الاستغلال”، يقع في 226 صفحة من القطع المتوسّط، للباحث الاقتصاديّ “الإسرائيليّ” شير هيفير، الذي ظهر كأحد أقوى المحلّلين من اليسار “الإسرائيليّ” .

شير هيفير متخرّج في جامعة تل أبيب بدرجة ماجستير في تاريخ وفلسفة العلوم والأفكار، يعمل حالياً مع مركز الإعلام البديل في القدس كباحث اقتصاديّ، زوّده المركز بالكثير من الوثائق والتفاصيل التي ساعدته في إتمام هذا العمل . أخرج هذا الكتاب الذي يتحدّث فيه عن اقتصاد الاحتلال، موضّحاً أساليبه في قيادة ودراسة القضايا المتعلّقة به، والتي توسّع من نظرتنا نحوه، كما يناقش في كتابه وصول الاحتلال “الإسرائيليّ” إلى طريق مسدود، وأنّ المقاومة الفلسطينيّة تجعل استغلال الفلسطينيّين صعباً، ومع ذلك تقف السلطات “الإسرائيليّة” متردّدة في التخلّي عن سيطرتها واحتلالها . جاء هذا الكتاب بعد جهد خمس سنوات متواصلة من البحث حول اقتصاد الاحتلال “الإسرائيليّ” .




السلطة حولت مدافعها باتجاه معارضيها من الفلسطينيين

ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسين ومقدّمة مسبوقة بتمهيد وشكر وتوضيح للمختصرات والتواريخ والأرقام والقوائم . تتضمّن المقدّمة الفصلَ الأوّل الذي يقدّم خلفيّة موجزة عن الاقتصاد “الإسرائيليّ”، مع عرض وجهة نظر تاريخيّة للأحداث، والتي يتمّ التعمّق فيها في فصول لاحقة . يحمل القسم الأوّل بين طيّاته مجمل محتويات الكتاب، وهو سلسلة من الدراسات عن الأطوار المتنوّعة لاقتصاد الاحتلال، يتضمّن الفصل الأوّل منه المساعدة الدوليّة، وجدار الفصل، والتضخّم الماليّ، وتأثيرات الاحتلال على اقتصاد “إسرائيل”، ويركّز الفصل الثاني على المساعدة الدوليّة للمنطقة، ثمّ يعالج الفصل الثالث بشكل مختصر التضخّم كظاهرة اقتصاديّة سياسيّة تصوغ العلاقات بين الاقتصاديات الفلسطينيّة و”الإسرائيليّة”، والفصل الرابع يصف التكاليف الاقتصاديّة للاحتلال على “إسرائيل”، في حين أنّ الخامس يصف تأثير الاحتلال على اقتصاد “إسرائيل”، أمّا الفصل السادس فيصف دراسة جدار الفصل في القدس الشرقيّة، وتجمع الدراسة في سماتها العامّة بين الفصلين الثاني والخامس . تظهر الفصول الخمسة في هذا القسم على أنّها مخصّصة لتحدّي الصورة القاسية للحقيقة الاقتصاديّة المعقدة التي تشكّل الطبقة التحتيّة لاحتلال “إسرائيل” الأقاليمَ الفلسطينيّة، وتسلّط الضوء على الأطوار الأساسيّة لاقتصاد الاحتلال .

أمّا القسم الثاني من الكتاب فهو محاولة لأخذ وجهة نظر أوسع عن اقتصاد الاحتلال، ولفهم القوى التي تشكّل الحقائق الاقتصاديّة للمنطقة، والإمكانيّات الموجودة لإنهاء الاحتلال .

يشير الكاتب في تمهيده إلى سبب شروعه بالعمل في هذا الكتاب، وضرورة القيام بعمل له تأثيره في تغيير الحقيقة الموجودة في بلاده، خاصّة بعد أن وجد نفسه أمام فوهة بندقيّة “إسرائيليّة” توجّه إليه الرصاص، ويجد أنّ التسعينات من القرن العشرين كانت عقد التغيير في فلسطين/ “إسرائيل”، وعلى صعيده الشخصيّ أيضاً، وأنّ عملية أوسلو ساهمت إلى حدّ كبير في التأثير على اهتماماته بالنظرية الاقتصاديّة والتحليل السياسيّ بشكل كبير، حيث كان يَشْدُوه أمل كبير أثناء المفاوضات، ويعترف أنّه كان مأخوذاً بتصريحات السياسيّين “الإسرائيليّين” الذين وعدوا بالسلام، وما قاله الاقتصاديّون الذين وجدوا أنّ السلام مَقرون ب”السوق الحرّة”، والذي سيؤدّي إلى الازدهار لكلا الجانبين . لكنّ ذلك كلّه كان بمثابة صفعة قاسية على الوجه، فبعد مرور ذلك العقد، تلاشى إيمانه العميق بالسوق الحرّة وعملية السلام، وأحسّ أثناء فترة دراسته في جامعة تل أبيب أنّ هناك قصوراً شديداً في النظرية الاقتصاديّة السائدة، وأثار ذلك في نفسه رغبة استكشاف النظريات الاقتصاديّة البديلة، في وقت بدأت فيه الحركات الاجتماعيّة العالميّة بالاحتجاج على الفجوات الاقتصاديّة المتنامية في العالم، ومساهمتها في إفقار الملايين من الناس باسم “التجارة الحرّة” .

تشير كلمة “احتلال” المُستخدمة في الكتاب إلى احتلال ،1967 مع عدم تجاهل الغزوات والاحتلالات “الإسرائيليّة” الأخرى في تاريخ “إسرائيل”، أمّا “الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلة” فتشير في الكتاب إلى منطقتين احتلّتهما “إسرائيل” في ،1967 كانت مكتظّة بالفلسطينيّين وبقيت كذلك حتّى بعد الاحتلال (قطاع غزّة والضفّة الغربيّة)، واستخدمت “إسرائيل” الكثير من الأساليب لإخضاع السكّان، لكنّ المقاومة الكبيرة من السكّان لعبت دوراً حاسماً للتطوّر التاريخيّ ل”إسرائيل” في هاتين المنطقتين . .

الحقيقة في تدفّق مستمرّ

يجد الكاتب في الفصل الأوّل أنّ السياسة “الإسرائيليّة” إزاء قطاع غزّة تبقيها بشكل دائم على حافة الكارثة الإنسانيّة، وأنّ “إسرائيل” اتّبعت سياسات متناقضة، وفشلت قيادتها على مدى أربعة عقود من تشكيل استراتيجيّة متماسكة على المدى الطويل، للتعامل مع الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، ومن بين هذه التناقضات بناء المستوطنات في مناطق كانت “إسرائيل” ترغب في الانسحاب منها، وضمّ المناطق دون أن يرافق ذلك إعطاء المواطنة، كما تبع جهودها في تحسين مستوى المعيشة للمناطق المحتلّة، إطلاق هجمات دمّرت البنية التحتيّة الضروريّة في حياة السكّان الفلسطينيّين، وتناقضها الأكبر، كما يبرز في هذا الكتاب، يبدو في ترحيبها بالمساعدة الدولية، وفرضها حواجز وعوائق تحول دون الوصول إلى الهدف . ويضيف الكاتب أثناء حديثه عن التناقضات في السياسة الفلسطينيّة، من أنّ الجانب الفلسطينيّ لا يخلو من التناقضات أيضاً، وذلك في مفاوضات أوسلو، فبعد فشلها بقيت الاستراتيجيّات نفسها، وفشلت القيادة الفلسطينيّة في أخذ زمام المبادرة، واقتراح خطط طويلة الأمد لإنهاء الاحتلال . ويرى أنّ السياسة الفلسطينيّة وقعت في حالة أزمة منذ أوائل ،2006 ويبدو أنّ الممثّلين الفلسطينيّين مهتمّون بما يجري في الداخل أكثر من اهتمامهم بإنهاء الاحتلال “الإسرائيليّ” . كما أنّ حركة فتح حوّلت مدافعها باتّجاه الفلسطينيّين بعد أن كرّست الفدائيّين لنيل الاستقلال، وحتى قبل المساعدة من “إسرائيل” على دحر الفئات المعارضة، كما أنّ حركة حماس رفضت التعاون مع قوى الاحتلال “الإسرائيليّ”، واتّبعت أسلوباً أكثر عنفاً، وفشلت في عرض أيّة استراتيجيّة متماسكة، وعدم جاهزيّتها لإيجاد حلفاء ومناصرين، أو حتّى متعاطفين من المجتمع الدوليّ في قتالها ضدّ الاحتلال .

معلومات أساسيّة عن الاقتصاد الفلسطينيّ

يجد الكاتب أنّ الاقتصاد الفلسطينيّ اجتاز العديد من التغيّرات تحت الاحتلال، لكنّ ما يميّزه أنه لا يزال تحت سيطرة قوّة أجنبيّة عدائيّة لأكثر من 42 عاماً، واليوم كلّ طور من أطوار الاقتصاد الفلسطينيّ متأثّر ب”إسرائيل”، ويشير إلى خمسة عوامل اختبر فيها الاقتصاد الفلسطينيّ ازدهاراً بشكل قصير بعد الاحتلال “الإسرائيليّ”، بالاستناد إلى مجموعة من المصادر، أوّلها: تقليل حجم الصادرات الرخيصة إلى السوق “الإسرائيليّة”، حيث اتّبعت “إسرائيل” سياسة “الجسور المفتوحة”، ومكّنت الفلسطينيّين من الاستمرار في التجارة مع الأردن ومصر، ولم يكن ل”إسرائيل” علاقات دبلوماسيّة حينها مع مصر والأردن .

ثانياً: أرسلت “إسرائيل” المحترفين إلى الأقاليم المُحتلّة لتحديث الاقتصاد الفلسطينيّ، وتطبيق الريّ الحديث وتلقيح المواشي، واستصلاح الأراضي .

ثالثاً: بدأ “الإسرائيليّون” القيام بجولات إلى الأقاليم الفلسطينيّة، وشراء المنتجات المحلّيّة .

رابعاً: وهو الأكثر أهمّيّة، وهو عمل الفلسطينيّين لدى “الإسرائيليّين”، حيث كانوا يدفعون لهم جزءاً ممّا يأخذه العمّال “الإسرائيليّون”، وكانت أجور العمّال الفلسطينيّين عالية مقارنة مع دخلهم في الأقاليم المُحتلة .

خامساً وأخيراً: بعد ارتفاع أسعار النفط في ،1973 بدأت دول الخليج الحديثة الغنى باستقبال العمّال الفلسطينيّين للعمل عندها، وساهم تحويل الأموال إلى الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة في ازدهار الاقتصاد الفلسطينيّ .

يجد شير هيفير أنّ السياسات “الإسرائيليّة” كانت ناجحة بشكل كبير في قمع المقاومة الفلسطينيّة خلال العقدين الأوّلين من الاحتلال، وجعلت من الصعوبة بمكان على منظمة التحرير الفلسطينيّة توظيف عناصر، وأخفت المدى الحقيقيّ لإخضاع الاقتصاد الفلسطينيّ ل”إسرائيل” . . ويجد هيفير أنّ سنة 1980 كانت نهاية الازدهار الاقتصاديّ في ظلّ الاحتلال، وعانى الاقتصاد الفلسطينيّ سلسلة من الانتكاسات، وكذلك، فإنّ الانخفاض في أسعار النفط، أضعف الطلب على العمّال الفلسطينيّين في دول الخليج، وفقدت العائلات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة مورداً أساسيّاً، وهو التحويلات من العمّال المهاجرين . ويوضّح أنّ “إسرائيل” نفسها كانت تمرّ بصعوبات اقتصاديّة، مع تضخّم عالٍ جدّاً متبوعٍ بانهيار هائل لسوق الأسهم الماليّة . وهذا كلّه قاد برأيه إلى تدهور سريع في الدخل الحقيقيّ الذي أنتجه العمّال الفلسطينيّون بالعمل في “إسرائيل” .

عملية أوسلو

يذكر الكاتب الهبوط الاقتصاديّ الذي حدث في سنوات عملية أوسلو (1993- 2000)، وتطبيق نظام الإغلاق الذي منع الفلسطينيّين من دخول “إسرائيل”، أو حتى التحرّك بحرّيّة في الأقاليم الفلسطينيّة المحتلّة، في وقت كان الجميع يتأمّل انتعاش الاقتصاد الفلسطينيّ، بالإضافة إلى فرصة تحقيق السيادة الذاتيّة، والاستقلال والحرّيّة من الاحتلال، لكنّ تصاعد النزاع بين “إسرائيل” والفلسطينيين فرض ضريبة كبيرة على الاقتصاد الفلسطينيّ، والانخفاض في مستوى المعيشة الذي قدّر بنسبة 30- 40% .

ويذكر أنّ اتفاقيات أوسلو هي الإنجاز الرئيسيّ لتلك المفاوضات التي أدارها شمعون بيريز . لكن مع انهيار المفاوضات واندلاع الانتفاضة الثانية، حدثت مستويات كبيرة من العنف سبّبت أزمة كبيرة للاقتصاد الفلسطينيّ و”الإسرائيليّ”، وكان التأثير على الاقتصاد “الإسرائيليّ” يُزيد بشكل كبير الهوّة، في الناحية الاجتماعيّة، بين الأغنياء والفقراء، وسنح للبعض الاستفادة من تلك الأزمة . أمّا بالنسبة للفلسطينيّين فقد عمّ الفقر والبطالة، وانخفض الدخل، وبدأ الاقتصاد الفلسطينيّ بالاعتماد على المساعدات الدوليّة لدرء كارثة إنسانيّة كبيرة . ويجد الكاتب أنّه منذ ذلك الحين صار واضحاً أنّ السلطة الفلسطينيّة ليست قادرة على التحكّم بزمام دولة مستقلّة في المستقبل . حيث فشلت في تحسين ظروف المعيشة تحت الاحتلال، حتّى أنّها وجّهت بنادقها إلى المحتجّين من الفلسطينيّين في عهد رئيس الوزراء سلام فيّاض .

الفساد في السلطة الفلسطينيّة

يجد الكاتب أنّ “إسرائيل” دفعت عن نفسها الملامة في التنمية الاقتصاديّة، ووجّهت اتّهامات للسلطة الفلسطينيّة بالفساد، وإضاعة التمويلات والمساعدات التي تتلقّاها في الرشاوى وإثراء رجال القيادة، على حساب إهمال متطلّبات الشعب الأساسيّة، وكان لهذه الاتّهامات دويّ كبير عند الشعب الفلسطينيّ، الذي أيّدها في اتّهاماتها هذه، وعبّر الفلسطينيّون عن عدم رضاهم عن القيادة الفلسطينيّة في تأمين الظروف الجيدة، في وقت كانوا يتوقعون الأكثر منها، هذه الاتّهامات أظهرت الدور الذي تلعبه “إسرائيل” والمجتمع الدوليّ في تشكيل بنيان الاقتصاد الفلسطينيّ .

وبعد الانتفاضة الثانية، وجّه العديد من المتبرّعين الدوليّين، وخاصّة صندوق النقد الدوليّ، انتقادات لاذعة للسلطة الفلسطينيّة بسبب الفساد، وكان ذلك سبباً في إضعاف المفاوضات مع “إسرائيل” . لكنّ هيفير يوضّح أنّ البنك الدولي قام باستطلاع حول الفساد في السلطة الفلسطينيّة، وجد أنّ هذه الاتّهامات مبالغ فيها لأسباب سياسيّة .

في القسم الثاني من الكتاب الذي يبدأ بالفصل الثاني بعنوان: “المساعدات الدولية”، حيث يستهلّ الكاتب باستعراض نظرة تاريخيّة شاملة للجهود الدوليّة المبذولة للأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، ويشيد بدور الأمم المتّحدة الكبير في كونها المصدرَ الرئيسَ للمساعدات حتّى عام ،1990 لكن باحتلال “إسرائيل” المناطق التي كان يشغلها اللاجئون عام ،1967 بقيت الأمم المتّحدة في الخلف، واستمرّت في مساعدة اللاجئين، ويشير إلى التراجع في الاقتصاد الفلسطينيّ، بعد أن ابتعدت “إسرائيل” عن تحمّل مسؤوليّة الفلسطينيّين، واعتمدت على المشاريع المحليّة والمساعدات الدوليّة للاحتفاظ بالاقتصاد الفلسطينيّ طافياً على السطح، كما يجد أنّ كمّيّات كبيرة من الأموال الخارجيّة تدفّقت إلى الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة بعد اتّفاقيات أوسلو، التي ساهمت في تحسين الظروف المعيشيّة وتأمين فرص عمل، وكانت هذه الأموال تشكّل بادرة للتوصّل إلى السلام بين الفلسطينيّين و”إسرائيل”، وكانت هذه المساعدات تعني التحوّل من السيطرة “الإسرائيليّة” الكاملة إلى الاستقلال الفلسطينيّ . ويتساءل الكاتب: هل فعلاً حقّق الاقتصاد الفلسطينيّ الاستقلاليّة؟ ويرى أنّ المساعدات الماليّة دارت حول سؤال مركزيّ وهو ألا يجدر ب”إسرائيل” أنّ تعوّض الفلسطينيّين عن عقود الإهمال وتحديد فرصهم في تطوير اقتصادهم؟

المساعدات الخارجيّة والإنسانيّة

يميّز الكاتب بين نوعين من المساعدات، حيث الخارجيّة هي عمل سياسيّ تتلقّاه الحكومة، وتكون لأغراض إنسانيّة إذا جاءت على شكل أموال، أمّا الإنسانيّة منها تقوم بالإشراف عليها منظّمات غير حكوميّة، ولا يمكن تحويلها بسهولة إلى استعمالات أخرى . يجد هنا أنّ السلطة الفلسطينيّة لم تكن في موقع مهيّأ للإشراف على هذه المساعدات الإنسانيّة بطريقة غير مباشرة، ويعزو ذلك إلى مجموعة أسباب أوّلها: ضعف ميزانيّتها . ثانياً: عدم القدرة على الإشراف والتخطيط والتعامل مع الهبات الخارجيّة . ثالثاً: غياب السلطة والسيادة، وعدم قدرتها على توزيع المساعدات . ويتساءل الكاتب عن مدى ضرورة المساعدات، وهل خطر المجاعة وشيك كما يحدث في أفريقيا، من افتقار إلى الأمن الغذائيّ في ظلّ فقر مدقع . ويشير إلى إحدى الاستطلاعات التي أجرتها وزارة التخطيط الفلسطينيّة، حيث سألت فيها العديد من الناس عن أكثر الأشياء أهمّيّة وإلحاحاً في المجتمع، وكانت الإجابات بالدرجة الأولى هي تأمين أعمال ووظائف أكثر، ثمّ مشاريع البنية التحتيّة، وبعدها خدمات الرعاية الصحّيّة، ثمّ تلتها المساعدات الغذائيّة وخدمات التعليم . ويوضّح أنّ الفلسطينيّين يدركون حقيقة ذلك، وأنّ الجوع ليس ناتجاً عن نقص في الغذاء، بل ناتج عن استحقاقات الناس للغذاء حيث يجدون الطعام متوافراً عندهم، لكنّهم لا يحصلون على ما يكفي لسدّ رمقهم . والوسيلة الفضلى برأي هيفير هي ضمان وجود ما يكفي من الغذاء عند العائلات أكثر من توسيع الكمّيّة الإجماليّة للطعام . ويستشهد بتقرير صادر عن الأمم المتّحدة في تحديد نسبة الافتقار إلى الضمان الغذائيّ في الأقاليم الفلسطينيّة المحتلّة، حيث 70% منهم يعانون من عدم وجود الضمان الغذائيّ، و18% منهم يعيشون تحت خطّ الفقر، ما يسمّى “الفقر المزمن”، حيث يبقون أيّاماً بدون غذاء . وهناك إشارة، ضمن التقرير، إلى انخفاض نسبة الزنك والحديد عند النساء والأطفال . ويشير إلى التدهور الغذائيّ بعد استلام حكومة حماس سدّة الحكم، وما يعانونه من حصار اقتصاديّ وعسكريّ في قطاع غزة، وافتقار الناس إلى أبسط وسائل العيش من غذاء وماء .

المقارنة مع “إسرائيل”

يذكر الكاتب حجم المساعدات الخارجيّة التي تتلقّاها “إسرائيل” والجهات الداعمة التي تشكّل رأس مالها الخارجيّ، وهي: 1- الولايات المتّحدة (أغلب مساعداتها عسكريّة) . 2- الجاليات اليهوديّة في أنحاء العالم والتي لا تقدّر . 3- التعويض عن الهولوكوست، تتلقّاها الدولة، ولا توزّعها على الضحايا الحقيقيّين . يوضّح كذلك أنّ المساعدة الخارجيّة لكلّ فرد في “إسرائيل” أقلّ في السنوات الأخيرة من الأفراد في الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، لكنّها تتلقّى المساعدات بطريقة أخرى، وعلى رأس المساعدين الولايات المتّحدة منذ 1949 التي تدعمها بالأشكال كافّة، ويقدّر حجم مساعداتها بأكثر من 200 مليار دولار منذ 1973 حتّى ،2008 كما سمحت لها كدولة وحيدة شراء المعدّات العسكريّة من الصناعات المحلّيّة، والتعويضات من ألمانيا منذ الحرب العالميّة الثانية .

يسرد الكاتب قائمة من المستفيدين من المساعدات الخارجيّة، وأوّلهم السكّان الفلسطينيّون، والمستفيد الثاني هو السلطة الفلسطينيّة . والمستفيد الثالث هو الواهبون العرب، ويذكر أنّ هؤلاء يتبرّعون تجنّباً لتحوّل الفلسطينيّين إلى مخالب للمصالح الغربيّة، وعدم ترويج صورة سيّئة للقادة في المشهد العامّ، ولها تأثير على السياسة الداخليّة في فلسطين، أمّا المستفيد الرابع هو العمّال الدوليّون في المنظّمات غير الحكوميّة من الدول النامية، والخامس هو المتبرّعون الدوليّون من الدول الأوروبيّة (وبشكل أقلّ الولايات المتّحدة واليابان)، ويذكر أنّ هذه الدول لا تتبرّع بدافع الإحسان، بل للحفاظ على التوازن في الشرق الأوسط الذي يحول دون ارتفاع أسعار النفط . والمستفيد السادس هو العمّال “الإسرائيليّون”، والسابع هو الشركات “الإسرائيليّة” . أمّا المستفيد الثامن هو الحكومة “الإسرائيليّة” التي استفادت من هذه المساعدات في تعزيز قوّتها الاقتصاديّة، وتأمين فرص العمل للعَمالة “الإسرائيليّة”، وبالتالي تخلّصت من المسؤوليّة المُلقاة على عاتقها .

فوائد “إسرائيل”

يذكر الكاتب نسبة الواردات من وعبر “إسرائيل”، والتي تشكّل 70% من إجمالي الواردات إلى الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، وتشكّل الصادرات من الأقاليم الفلسطينيّة المحتلة نسبة 86،7% إلى “إسرائيل”، وتحقّق المساعدات الخارجيّة توازناً كبيراً ل”إسرائيل” في دعم أسواقها بالأعمال والضرائب التي تفرضها الحكومة “الإسرائيليّة” . ويجد هيفير أنّ وجود المساعدات الخارجيّة يزيد في تحكّم “إسرائيل” بالأقاليم المُحتلّة وإخضاع اقتصادها للاقتصاد “الإسرائيليّ” . ويجد أنّ هذه المساعدات هي نعمة كبرى على الفلسطينيّين، وفي الوقت نفسه فإنّها تشكل مصدر دخل كبير للاحتلال من خلال المرافق العامّة . ويقول الكاتب: “إنّ الحكومة “الإسرائيليّة” وشركاتها تحصد الأرباح، بينما يدفع المجتمع الدوليّ الفواتير” .

يختم هيفير الفصل الثاني ب “تأثيرات المساعدات الخارجيّة”، حيث يجد أنّ أيّ توقّف لهذه المساعدات سيؤدّي إلى كارثة إنسانيّة، و”إسرائيل” على إدراك تامّ بمسؤوليّتها الكبيرة تجاه الفلسطينيّين تحت الضغوط الدوليّة، وليس من جانب الالتزام الأخلاقيّ في حال وقوع كارثة من هذا النوع، لأنّها غير مستعدّة لتلبية متطلّبات أكثر من ثلاثة ملايين من الفلسطينيّين، ويرى أنّ هذه المساعدات لا تخدم منع الكارثة فقط، بل في إبقاء اليأس والقنوط، وإعطاء الناشطين الفلسطينيّين فرصة لمراجعة خياراتهم غير العنيفة في الكفاح ضدّ الاحتلال .

أمّا الفصل الثالث من الكتاب المعنون ب “التضخّم الماليّ في الأقاليم الفلسطينيّة المحتلّة”، فإنّ الكاتب يجد فيه أنّ النظام الذي تتبعه السلطات “الإسرائيليّة”، من وضع نقاط التفتيش، وإغلاق الحدود، والحواجز التي تعيق الحركة، وجدار الفصل، وتسييج قطاع غزّة، أعاد تحديد الاقتصاد الفلسطينيّ، وهذه من أهمّ الأسباب التي أثّرت في الاقتصاد الفلسطينيّ، ما خلّف الكثير من الفروق في الأسعار، وأظهر القيود المفروضة على التجارة الحرّة بين “إسرائيل” والأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة . وعلى الرغم من أنّ للسلطة الفلسطينيّة ميزانيّتها الخاصّة بها، لكنّها لا تملك عملتها الخاصّة بها، فالفلسطينيّون و”الإسرائيليّون” على حدّ سواء يستخدمون العملة “الإسرائيليّة” .

كما يتطرّق الكاتب إلى التحدّث عن التضخّمات الماليّة في “إسرائيل”، التي عانت من تضخّم شديد في أوائل الثمانينات، وتطبيقها لسياسة صارمة للتخلّص منه، وكذلك في التسعينات أثناء سنوات أوسلو، فقد كان التضخّم يتذبذب في “إسرائيل” والأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، ويذكر أنّ الانتفاضة الثانية 2000 جلبت الركود إلى السوق “الإسرائيليّة”، وعانت “إسرائيل” من آثار سلبيّة بسبب التضحم الماليّ عام ،2003 في حين أنّ تأثير التضخّم على الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة كان إيجابياً وعالياً . ولكن حدث ما يسمّى التضخّم الماليّ المصحوب بركود اقتصاديّ في الأقاليم المُحتلّة، وهذا كلّه مرتبط بالمرحلة الحاليّة من الاحتلال “الإسرائيليّ” .

وفي نهاية هذا الفصل يناقش الكاتب تأثير الاحتلال على عملة “إسرائيل”، شارحاً ذلك بجدول، يظهر فيه أنّ نسبة التضخّم الماليّ في “إسرائيل” انخفضت بنسبة 10% في السنوات الأخيرة من أوسلو، وساهمت السياسة الماليّة الشديدة للبنك المركزيّ “الإسرائيليّ” خلال منتصف التسعينات في تخفيض نسبة التضخّم، وزيادة القوّة الشرائيّة للعملة “الإسرائيليّة” . كما يتحدّث عن المساعدات الدوليّة التي توجب عليها شراء البضائع من الشركات “الإسرائيليّة”، وكذلك تمّ دفع تكاليف الشحن والنقل للشركات والحكومة “الإسرائيليّة”، وذلك كلّه بالعملة “الإسرائيليّة”، وتوجب على المتبرّعين تحويل أموالهم إلى العملة “الإسرائيليّة”، ما يساهم في ازدياد العملة الأجنبيّة في البنك المركزيّ “الإسرائيليّ” . كما يشرح الكاتب أسباب الهجوم العدائيّ الذي دام 22 يوماً على قطاع غزّة، حيث كان للأنفاق التي حفرها الفلسطينيّون التأثير الكبير على اقتصاد “إسرائيل” وعملتها، لأنّ الفلسطينيّين كانوا يدفعون للتجّار المصريّين بالعملة “الإسرائيليّة”، والتجّار بدورهم يحوّلونها إلى عملة مصريّة، بالتالي خلق ذلك تأثيراً معاكساً من تأثير المساعدات داخل “إسرائيل”، ومن هنا كان الخوف كبيراً من إضعاف اقتصاد “إسرائيل”، فشنّت “إسرائيل” حملتها العدائيّة لتدمير كلّ تلك الأنفاق التي كانت تجلب إلى قطاع غزّة كلّ الموارد، واتّهمت “إسرائيل” حماس بجلب السلاح عن طريقها أيضاً .

الاقتصاد السياسي للاحتلال "الإسرائيلي" ... الحلقة الثانية آخر تحديث:الخميس ,18/11/2010
القمع ما وراء الاستغلال


“إسرائيل” تعيش على إثارة التوترات في المنطقة لصالح الولايات المتحدة

نتعرّف في الفصول التالية من كتاب الباحث شير هيفير “الاقتصاد السياسيّ للاحتلال “الإسرائيلي” - القمع ما وراء الاستغلال”، إلى التكاليف الاقتصاديّة للاحتلال على “إسرائيل”، والاتّجاهات المختلفة في الاقتصاد “الإسرائيلي”، بالإضافة إلى جدار الفصل العنصريّ في القدس، وما يحمله من آثار سلبيّة .

التكاليف الاقتصاديّة للاحتلال على “إسرائيل”:

يجد الكاتب أنّه من الواضح أنّ لاحتلال “إسرائيل” للأقاليم الفلسطينيّة المحتلّة تأثيراً مدمّراً على الفلسطينيّين من النواحي كافّة، لكنّ السؤال الذي يطرحه هو: كيف تأثّر الاحتلال وكيف أثّر على “إسرائيل”؟ يجيب عن هذا السؤال بتقسيم الاحتلال إلى ثلاث مراحل وهي: 1- الاحتلال المبكّر من 1967 حتّى 1986 . 2- الاحتلال المتأخّر (سنوات المقاومة) من 1987 حتّى اليوم . 3- الاحتلال المتخصّص من 2002 حتّى اليوم .

يجد أنّ هناك تداخلاً بين المرحلة الأولى والثانية، لكن منذ سنة 2002 أخذت عمليةُ الخصخصة للاحتلال في اتّجاه آخر، ويرى أنّه خلال الفترة الأولى من 1967 حتّى 1986 لم يبذل الجيش “الإسرائيلي” الكثير من الجهود لفرض سيطرته الكاملة على السكّان، كما أنّ تكاليف الاحتلال كانت منخفضة، استفاد الاقتصاد “الإسرائيلي” منه للأسباب التالية:

1- الضرائب التي جمعتها “إسرائيل” من الفلسطينيّين .

2- تصريف البضائع “الإسرائيلية” في السوق الفلسطينيّة .

3- عمل الفلسطينيّين لدى ““الإسرائيليين”” بأجور بخسة .

4- الحصول على مستوطنات غير شرعيّة في الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة .

5- استفادة شركات البناء من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة في الحصول على الآجر والمقالع الحجريّة .

لكنّ الكاتب يوضّح أنّه عند اندلاع الانتفاضة الأولى، أرسلت “إسرائيل” قوّات ومعدّات عسكريّة أكثر لدعم المستوطنات، ونقاط التفتيش في الأقاليم المُحتلّة، حينها انخفضت السياحة “الإسرائيلية” بدرجة كبيرة أيضاً . وبالتالي قلّت فائدة الاحتلال وارتفعت تكاليفه أكثر من الدخل الذي تجنيه “إسرائيل” منه، كما يجد أنّ التأثير السلبيّ وصل إلى الذروة مع اندلاع الانتفاضة الثانية، حيث وصل الاقتصاد “الإسرائيلي” إلى مرحلة الركود الشديد . والمرحلة الثالثة برأيه جاءت متكيّفة مع السياسة الأمريكيّة في الحرب على الإرهاب، من خلال تخصيصها قوات عسكريّة أكثر على نقاط التفتيش، وكذلك الدفاع عن المستوطنات .

ويلاحظ أنّ هذا التركيب الجديد لم يخفّف الأعباء الماليّة للاحتلال على الحكومة “الإسرائيلية”، لكنه وفّر فرص عمل جديدة لشركات القطّاع الخاصّ في المجال الأمنيّ، وكذلك في منتصف التسعينات، ساهمت جهود المساعدات الدوليّة في خلق فرص جديدة لتعزيز الاقتصاد “الإسرائيلي” .

الحديث الاقتصاديّ عن تكاليف الاحتلال:

تماشياً مع المراحل الثلاث كانت هناك ثلاثة اتّجاهات أخرى في الكتابة الاقتصاديّة عن الاحتلال . حيث عالج الاقتصاديّون، خلال الفترة الأولى، تأثيرات الاحتلال على الاقتصاد “الإسرائيلي”، والتركيز أكثر على تأثيراته على الاقتصاد الفلسطينيّ، كما كانت هناك بوادر إيجابيّة على صعيد الاقتصاد “الإسرائيلي” والفلسطينيّ .

أمّا في الفترة الثانية، التي تبعت فترة الانتفاضة، صار من المستحيل تجاهل التكاليف الباهظة للاحتلال على الاقتصاد “الإسرائيلي”، بسبب قمع المقاومة الفلسطينيّة وتوسيع المستوطنات غير الشرعيّة، وكان هناك مستوى عالٍ من التدخّل في الاقتصاد “الإسرائيلي” .

وفي الفترة الثالثة، ظهرت مناقشات متّسمة بالتعقيد، غيّر فيها الاقتصاديّون آراءَهم، حيث وجدوا أنّ القضايا السياسيّة والأمنيّة غير مرتبطة مع القضايا الاقتصاديّة، ويمكن للسوق الحرّة أن تزيد نموّ الاقتصاد حتّى وسط النزاع، جاء هذا الحديث بعد الحركة الكبيرة للشركات الأمنيّة في الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، وزيادة استثماراتها .

ثمّ يقوم هيفير بتحليل تكاليف الاحتلال، ويجد من الصعوبة تحديدها بشكل دقيق، إنّما يقدّرها بشكل استقرائيّ، بسبب السياسة “الإسرائيلية” العميقة في إخفاء الحقائق، وتمريرها بشكل سرّيّ، ويلاحظ أنّه بعد اتّفاقيّات أوسلو، قامت “إسرائيل” بتمويل المستوطنين في الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة بكمّيّات كبيرة من الأموال، وذلك لسببين، أوّلهما: تجنّب السخط العامّ داخل “إسرائيل” في تفضيل المستوطنين عليهم . وثانيهما: تجنّب السخط الدوليّ على انتهاكات “إسرائيل” القانونَ الدوليّ لبنائها المستوطنات في الأقاليم المُحتلّة .

إلا أنّ الكاتب لا يكتفي بذلك، بل يقوم بتفصيلٍ دقيقٍ للتكاليف من حيث الفائدة، والدخل، والإعانات الماليّة للمستوطنات، والتكاليف الأمنيّة . ويبدأ بالفائدة، حيث يجد أنّ الاستثمارات الاقتصاديّة تحقّق عائدات كبيرة، وما توسّع المستوطنات إلاّ دليل على أنّ الاستثمارات تأتي أُكُلها، ويطرح سؤالاً مفاده: ما الفائدة التي ستُحقّق إذا تخلّت “إسرائيل” عن الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة؟

ثمّ ينتقل إلى الدخل الذي تجنيه “إسرائيل” من الاحتلال، ويقسّمه إلى خمسة أقسام: الضمان الاجتماعيّ، والأجور الإضافيّة، والأجور المدفوعة لاتّحادات العمّال في “إسرائيل”، والاستغلال الاقتصاديّ المُمارَس على العمّال، وأخيراً التمويلات الماليّة إلى السلطة الفلسطينيّة .

وفيما يتعلّق بالتكاليف الأمنيّة التي تنفقها “إسرائيل” في الأقاليم المُحتلّة فهي باهظة، يلاحظ الكاتب أنّ معظمها بسبب المقاومة الفلسطينيّة التي تشكّل عبئاً كبيراً على اقتصاد “إسرائيل” من تطويرها وسائل دفاعيّة تقنيّة حديثة لتمكين سيطرتها، والحفاظ على أمن المستوطنين . يجمع الكاتب في النهاية التكاليف الأمنيّة التي تقدّر ب(381،02 مليار شيكل “إسرائيلي”) .

يدخل هيفير في مقارنات بين التكاليف التي تكبّدتها “إسرائيل” في السنوات الأخيرة من الاحتلال والسنوات الأربعين الأولى، ويجد أنّ “إسرائيل” تنفق ما يقارب 8،72% من ميزانيّتها على الاحتلال على مرّ هذه السنوات، ويتوقّع أنّها في عام 2038 ستنفق نصف ميزانيّتها على الاحتلال، وذلك بالنظر إلى أعداد المستوطنين المتزايدة، وبرأيه إذا حدث هذا التوقّع، فإنّ “إسرائيل” ستواجه ضغطاً سياسيّاً كبيراً لأجل التغيير .

يوضّح مصدر التكاليف التي تدفعها الحكومة، ويجد أنّها تأتي من مصدرين، أوّلهما: الفلسطينيّون الذين يشكّلون مصدر دخل كبير للشركات “الإسرائيلية” من خلال استغلالهم في السوق الفلسطينيّة . والثاني: مواطنو الولايات المتّحدة، من خلال الضرائب المفروضة عليهم، والتي تدعم مساعي “إسرائيل” العسكريّة، ويذكر أنّ “إسرائيل” من أكثر الدول التي تتلقّى الدعم من الولايات المتّحدة في العالم، وكان لهذا الدعم الدورُ الكبيرُ في الحفاظ على الاقتصاد “الإسرائيلي” متماسكاً .

ويشير إلى المستفيدين من الاحتلال والداعمين له وهم: الشركات العالميّة لإنتاج النفط، ثمّ مصانع الأسلحة، بالإضافة إلى الشركات الأمنيّة “الإسرائيلية”، ويرى أنّ بعض المستوطنين لا يستفيدون إلاّ بدرجة قليلة جدّاً . كما يلاحظ أنّ عدوان “إسرائيل”، يخدم توسيع مستويات العنف، وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وكلّ دائرةٍ من العنف تزيد من أسعار الأسلحة .

يخلص الكاتب في نهاية هذا الفصل إلى أنّ الاحتلال من أكثر المشاريع المُكلفة على “إسرائيل” منذ سنة ،1967 والسبب في ذلك محاولات “إسرائيل” لقمع الاقتصاد الفلسطينيّ، والرعاية الصحّيّة، والثقافة، والحقوق الإنسانيّة، وهذا ما ترفضه المقاومة الفلسطينيّة التي لم تهدأ، وكلما قمعت “إسرائيل” هذه المقاومة، ازدادت تكاليف الاحتلال .

اتّجاهاتٌ في الاقتصاد “الإسرائيلي”:

يذكر الكاتب في هذا الفصل أنّ “إسرائيل” تلعب دوراً عسكريّاً كبيراً في إثارة النزاعات، والتوتّرات، والانقسامات لصالح الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي لا تكفّ عن دعمها بكلّ السبل، وأنّ ما يتمّ إنفاقه على الاحتلال في السنوات الأخيرة، يعادل ضعف ما تتلقّاه “إسرائيل” من الولايات المتّحدة، وأنّ الاحتلال لم يؤثّر على الاقتصاد فقط، بل على التماسُك الاجتماعيّ أيضاً .

يشير هيفير إلى الاحتفال بالذكرى الستّين لقيام “إسرائيل” في ،2008 عندما خرج السياسيّون ““الإسرائيليون”” وقالوا إنّهم بمنأى عن الأزمة الاقتصاديّة، وإنّ اقتصادهم لم يتأثّر إلا بشكل طفيف، لكن بنظرة أقرب منه، يجد أنّ اقتصاد “إسرائيل” يمرّ بفترة عصيبة، ويعاني مجتمعها من مستويات شديدة من اللامساوة، وتركّز الثروة بأيدي القلّة، بالإضافة إلى أزمة نهب الخدمات العامّة، وتركيبها السيسيواقتصاديّ الهشّ .

يستشهد ببعض التقارير التي أجريت حول الاقتصاد “الإسرائيلي”، ومنها تقرير في صحيفة “الإيكنوميست” بعنوان “الجيل الآتي” في أربع عشرة صفحة، سلّط التقرير الضوء على بنية المجتمع “الإسرائيلي”، الذي يعاني من مشاكل قاسية ومتجذّرة، يمكن أن تقود إلى أزمة على الصعيد الاقتصاديّ، نتيجة سياسات الحكومة “الإسرائيلية” العنصريّة . ويؤكّد ما جاء في التقرير الأوّل، الصادر عن مركز (آدفا) في “إسرائيل” بعنوان “تكلفة الاحتلال” الذي تحدّى وجود ازدهار في اقتصاد “إسرائيل”، وأقرّ أنّ “إسرائيل” تعاني من وطأة الاحتلال على اقتصادها .

ثمّ يوضّح أنّ “إسرائيل” تظهر قوية من خلال المؤشّرات الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزيّ في “إسرائيل”، والبنك المركزيّ، والمؤسّسات “الإسرائيلية”، التي أكّدت على ارتفاع الناتج المحلّيّ “الإسرائيلي”، وانخفاض نسبة البطالة، وارتفاع الصادرات، بالإضافة إلى قوّة العملة “الإسرائيلية”، وارتفاع مدّخراتها من العملة الأجنبيّة .

بعد عرض المناقشات التي تدلّ على ازدهار الاقتصاد “الإسرائيلي”، يوضّح الباحث الحالة الحقيقيّة للاقتصاد “الإسرائيلي”، من خلال إجراء مقارنات في نسب النموّ، والتي يجد قصّة نموّها كمسرحيّة بتمثيليّتين، تبدأ التمثيليّة الأولى مع نشوء “إسرائيل”، حيث كانت معدّلات النموّ عالية للغاية حتّى عام ،1973 وكانت هذه السنة هي التي بدأت فيها التمثيليّة الثانيّة، إذ عانت “إسرائيل” من نسبة انخفاض عالية في معدّل النموّ حتّى الانتفاضة الثانية، وبعد عام 2003 شهدت ارتفاعاً بنسبة 4%، وكانت هذه النسبة من الارتفاع موجودة عند دول الشرق الأوسط أيضاً .

ثمّ ينتقل هيفير إلى توضيح الانحدار في النظام التعليميّ “الإسرائيلي”، حيث يبيّن تدنّي مستوى الاهتمام بالتعليم من قبل السلطة السياسيّة، التي كرّست النظام التعليميّ لبثّ المعتقدات الصهيونيّة في أذهان الطلَبة، وتحضيرهم للخدمة العسكريّة لمحاربة أعدائهم، كما يشير إلى المظاهرات التي قام بها المعلّمون بسبب رواتبهم المنخفضة، وقلّة الوسائل التعليميّة في بعض المناطق، ويبيّن أنّ نسبة هجرة المتعلّمين والمتخرّجين في الجامعات تزداد يوماً بعد الآخر، وكذلك الفروقات الواضحة بين الطلاّب اليهود المنحدرين من أوروبا وغيرهم، ومعاناة الطلبة الفلسطينيّين، من عدم توفير الوسائل والصفوف الكافية، إلى تطبيق سياسة التمييز العنصريّ عليهم إلى مدى كبير، والتي تؤدّي إلى تفكّك المجتمع “الإسرائيلي”، ويجد أنّ التقنية العالية التي لديها الآن لن تدوم مع وجود هذه المظاهر في النظام التعليميّ .

ينتقل بعدها إلى الأزمة السياسيّة، حيث يجد أنّ عدم الاستقرار في الاقتصاد يسبّب أزمة كبيرة للنظام السياسيّ في “إسرائيل”، وأنّ الشلل الذي يصيبه هو من أعراض الأزمة وليس من أسبابها، والتخطيط السياسيّ نابع من الحركات الصهيونيّة الداخليّة المتناقضة، التي تدّعي الديمقراطية، وتعبّر عن طموحاتها في التوسّع الإقليميّ إلى المناطق المأهولة بالعرب، من دون التخلّي عن تقوقعها اليهوديّ، ويشير إلى انخفاض نسبة التجنيد في الجيش “الإسرائيلي” من قبل اليهود منذ ،1980 وكذلك عدم إقبال اليهود على الانتخابات في 2007- ،2009 ذلك بسبب الفساد السياسيّ في القيادة “الإسرائيلية” .

يبيّن هيفير، في كتابه هذا، القيمة السيسيواقتصاديّة المنخفضة للفلسطينيّين، حيث أجبرتهم السلطات “الإسرائيلية” على العيش في دولة، تزعم أنّها دولة اليهود، واعتبرتهم مواطنين من الدرجة الثانية، باذلة جهودها في استباحة أراضيهم ومنازلهم، وحياتهم الاقتصاديّة، من خلال دفع الأجور المنخفضة للعمّال، وتفاقم نسبة البطالة والفقر بينهم، وغيرها من السياسات العنصريّة بحقّهم داخل “إسرائيل”، ويستشهد ببعض التقارير الصادرة عن صحيفة (الإندبندنت)، التي أظهرت أنّ استمرار “إسرائيل” في ممارساتها العنصريّة تجاه الفلسطينيّين، سيشكّل تهديداً مستقبليّاً على ازدهارها، وسيعيق حركتها في الوصول إلى ركب الديمقراطيّة الغربيّة .

يتعمّق الكاتب في الوجه الحقيقيّ لسوق العمل، الذي يكون على النقيض ممّا تروّجه “إسرائيل” من إحصاءات غير حقيقيّة لواقع البطالة، والباحثين عن العمل، ويدعم حديثه بأمثلة كثيرة من المراجع والإحصاءات، مشيراً إلى أنّ نسبة البطالة كانت 7 .14% في ،2006 وليس 8% . كما يتحدّث أيضاً عن بؤس واقع العمل، الذي يجبر الطبقات المتدنيّة سوسياً واقتصاديّاً على العمل بأجور زهيدة، بالكاد تكفيهم لسدّ رمقهم، مع ساعات طويلة من العمل الشاقّ .

من التعليم والسياسة إلى الحديث عن التوازن في التجارة الخارجيّة عند “إسرائيل”، يجد هيفير أنّ نسبة العجز قد تلاشت في السنوات الأخيرة، نظراً لتصديرها الكثير من أجهزة المراقبة، والتقنيات الأمنيّة الحديثة، ويشير إلى أنّ مكاتب الصادرات في “إسرائيل” سجّلت أكبر نسبة من الصادرات في التاريخ، تقدّر بنسبة 4 مليارات دولار، ويضيف بأنّ المساعدات من الولايات المتّحدة وألمانيا والجالية اليهوديّة ساهمت في تحقيق هذا التوازن التجاريّ والتخلّص من العجز .

ويختم فصله هذا بتأكيده على عدم استقرار الاقتصاد “الإسرائيلي” وازدهاره، مشيراً إلى عدم دقّة المؤشّرات الكليّة للاقتصاد، والوضع المزري للتكاتف الاجتماعيّ، الذي يُلحق الكثير من المخاطر بالاقتصاد “الإسرائيلي”، بالإضافة إلى ذلك يؤكّد أنّ الفشل العسكريّ لا يتعلّق بالأمن الشخصيّ ل “الإسرائيليين” فقط، بل ينعكس على هيبة الصناعة العسكريّة في “إسرائيل”، وعلى رغبة الولايات المتّحدة في إبقائها مسلّحة لحماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط .

الجدار والقدس: سلسلة من المآسي:

يتناول الكاتب في هذا الفصل جدارَ الفصل في القدس، وتاريخه، وتأثيراته على الحياة اليوميّة، على الرغم من مرور الجدار عبر قطاع غزّة، لكنّ الموقع المركزيّ في النزاع هو القدس . يجد أنّ الجدار من أكثر الرموز البارزة على القرارات التي أصدرتها الحكومة “الإسرائيلية” لتعزيز الانفصال بين الفلسطينيّين و”الإسرائيليين”، وقطع معظم التعاملات التجاريّة بين التجّار والعمّال الفلسطينيّين والسوق “الإسرائيلية”، وبَتر كلّ إمكانيّة لوجود تنوّع ثقافيّ، أمام تشدّدها اليهوديّ الكبير .

يعرض حالة القدس الشرقيّة قبل إنشاء الجدار، لما كان لها من دور اقتصاديّ، في الربط بين الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة و”إسرائيل”، وكانت “إسرائيل” تعتبرها جزءاً من أرضها لأغراض إداريّة، مع عدم منح المواطنة للفلسطينيّين المقيمين فيها .

يحدّد هيفير نماذج مختلفة من المواطنين في القدس، من خلال الاختلاف في بطاقاتهم الشخصيّة التي يحملونها، يقسّمهم كالتالي:

1- اليهود “الإسرائيليون” المتمتّعون بأعلى مستويات الحقوق المدنيّة، والنفوذ الاقتصاديّ ضمن المجتمع “الإسرائيلي”، وبشكل خاصّ في القدس، يحمل هؤلاء البطاقات الزرقاء، التي يحقّ لأيّ يهوديّ في العالم الحصول عليها .

2- مواطنو “إسرائيل” الفلسطينيّون الذين تشكّل نسبتهم ما يقدّر ب 20% من السكّان في “إسرائيل”، حيث ظلّوا هناك بعد عمليّة التطهير العرقيّ ،1948 وحصلوا على المواطنة، ولا يزالون يعانون من التمييز العنصريّ .

3- سكّان القدس: يحمل سكّان القدس الشرقيّة الجنسيّة الأردنيّة منذ ،1967 وبعد الاحتلال حصلوا على الإقامة الدائمة في “إسرائيل”، ولا يحقّ لهم التصويت بها، كما لا يحصل أبناؤهم على الجنسيّة أيضاً .

4- الفلسطينيّون الذين يعيشون في الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، الذين لم يحصلوا على الإقامة “الإسرائيلية”، يخضعون للحكومة “الإسرائيلية” تحت إدارة السلطة الفلسطينيّة، وليست لهم حقوق في “إسرائيل” برغم العمل داخلها وداخل المستوطنات، وهؤلاء يحملون البطاقات الخضراء والبرتقاليّة التي تدلّ على أنّهم ليسوا من مواطني “إسرائيل” .

ثمّ ينتقل إلى الأسباب التي أدّت إلى إقامة جدار الفصل، الذي طرح فكرته رئيس الوزراء إسحاق رابين سنة ،1992 وتمّت الموافقة على إقامته سنة ،2001 بعد عمليّة انتحاريّة في نادٍ ليليّ أسفرت عن مصرع 22 شخصاً “إسرائيلياً”، وسط الكثير من المعارضات الشديدة من قبل المنظّمات الدوليّة لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى المستوطنين الذين وجدوا أنّ نمط حياتهم سيتغيّر بشكل كبير، لكنّ “إسرائيل”، وسط كلّ هذا الرفض الشديد، لم تتخلَّ عن قرارها في إقامة جدار الفصل، مدّعية أنّه مؤقّت .

وأمّا هذا الجدار فيأتي على شكل ظرف ورقيّ، حيث يحيط بالقدس من الشمال والجنوب والشرق، ويقدّر طوله ب 90 كم، بُني في المناطق الحضريّة من الإسمنت، وفي المناطق الريفيّة تمّ وضع سياج إلكترونيّ عليه، كما أنّ أغلب الجدار يتراوح طوله في القدس ما بين 6 - 8 أمتار، وله ستّون بوابة، ثلثها مخصّص للفلسطينيّين، وفي القدس وحدها اثنتا عشرة بوابة، يسمح للفلسطينيّين بالعبور من أربع منها فقط . يجد هيفير أنّ الجدار فرض قيوداً قاسية على حركة الفلسطينيّين، وجرّدهم من الإقامة لمنع تحرّكهم بحرّيّة في القدس الغربيّة و”إسرائيل”، كما منعهم من التواصل الحرّ مع الفلسطينيّين في قطاع غزة، من دون اعتبار لحقوق الإنسان التي تنصّ على حرّيّة التنقّل والهجرة . .

في مجال التعليم، قلّل الجدار فرص التعليم للأطفال، ويقدّر الكاتب عدد الطلاب خارج الجدار بخمسة عشر ألف طالب، ولهم الحقّ في الدراسة داخل الجدار، لكنّ نقاط التفتيش تجعل مجيْئَهم صعباً وقاسياً وحافلاً بالمخاطر، ويلاحظ أنّ لهذا تأثيراً كبيراً للغاية على مستقبل التعليم في القدس الشرقيّة . ويتطرّق كذلك إلى تدهور الخدمات الصحّيّة، لما تشكّله نقاط التفتيش من عائق أمام المسنّين، والمصابين بالأمراض المزمنة، والنساء الحوامل، كذلك تأخّر سيارات الإسعاف عندها، بالإضافة إلى معاناة المشافي من أزمات ماليّة، بسبب عدم قدرة المرضى على الدفع، لما خلقه الجدار من انعدام فرص العمل، ومساهمته في انخفاض مستوى المعيشة، حيث لم يعد الفلسطينيّون قادرين على الشراء من داخل منطقة الجدار، بسبب الأسعار الباهظة للموادّ الغذائيّة والبضائع، وفرضت على التجّار قيوداً كثيرة، وانخفضت حركة التسوّق في المدينة القديمة وشارع صلاح الدين، في وقت كانت فيه من أهمّ مراكز التسوّق في القدس .

بعد تعمّق الباحث في تأثيرات الجدار على الحياة العامّة، يدرك أنّه بُني لخلق تقسيم بين المجموعات الإثنيّة، وفصل الفلسطينيّين عن اليهود، وتزويد شركات البناء بمشاريع عمرانيّة، وتأمين حياة أسهل للمستوطنات، كما يظهر ادّعاءات “الإسرائيليين” على أنّه نوع من التحصين ضدّ الفلسطينيّين الحاقدين، ووضع حاجز هو ضرورة لدرء خطرهم . لكنه يؤكّد أنّ هذا الجدار هو نوع من التحجير والتقييد على الفلسطينيّين، نافياً تصريحات المسؤولين “الإسرائيليين”، موضّحاً مدى تجاوزات “إسرائيل” في استباحة الأراضي الفلسطينيّة، وانتهاكها للاتّفاقيات الدوليّة .

وفي نهاية هذا الفصل الذي يوضّح فيه الكاتب معاناة الفلسطينيّين بسبب جدار الفصل، يُبرِز الأضرار الاقتصاديّة التي تكبّدتها مدينة القدس، كونها المنطقة الحضريّة، التي تشكّل تجمّعاً كبيراً، وقدّر نسبة الأضرار ب 200 مليون دولار أميركيّ سنويّاً، وهو عبء ثقيل على اقتصاد المدينة، ويجده تهديداً عظيماً على تماسُك “إسرائيل”، لما يسبّبه من توسيع الفجوات بين الفلسطينيّين و”الإسرائيليين”، وزيادة الديون الاقتصادية الفادحة ل “إسرائيل”، كما يشير إلى إمكانيّة مطالبة الفلسطينيّين بتعويض، بعد أن أعلنت محكمة العدل الدوليّة عدم شرعيّة الجدار، ويمكن أن يكون ذلك عاملاً قويّاً في تدهور الحلول السياسيّة بين “إسرائيل” والفلسطينيّين بخصوص إقامة مدينة ثنائيّة القوميّة، يعيش فيها الفلسطينيّون واليهود، مع منح حقوق المواطنة، واعتبارها عاصمة للدولتين تحت رعاية وكالات أمنيّة دوليّة . لكنّ الكاتب يخلص إلى أنّ أحلام الأجيال القادمة من الفلسطينيّين بعالم أفضل تتمزّق وتذهب أدراج الرياح، لما تمارسه “إسرائيل” من سياسات تعسّفيّة يندى لها جبين الإنسانيّة خجلاً .
الاقتصاد السياسي للاحتلال "الإسرائيلي" ... الحلقة الأخيرة آخر تحديث:الجمعة ,19/11/2010
القمع ما وراء الاستغلال


تخريب الاقتصاد الفلسطيني يسهم في زيادة دخل "الإسرائيليين"

يختلف هذا القسم الذي يحتوي على الفصل السابع بعنوان: (ما وراء الاستغلال)، والفصل الثامن بعنوان: (التحليل النظريّ وثنائيّة القوميّة) عن الفصول الأولى من الكتاب، حيث كانت الأولى وصْفيّة في طبيعتها، تتعامل مع بعض وجوه اقتصاد الاحتلال، أمّا هنا فإنّ الباحث يتطرّق إلى ما يمكن استخلاصه من الحقائق التي قدّمها وناقشها، وكيفيّة ترتيب هذه الحقائق بشكلٍ منظّم في فهم نظريّ لاقتصاد الاحتلال، مع محاولة تصنيف أسباب استمرار الاحتلال، على الرغم من تكاليفه الباهظة على الاقتصاد “الإسرائيلي” .

ما وراء الاستغلال

يجد الباحث أنّ الكثير من “الإسرائيليين” دفع ضريبة كبيرة، نتيجة سياسات “إسرائيل” في احتلال الأقاليم الفلسطينيّة، مع ذلك، يظهر أنّ الطبقات الدنيا في “إسرائيل”، تلك التي تعاني وطأة التكاليف الاقتصاديّة للاحتلال، لا تصوّت لإنهاء الاحتلال، وإعادة توزيع الموارد العامّة واستثمارها في المشاريع المدنيّة، وعلى النقيض منها، فإنّ الطبقات العليا التي لا تحتاج إلى التغيير بسرعة، كونها لا تعاني ضغوطاً ماليّة، تميل بشكل أكبر إلى تأييد الأحزاب والتصويت لها في دعم قرار الانسحاب من الأقاليم الفلسطينيّة .

يرى أنّه قد تمّ أخذ الاحتلال كمشروع من قبل “إسرائيل”، لكن التكاليف الكبيرة للمشروع تفترض جدلاً سؤالاً: لماذا تصرّ الحكومة “الإسرائيلية” على احتلال الأقاليم الفلسطينيّة؟ ويجد أنّ الأجوبة إمّا تبريريّة دفاعيّة، بناءً على الإرث الدينيّ في الدعوة إلى أرض “إسرائيل”، التي تجمع اليهود من كلّ أنحاء العالم، وتكون حدودها من النيل إلى الفرات، لكن برأيه مع التوسّع الإقليميّ يحدث إضعاف لهذه “الدولة اليهوديّة”، وإمّا تكون الأجوبة انتقاديّة تشرح الكسب الماديّ من وراء الاحتلال، والتي بيّنها الكاتب في الفصول الأولى من خلال التكلفة القليلة للاحتلال والفوائد الكثيرة حتّى ،1967 لكن يجد أنّ الفترة التي تلتها كانت مُكلفة أكثر من الكسب المادّيّ الذي كانت تحصل عليه، ويتساءل عن سبب الاستمرار في الاحتلال .

ولفهم هذا الخيار اللاعقلانيّ بشكل أكبر، يمضي الكاتب إلى ما وراء الشروحات التقليديّة، حيث يعرض بعض النظريات الاجتماعيّة التي تلقي الضوء على الاحتلال، وتبيّن التناقضات الواضحة في سياسات “إسرائيل”، وهذه النظريات هي ل(ثورستن فيبلن، وبيير بورديو، وأمارتا سين)

نظرية ثورستن فيبلن

يعرض الكاتب النظريّة الأولى لثورستن فيبلن الأب المؤسّس لمدرسة الاقتصاد السياسيّ التأسيسيّة، حيث يجد أنّ إنجازاته تتميّز بعمقها ونضجها وفهمها للمجتمعات البشريّة عبر التاريخ، وعلى الرغم من أنّه طوّر نظريته قبل عقود من احتلال “إسرائيل” للأقاليم الفلسطينيّة، إلاّ أنّ بعض رؤاه تسلّط الضوء على الاحتلال وأسباب استمراره، ويختار هيفير من نظريّته الاقتصاديّة الشاملة مفهومين محدّدين فقط، هما: “الاستهلاك الواضح” و”التخريب”، كلاهما يتعلّق بإضاعة الموارد الاقتصاديّة، واختبار الأوضاع الاجتماعيّة العنيفة، واحتلال الأقاليم الفلسطينيّة من قبل “إسرائيل” .

يبدأ هيفير بعرض موجز للمفهوم الأوّل “الاستهلاك الواضح” كما يلي: يقسّم فيبلن أدوار البشر بين “الإنتاج” و”الافتراس”، حيث يجد أنّ المجتمعات البشريّة عندما تنتج فائضاً، يصبح أعضاء المجتمع “مفترسين”، ينقضّون على الفائض الذي ينتجه الآخرون . ويجد أنّ المؤسّسات الاجتماعيّة مثل العسكريّة منها والدينيّة، والمتعلّقة بالأزياء والتعليم العالي والحكومات، كلّها مؤسّسات “الافتراس” تخدم استهلاك الفائض بتعزيز الحالة الاجتماعيّة، ويلاحظ في نظريّته أنّ الناس يتجنّبون استخدام وقتهم في الإنتاج، ويستنتج أنّ هذه المؤسّسات تساعد في السيطرة على الإنتاج الصناعيّ وتقييده . والناس، بدلاً من السير وراء الثروة المادّيّة واتّخاذها هدفاً لهم، يجدون أنفسهم في علاقة مع الآخرين، وما يهمّهم ليس الثروة الماديّة، بل الثروة التواصليّة، والكفاح لزيادتها مع الحالة الاجتماعيّة، من خلال المؤسّسات المذكورة أعلاه، التي ينتميّ إليها الشخص، ويكون في كفاح مستمرّ للانتماء إلى أكثرها هيبة وتقديراً .

يجد هيفير أنّ احتلال “إسرائيل” للأقاليم الفلسطينيّة يبدو في الحقيقة مثل تمرين في الإنفاق الذي يمكن رؤيته ك”استهلاك واضح”، أي وسيلة لشراء الحاجات الاجتماعيّة (ليس الكسب المادّيّ والعمالة الرخيصة)، كما يجد أنّ الكولونياليّين يستمتعون حقّاً بصورة الثروة، حتّى لو كانت التكاليف تؤثّر مستوى معيشتهم .

أمّا المفهوم الثاني لنظرية فيبلن فهو “التخريب”، ويجده هيفير من أكثر المفاهيم ارتباطاً بالاحتلال “الإسرائيلي” والأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، ويوجز هيفير تعريفه وآراءه: “بأنّه نشاط يدمّر أو يعيق إنتاج الثروة، باستخدام وسائل عنيفة، ليست كأدوات الحرب أو غير شرعيّة، وسبب هذا الدمار هو إعادة توزيع الثروة، وتكون لديها القدرة على زيادة قيمة أحجام الثروة المتبقّية من الدمار، ويرى فيبلن “التخريب” ضرورة للربح، كما يجد أنّ الصناعة متنازعٌ عليها مع الربح، لأنّها تعني الإنتاج بالأشكال كافّة، وليس بالضرورة الإنتاج الصناعيّ” .

ويبيّن أنّ العلاقة الجدليّة بين الصناعة والربح يمكن فهمها من خلال فحص نمطين متطرّفين: وهما (لاصناعة وصناعة في أعلى درجاتها)، ففي حال عدم وجود الصناعة، ليست هناك منتجات أو سلع، بالتالي لا يوجد ربح . وفي حال وجود الصناعة بدرجات عالية، تخفض المنتجات والسلع إلى الصفر، بالتالي من دون القيمة لا وجود للربح، ويجد أنّ لها تشابهاً مع النظرية الكلاسيكيّة الحديثة عن الاحتكار، حيث تحدّد هذه النظرية الإنتاج للحصول على سعر أفضل لبضائعهم، ويمكن النظر إليها كنوع من “التخريب”، لكن نظرية فيبلن، بحسب رأيه، تناقش الاقتصاد ككلّ، والثانية تركّز على الشركات الفرديّة .

ومن المهمّ برأي هيفير أنّ فيبلن لا يرى “التخريب” مقصوراً على رجال الأعمال والرأسماليّين، بل يجده عند العمّال، حيث يستخدمون “التخريب” لزيادة قيمة عملهم، مثل القيام بالإضراب عن العمل . ويلاحظ أنّ امتداد سلطة “إسرائيل” إلى الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، قد مكّن رجال الأعمال والعمّال “الإسرائيليين” من تخريب الإنتاج الفلسطينيّ، وضمان تفوّقهم الاقتصاديّ، من خلال منع التنمية الاقتصاديّة داخل الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، إضافة إلى وضع تقييدات على أجور اليد العاملة، وهذه التقييدات أسهمت في زيادة الدخل عند “الإسرائيليين” .

أمّا المقاومة الفلسطينيّة، حسب ما يقوله هيفير، ليست شكل “التخريب”، حيث ترفض الاحتلال “الإسرائيلي”، وتسعى إلى إعادة صياغة الظروف الاقتصاديّة، والسياسيّة، والقانونيّة في الأقاليم المُحتلّة، وبرأيه أنّ المقاومة الفلسطينيّة قادرة على إضعاف جهود “الإسرائيليين” في إعادة التوزيع، وجعل “التخريب” “الإسرائيلي” فيما يتعلّق بزيادة الدخل من دون جدوى . ويجد أنّه رغم ذلك تستمرّ السلطات “الإسرائيلية” في زيادة حدّة صراعها مع المقاومة الفلسطينيّة .

ويتطرّق الكاتب إلى حديث الكتّاب الماركسيّين عن الاحتلال “الإسرائيلي” في الأقاليم الفلسطينيّة من أمثال: مروان بشارة، جيك بوير، أفريم ديفيدي، جيف هالبر، أميرة هاس، يغيل ليفي، سارا روي، ويخلص من مقارناته لدراساتهم إلى أنّ الحديث الماركسيّ يسعى إلى تحليل الاحتلال والصراع بين “إسرائيل” والفلسطينيّين، ليس فقط كصراع قوميّ، بل كتوضيح لصراع الطبقات، ويجد أنّ هناك تحدّياتٍ للتفكير الماركسيّ تتعلّق بالاحتلال أوّلها: الخاصّية “الإسرائيلية” في ميل الطبقات الدنيا للتصويت ضدّ مصالح طبقتها، وهذه ليست قضية ثانويّة يمكن تجاهلها، لأنّها تعدّ من أحد الأسباب التي تلعب دوراً كبيراً في الشلل السياسيّ، في المفاوضات بين “إسرائيل” والفلسطينيّين، ويُبقي المفاوضين في مماطلة مستمرّة . وتتمثّل الثانية في بروز الاستغلال في العلاقات الاقتصاديّة بين “إسرائيل” والفلسطينيّين، وذلك لإنتاج الربح للرأسماليّين، الذي يكون واضحاً في علاقات الإنتاج، وهو جزء رئيسيّ لاغنى عنه في نظرية ماركس عن الرأسماليّة .

نظرية بيير بورديو والاحتلال

النظرية الثانية هي لبيير بورديو، ويجد الكاتب أنّ نظريّته متأثّرة بشكل كبير بنظرية فيبلن، حيث يبنيها على مفاهيم الحالة الاجتماعيّة والتسلسل الهرميّ ورأس المال الرمزيّ، لوصف الحقائق الاقتصاديّة، كما يجد أنّ عمله مهمّ في الكشف عن مدى تشكيل الهويّة مصدر قوّة، يحصل فيها الفرد على الهيبة، وركّز بشكل رئيسيّ على الحالة المهنيّة، بغضّ النظر عن الدخل الذي يتلقّاه الفرد .

يجد هيفير أنّ بورديو يرى أنّ الاحتلال ظاهرة معقّدة، تتحدّى أيّ تفسيرات مبنيّة على قرار عقلانيّ يتّخذه الأفراد الساعون إلى الربح . لذلك يجد أنّ الاحتلال يتطلّب نظريّة أكثر تعقيداً، لصياغة فهم واضح عنه، حيث يرفض، في تصويره التسلسل الهرميّ الاجتماعيّ في المجتمع الحديث، تفسيرات الليبرالية الجديدة، والماركسيّة، كما يزعم بورديو أنّ الماركسيّة تميل إلى المبالغة في تقدير أهمّيّة الطبقات، والشكل الاقتصاديّ الذي يختزل كلّ طور من الوجود الاجتماعيّ في مستوى علاقات الإنتاج، مع تجاهل الأطوار الثقافيّة والاجتماعيّة المعقّدة الفهم، حتّى أنّه كتب: “تشكّل الماركسية العائق الأكبر في وجه التطوّر المعاصر للنظريّة الاجتماعيّة المعاصرة” .

ويرى هيفير أنّ بورديو يعرض نظرية اجتماعيّة اقتصاديّة، لا تقلّل من أهمّيّة التفكير الاقتصاديّ، بل تذهب إلى المعنى المقصود بالاقتصاد، حيث يراه الحقل الذي تتصارع فيه كلّ المصالح، وبرأيه يرفض بورديو فكرة الطبقة الثنائيّة البعد، حيث يجد الطبقات مرتّبة من الأعلى إلى الأسفل في ترتيب دقيق، ويقترح بعداً ثالثاً “الفراغ الاجتماعيّ”، حيث تكون القضيّة الاقتصاديّة أو الصراع الطبقي موجوداً، لكن وسط العديد من القضايا في محور واحد، ويرى أنّ رأس المال، ليس رصيداً مادّيّاً فحسب، وإنما ثقافي واجتماعي ورمزي .

يؤكّد هيفير خلال بحثه هذا، إنّ هدفه ليس مناقشة نظرية بورديو لحلّ كلّ الأسئلة النظريّة الناشئة من دراسة سوسيولوجيّة الاحتلال، وأنّ فكرة بورديو ربما تتوسّع لتدمج مبدأ التعويض، لنقص نمط محدّد بالتركيز على التراكم على مبدأ آخر، فعندما يزداد عرض رأس المال الاقتصاديّ، ربّما يحدث طموح لبعض الجماعات نحو رأس المال الرمزيّ والثقافيّ، ويرى أنّه ربما يميل بعض الناس إلى نمط حياة دينيّة متزهّدة لإبراز تقواهم كنوع من رأس المال الرمزيّ . لكنّه في النهاية يجد أنّ نظرية بورديو تنطوي على بعض التشويش، على الرغم من جهوده في نظرية التسلسل الهرميّ، والأبعاد الثلاثة التي تفتقد إلى القوّة الوصفيّة في العلاقة مع الزمن، البعد الرابع .

نظرية أمارتا سين

أمارتا سين، الحائز جائزة نوبل، والمعروف على نطاق واسع، نظريّته مقبولة أكثر من نظريتي بودريو وفيبلن عند هيفير، وعلى الرغم من أنّ سين بدأ مهنته كاقتصاديّ عامّ، لكنّه طوّر نظريته للطريقة الكلاسيكيّة الحديثة، والليبراليّة الجديدة في التعامل مع الجوع والفقر، ويرى أنّ عمله مرتبط جدّاً مع الوضع الفلسطينيّ، وبشكل خاص قضيّة المساعدات الدوليّة .

يجد هيفير أنّ أهمّ ما يميّز نظريّته في دراسة الفقر والمجاعة، هو أنّ الجوع عنده نتيجة الوضع الذي لايجد فيه الناس الطعام أكثر من وضع وجود الطعام، ويؤكّد مايقوله سين: “إنّه على الرغم من ارتفاع معدّل الطعام لكلّ فرد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لكنّ المجاعة والموت كانا بازدياد أيضاً، كما أنّ مخازن الطعام لا تعاني من نقص الطعام فقط، بل تعاني من الصعوبات الكبيرة في شراء كمّيّات محدّدة من الطعام” . كما يؤكّد سين مقولة لإم رين: “يجب ألا يسمح بأن يعاني الناس من الجوع، لأنّهم يصبحون عدائيّين، ويؤذون المجتمع”، حيث يرى أنّ الفقر شيء عدائيّ على الفقراء وغير الفقراء معاً، ويخلخل صورة المجتمع، والناس الأغنياء في مجتمع عديم المساواة، ربّما يظهرون متّسمين بالقسوة في عيون الفقراء .

يؤكّد هيفير أثناء مناقشته لنظرية أمارتا سين أنّ الفلسطينيّن فقدوا الكثير من رأسمالهم الإنسانيّ في ظلّ هذا الاحتلال، ويجد أنّهم لا يستطيعون تبادل عملهم بالطعام فترة أطول، وببساطة شديدة، لأنّهم لا يستطيعون الوصول إلى مكان العمل، وهذا لا يقيّد قدرة الفلسطينيّين على الاستهلاك، بل يوجّه لهم ضربة في كرامتهم، ويطعن إحساسهم بقيمتهم الذاتيّة . وأنّ تلقّيهم هذه المساعدات الدوليّة يشكّل تدميراً لرأسمالهم الرمزيّ، ومردّ ذلك أنّهم لا يملكون أيّ شكل من أشكال الدخل تقريباً، حيث تشكّل المساعدات ما يقارب 50 % من الدخل القوميّ الإجماليّ، وما حفاظ “إسرائيل” على هذه المساعدات إلاّ حرص منها على استغلال الأرباح التي تجنيها من هذه المساعدات الدوليّة .

ومن خلال المناقشات التي أجراها داخل نظرية أمارتا سين، يجد أنّ المجتمع الفلسطينيّ لا يزال يتمتّع بالقوّة للوقوف في وجه الاحتلال، بسبب هويّته الدينيّة والقوميّة . وأنّ عدم حدوث الكوارث الإنسانيّة والمجاعات يرجع إلى وجود نوع من التماسك الاجتماعيّ .

يذكر هيفير أنّ “إسرائيل” نشرت العديد من المقالات في صحفها وإعلامها اليوميّ، عبّرت عن نزعتها الإنسانيّة، في سماحها بدخول شاحنات المساعدات الإنسانيّة إلى قطاع غزّة، وأظهرت نفسها بصورة الديمقراطية، والرحمة تجاه مَن يعادونها ويسبّبون لها القلق، مخفية حجم الأرباح التي حصدتها من هذه المساعدات، والمبالغ التي دفعت لها .

لكن برأيه ما يعيق نظرية أمارتا سين هو أنّ هذه المساعدات لا يمكنها أن تسهم في تحسين الأوضاع على المدى الطويل، فقط تسهم في حمايتهم من المجاعات، ويجد أنّ التماسك الاجتماعيّ نافع بشكل كبير، وهذا الجانب أهمل عند فيبلن .

الاحتلال أمام احتدام النظريات

ينتقل هيفير بعدها إلى النظرية التأسيسيّة، من خلال مقال لبول هومان 1932 بعنوان “تقدير الاقتصاديّات التأسيسيّة”، حاول بول أنّ يعرّف فيها فكر مدرسة الاقتصاد التأسيسيّة، لكن هيفير يرى أنه بالرغم من أنّ فيبلن كان الأب المؤسّس لهذه المدرسة الاقتصاديّة، فإنّ كتابته مختلفة تماماً عمّا يكتبه الاقتصاديّون التأسيسيّون، ويضيف من خلال مناقشاته بأنّ فيبلن ماركسيّ، ويجري مقارنات بين فكره وفكر ماركس في ما يتعلّق بالطبقة العاملة ومبدأ “التخريب”، كما يتحدّث عن تأثر فيبلن بكتابات معاصريه، وخاصّة هيربرت سبنسر، آخذاً منه أنّ فكرة التطوّر يمكن أن تستخدم لوصف تطوّر المجتمعات البشريّة، وليس فقط للكائنات الحيّة، كما يشير إلى انتقاد فيبلن اقتصاديّات الكلاسيكيّة الحديثة كعلم غير تطوّريّ، وأنّ الاقتصاديات هي طريقة محدّدة في التفكير، بينما التاريخ نفسه عملية متغيّرة . ويذكر أنّ فيبلن لم يستمرّ على منهج سبنسر، بل شقّ طريقاً آخر، رأى فيه أنّ الاقتصاد الحديث هو ازدياد للبربريّة .

ويتطرّق في نهاية هذا الفصل المعمّق إلى نظرية شيمشون بيجلر وجوناثان نيتزان، على الرغم من أنّ هذين الاقتصاديّين من أتباع المدرسة التأسيسيّة، فإنهما يرفضان تعريف نفسيهما بالانتماء إليها أو إلى أيّ جنس اقتصاديّ آخر . يركّزان في عملهما على فهم صراعات الشرق الأوسط والمصالح الاقتصاديّة المحيطة بها، وكلاهما يتبع مبدأ أنّ رأس المال علاقة اجتماعيّة . لكنّهما يذهبان أبعد من ذلك، في أنّ رأس المال هو تخصيص القوّة والحقوق، وبشكل خاصّ حقّ الملكيّة في أيّ نوع من الخدمات والمنتجات، ويجدان أنّ ماركس رأى الأزمة الاقتصاديّة كمصدر للسقوط النهائيّ للمجتمع الرأسماليّ .

يرى هيفير أنّ بيجلر ونيتزان يزعمان أنّ في داخل “إسرائيل” طبقة متحكّمة على مدى فترة طويلة، يتركّز الاقتصاد بيدها، ويؤكّد أنّه في نهاية القرن العشرين، أصبحت هذه الطبقة المتحكّمة محصورة على عدد محدود من الأفراد والعائلات التي تملك تقريباً إجماليّ الاقتصاد “الإسرائيلي” . ثمّ يتوسّع هيفير أكثر في المراحل التاريخيّة التي ناقشها نيتزان وبيجلر، ويدعم حديثه بجدول بيانيّ، يوضّح فيه بشكل كبير ومفصّل نقاط النزاع والخطر . كما يستمرّ في عرض الأسئلة التي طرحها بيجلر ونيتزان حول أسباب هجوم “إسرائيل” على الدول المجاورة والفلسطينيّين، على الرغم من فشلها في تحقيق الأهداف الأمنيّة التي ادّعت أّنّ هجماتها من أجلها .

التحليل النظريّ وثنائيّة القوميّة

في هذا الفصل يتحدّث الباحث عن التحاليل النظريّة للاحتلال، والاشتراك الدوليّ فيه، كما يتحدّث عن المفاوضات وجمودها، إضافة إلى الحلول في إقامة دولة واحدة للفلسطينيّين و”الإسرائيليين” معاً، أو دولتين تحت سقف واحد من العدالة، ويستكمل حديثه في السيناريوهات التي تضعها “إسرائيل” في نزاعها واحتلالها .

على الرغم من أنّ “إسرائيل” هي من بين دول العالم الأكثر صغراً، إلاّ أنّها تقع في محور المصالح الدوليّة المتزامنة مع بعضها بعضاً، ويجد هيفير أنّ ما وراء موقعها الاستراتيجيّ أهمّيّتها الرمزيّة بعد الحرب العالميّة الثانية بشكل خاصّ، حيث سنحت لها الفرصة لتستردّ من أوروبا جرائم المحرقة، وتقدّم لها مواثيق بإنشاء دولة عرقيّة لها، وكانت الحركة الصهيونيّة ناجحة في استغلال سياسة العقوبات والتكفير عن الذنوب بعد الحرب العالميّة الثانية التي أقنعت قادة العالم بإنشاء دولتها اليهوديّة في 1948 .

يقوم هيفير بعدها بسرد تاريخيّ عن سياسات “إسرائيل” منذ بدايات نشوئها، وأسباب توجّه الحركة الصهيونيّة إلى المساعدات الأوروبيّة والأمريكيّة، كما يوضّح توجّه “إسرائيل” إلى المفاوضات مع القيادة الفلسطينيّة، وذلك لإيجاد مكان لها في السوق الدوليّة، ويلاحظ أنّ “إسرائيل” في مجمل تصريحاتها تستخدم التبرير لأفعالها تجاه الرأي العامّ العالميّ، كما يبيّن التسويق الكبير الذي قامت به “إسرائيل”، في إظهار نفسها على أنّها محصّنة أمنيّاً، وسط أعدائها، ويجد أنّ لإعطاء هذه الصورة أهمّيّة اقتصاديّة كبيرة، لما فيها من ترويج لصناعتها الأمنيّة والعسكريّة، رغم أنّها تفقد بذلك جزءاً من المساعدات على المستوى الدوليّ .

ويعرض سياسات “إسرائيل” التي اتّبعتها بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، واتّخاذها تدابير دفاعيّة ضدّ الفلسطينيّين، من بينها البدء ببناء جدار الفصل العنصريّ، إذ صرّح إيهود بارك؛ رئيس الوزراء حينها، بأنّ الجدار وسيلة لحماية المواطنين، وهو نموذج أمنيّ قابل للتصدير إلى بلدان أخرى في العالم .

يرى هيفير أنّ المفاوضات بقيت في حالة جمود، بسبب الخلافات الكبيرة على القضايا الكبرى، مثل عودة اللاجئين الفلسطينيّين إلى أراضيهم، والقبول بانسحاب “إسرائيل” إلى حدود ،1967 كما يرى أنّ “إسرائيل” ترفض الحلول بإقامة دولة مبنيّة على العدالة والحفاظ على حقوق اليهود والفلسطينيّين، أو الحلول بإقامة دولتين عاصمتهما القدس، تديرها وكالات دوليّة، ذلك أنّ أيّاً من هذه الحلول سيكلّف “إسرائيل” الكثير من الأضرار الاقتصاديّة، من تعويض المستوطنين الذين سيتمّ إخلاؤهم من الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، إلى تعويض كامل للفلسطينيّين الذين تمّ تهجيرهم منذ عقود، أو ممّن عانوا من الاضطهاد داخل “إسرائيل” .

يشير الكاتب في النهاية إلى التكاتف الدوليّ مع الفلسطينيّين، وتأييد حقّهم في النضال من أجل الحرّيّة، وذلك من خلال مايقوم به الناشطون الدوليّون من احتجاجات أمام السفارات “الإسرائيلية” في كلّ دول العالم، وذهابهم إلى الأقاليم الفلسطينيّة المُحتلّة، للانضمام إلى الاحتجاجات السلميّة غير العنيفة، لإبراز تعاطفهم . ويرى هؤلاء أنّ الكفاح غير العنيف يمكن أن يكون له تأثير فعّال على “إسرائيل”، وأنّ العيش في إطار سياسيّ مشترك لا يعني أنّ حقوق الفلسطينيّين ستنتهك .

يعيش شير هيفير ويعمل في “إسرائيل”، وخلال عمله في دراسة الاحتلال، سافر إلى العديد من البلدان من بينها: كندا وبلجيكا وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والأردن، واليونان، وقطر، وإسبانيا، والسويد، وسويسرا، وتايلند، والولايات المتّحدة وفنزويلا . وما أدهشه حقّاً، حين لقائه العديد من الناشطين والسياسيّين والعلماء، وحتّى ذوي العقول المنفتحة، مدى أهمّية الصراع “الإسرائيلي” الفلسطينيّ، ورأى في هذه الأماكن كلّها أنّ الناس يكرّسون أوقات فراغهم، وطاقاتهم كلّها، وبعض الأحيان أموالهم، ليظهروا تكاتفهم مع الكفاح الفلسطينيّ، ويشير إلى أنّ هؤلاء الناس ليسوا لاجئين فلسطينيّين، بل من أصول وأعراق مختلفة يناصرون القضايا الإنسانيّة . كما يشير إلى أنّ الناس عندما توجّه إلى إسبانيا في عام ،1930 للتطوّع لإيقاف التعصّب العنصريّ في الحرب الأهليّة الإسبانيّة، لم يكونوا متعاطفين مع إسبانيا، بل رأوا أنّ من واجبهم إيقاف التعصّب العنصريّ والحدّ منه قدر المستطاع .

يطالب الباحث شير هيفير، اليوم، بعمل الشيء نفسه من أجل فلسطين، ليتخلّص أبناؤها من القمع والاستغلال، كما يعبّر عن أمله في أنّه أسهم بكتابه هذا في إجلاء الحقائق، متمنيّاً انتهاء الاحتلال، والدولة اليهوديّة والعنف، وإبدال دولة ديمقراطيّة بها، تمثّل جميع من يحيا في المنطقة التي تحكمها “إسرائيل” حالياً .
المصدر
http://elw3yalarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=8970