منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 12

العرض المتطور

  1. #1

    قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    قصة قصيرة
    1- فانوس الإشارة
    بقلم : قحطـان فؤاد الخطيب
    juror.qahtan1@gmail.com

    شاءت الأقدار أن تختطف يد المنون قرينة قروي لم يملك من حطام الدنيا سوى ابنته الوحيدة (ع) ، ذات السبعة عشر ربيعا ، ومجموعة تعد بالأصابع من الماشية ، وأثاث قروي متواضع يتناسب مع كوخه في أسفل سفح جبل شامخ ، أواسط ثمانينيات القرن الماضي .
    وترك فراق الزوجة الأبدي أسً عميقاً لدى الريفي الأرمل ، مما جعله يسترسل في النوم الصباحي على غير عادته ، ضاربا أخماسا بأسداس ، ومهملا الحقل الذي يعتاش من مورده . وانتهت مراسيم العزاء ، وانقضت فترة ما تدعى بالأربعينية ، فإذا به متماد في تمرده على العمل ، رغم إلحاح ابنته على ضرورة ممارسته للحياة اليومية بصورة طبيعية ، معزية اياه بأن ما حصل قدر مكتوب ، أرادته السماء . بيد إنها كانت تتحسس كوامنه بذكاء ، وتتلمس مدى حاجته لنصفه الآخر ، مدركة ، بدهاء ، أن الحياة ترتكز على قطبين: إذ لا ليل دون نهار ، ولا شروق دون غروب . كان شديد الإصغاء لأفكارها الواقعية ، متوسما فيها كل خير ، محترما إياها كثيراً ، غادقا عليها جل حنانه ، معجبا بنضجها المبكر ، خصوصا عندما شنفت أسماعه في الآونة الأخيرة بضرورة زواجه . كانت تلح على هذا الموضوع . فما كان منه إلا أن قال:
    -" كيف أتزوج ، يا مدللتي ، وصورة أمك ما برحت شاخصة في ذهني ، ناهيك عن أنني لا أطيق رؤية حواء سواها ! ؟ "
    -" إنها سنة الله ورسوله . "
    -" ومن هي سعيدة الحظ تتزوج كهلا في خريفه الذهبي الستيني ؟ إنني ، يا (ع) ، طاعن في السن ، ولا أتحمل ، كما أسلفت لك سابقا ، رؤية أية أنثى تروح وتغدو في صحن الكوخ بعد أمك . "
    -" صحيح . . . . لكن إن لنفسك عليك حقا . "
    -" إذن ، أنت متحمسة للفكرة ، أليس كذلك ؟ ! "
    هز رأسه وسحب نفسا عميقا من غليونه التراثي ثم صمت برهة وراح مشدوها
    يتساءل :
    -" كيف ابدأ ؟ "
    -" تبدأ كما يبدا كل المنكوبين أمثالك. اذهب ، على سبيل المثال ، إلى صديق عمرك ، (س) ، واسترشد بآرائه ، أو فاتح المختار أو الشيخ ( . . . . . ) . "
    ثم ابتسمت وهي تكيل له المديح والتشجيع قائلة:
    -" انك لازلت شابا ، طافحا بالحيوية والطموح ، يا أبتي . أنسيت ابن عمك ( . . . ) ، حين تزوج وأنجب وهو في العقد الثامن من عمره ؟ ما رأيك بزوج خالتي ( . . . . ) ، ألم يتزوج وهو مشارف على الثمانين ؟ و . . . . و . . . . .
    -" إذن ، لأجرب حظي وأذهب إلى جاري (س) ، فربما يسعفني في حل معضلتي إن كان لها حل !"
    وما أن أسدل الليل خيوطه حتى كان أبو (ع) يطرق باب جاره ، إلا انه لم يكن هناك ثمة جواب . فاقفل راجعا . بيد أن صوتا أنثويا رقيقا دار عنقه عنوة ، جاعلا إياه يعود صاغرا إلى الوراء ، كأنه وقع في مجال مغناطيسي لا فكاك منه . وهناك سأل عن السيد ( . . . . ) ، فأخبرته بلهجة ريفية مميزة بأنه يغتسل الآن . وإن شاء فلينتظر خارجا .
    وفيما ذهبت لتبلغه بقدوم الضيف ، استرجع ذاكرته المشوشة . فإذا به طريدة جاذبيتها. والتفت يسارا ويمينا بشكل لا إرادي ، تتراقص في مخيلته أسئلة فجائية عمن تكون تلك الحسناء . وكم سيكون فردوسا لو شاطرته عشه ! و .... و ....
    مضت لحظات أنسته مصيبته وبعثت الدفء في قلبه إلى أن خرج الصديق الجار (...) ، حيث رحب به كثيرا وألح عليه في الدخول . وبعد ترحيب تقليدي حار سأله عن مبتغاة ، لكن الأخير أطبق صامتا . فعاد وسأله ثانية عن مبتغاه فأجاب قائلا :
    -" بصراحة ...... باختصار .... جئت أطلب العون منك ! أنت صديق العمر جئت أستشيرك في مسألة شخصية ولكن ، أرجو أن لا أكون مخطئا أن التي فتحت لي الباب هي كريمتك . وأنا … وأنا أريد القرب منك طالبا يدها . "
    أجابه ، بعد تردد وتأمل ، وكأن لسان حاله يقول :
    -" إلا إذا سمحت لي بالقرب منك وطلب يد ابنتك ، أيضا . فأنا أرمل مثلك ، وهما الوحيدتان لنا ."
    لم يطل الرد كثيراً ، فإذا به يقول : " موافق . "
    كان وقع الخبر على الشابة (ع) طبيعيا جدا ، رغم إجحافه لفارق السن . إذ تمنت من كل قلبها السعادة لأبيها المنكوب ، حتى ولو تم ذلك على حساب أنوثتها ومستقبلها ، فيما كان وقع الخبر على جارتها (د) أليما كالصاعقة . فهي مراهقة صلفة وعنيدة ، حباها الله سحراً فتاناً وجمالاً أخاذاً !
    ولكن إذا خطط الآباء في الريف فعلى الأبناء الطاعة ليس غير .
    دارت الايام ، وزفت العروسان الى بيت الزوجية ، كما تأقلمتا مع الجو الجديد رغم رتابته وروتينيته القاتلة :
    استيقاظ مبكر ، إعداد للفطور ، ذهاب الزوجين الى الحقول ، العودة منها ، تناول العشاء ثم الرقود الى النوم....حياة ميكانيكية محضة لا تليق بأنسان العصر الحديث .
    وفي إحدى الأمسيات الشتوية الحالكة الظلام ، وبينما كان ابو (ع) يغط في نوم عميق ، بعد عمل يوم مضن ، كانت تشاركه النوم في الحجرة المقابلة أمه المسنة ، ضعيفة البصر . وما أن انتصف الليل حتى أفاقت الزوجة المراهقة ، ومضت ، كعادتها ، بصمت نحو مجمع التبن الملاصق لغرفتها ، ورأسها مزدحم بالأفكار ، غير آبهة بالظلام الدامس ، والسكون الرهيب يلفها من جهاتها الأربع .
    كانت وجهاً لوجه أمام نقطة التحول واتخاذ القرار المصيري ، على غير ما ألفت
    سابقاً . تلفتت يميناً وشمالاً ، بحذر ويقظة ، وتطلعت الى السماء ، فإذا بها : .............. نجوم متألقة ، تعوم بغبطة ، مفترشة الفضاء ........ تشق عتمة السماء ، ونسيم عليل يداعب شعرها المنساب بدلع على جسدها .
    مدت يدها بغرور لألتقاط علبة كبريت . والتقطت أناملها الناعمة عود ثقاب بتثاقل وارتباك وكأنها تعلم ما يخفيه لها قدرها هذا المساء . أشعلت الفانوس وأنسلت الى بواية البئر العتيق ، محركة يدها المرتجفة يميناً وشمالاً ، مؤذنة برفع الستار عن الفصل الأول من التراجيديا . ثم أقفلت راجعة نحو غرفة التبن تاركة الفانوس منيرا .
    تسلم (دون جوان) ، الطرف الثاني ، الإشارة الفانوسية بان كل شيء على ما يرام . لقد أعياه السهر . وكأنه هو الآخر يحس أن ثمة مصيبة قد تقع اليوم . كان شاباً مفتول العضلات ، بدين البنية ، رياضياً بالفطرة . كان مشغول البال على مدار الساعة بسيدة كوخ جاره ، السيدة (........) . كان وسيماً ، ذا سحنة ملفتة النظر .............. .. تحرك من موقعه بصمت ورهبة في جنح الظلام . لم يتوقع ما يكدر صفوه في ذلك الليل ، الدامس الظلام .
    وصل الى غرفة التبن . وهناك التقى الخائنان . وكلاهما كانا يتوجسان شيئاً ما . في البداية قرر الأعتذار والعودة الى كوخه . لكن الجارة شيمته على البقاء ، مخففة عنه ، ومشجعة إياه . رقد الأثنان صامتين كصنمين حجريين دون حراك .
    وشاءت الصدف أن تفيق حماتها وتذهب الى دورة المياه . أطبق الصمت وساد
    السكون . تناولت العجوز الفانوس ومضت الى مبتغاها . وما هي إلا لحظات حتى عادت هي الأخرى مضطربة نوعاً ما وكأن عقلها الباطن باح لها بأن ثمة خطر في انتظارها . دفعها الفضول الى فتح باب التبن دون سابق تخطيط وكأن قدرها ساقها إلى حتفها . لدهشتها ماذا رأت ، وهي ضعيفة البصر ؟ قالت لنفسها في بحر ثوان " انهم لصوص ليس غير ! " ولم تتمالك نفسها البتة فطفقت تصرخ بشكل لاشعوري " أبو ..... السراق في دارنا ...... النجدة . "
    وهنا استجمع الجار القبيح قواه فسدد لها طعنة في صدرها ، دونما وازع أو رادع ، خرت على أثرها صريعة . وهنا دخل الزوج المخدوع ليستطلع الأمر . فماذا رأى ؟
    زوجته المصون وراء ابن الجار الخائن ! أمه العجوز مضرجة بالدم ، لا حول لها ولا قوة . قبل أن ينبس بكلمة واحدة وجه له ابن الجار الغادر طعنة نالت من رقبته ، خر على أثرها على الأرض . وهنا حفزت الزوجة الخائنة عشيقها على الانقضاض عليه والتخلص منه نهائياً . فكان لها ما أرادت .
    انتهى المشهد الدرامي بكل حيثياته . وماذا بعد ؟ ما العمل ؟ هنا أختلطت الأمور عليهما . قالت له : "تخلصنا منه وانتهى كل شيء . لنحتسي كأسينا " . وهنا حدث ما ليس في الحسبان . استرجع الشاب نفسه وأحس بالذنب العظيم . قاطعها قائلاً : " نعم انتهى كل شيء . ولكن ليمض كل واحد منا إلى سبيله . " أشعل سيكارة وسحب نفساً عميقاً جداً وتركها راجعاًً الى كوخه دون أي كلام .
    أنبلج الصباح ، وأنتشر الخبر، وتاه رجال الشرطة مذهولين : كيف حصل ما حصل ؟ ومن الفاعل والمستفيد ؟ أظهر التحقيق الأولي براءة الزوجة مما حصل . بيد أن القاتل الفعلي مضى إلى رجال الشرطة وأخبرهم القصة من الألف الى الياء . وهذا لا يعفيه من العقاب !
    اهتزت المنطقة لهول المصيبة . وتشتت أفكار الناس . وتعجبوا من أن ثمة سلوكاً منحرفاً انتقل إلى منطقتهم الآمنة كالفايروس القاتل . مارست الشرطة ورجال القضاء تحرياتهم الدقيقة واتخذوا القرارات الحاسمة . ومرت الشهور فإذا الحكم بالموت يطال المجرمين .
    وساعة التنفيذ أقترب مأمور السجن من القروي المدان سائلاً أياه عما يطلب . فأجاب : " لاشيء سوى سيكارة واحدة نوع كريفن أي " . وجيء له بها ، واستنشق آخر نفس عميق ، ثم استدار نحو المأمور قائلاً :
    " الموت بأنتظاري ، وأنــا لست خائفاً منه لأنني أقر بجريمتي ، وأستحق جزائي . ولكن ، بالله عليك ، أيها المأمور ، أين هي القروية البائسة (..................................) الآن ؟
    أجابه المأمور على الفور : " أنها تنتظر ذات الحكم . وقد تكون صعدت أو هي في طريقها إلى الصعود إلى أعواد المشنقة الآن .
    " أنبهر المجرم . وقبل أن يكمل سيجارته ، رماها على الأرض ، باصقاً عليها ، وهرول نحو المشنقة دون طلب من يرافقه ، صارخــــــــــــا بأعلى صوته :
    " أنها السبب في كل شيء .................................................. . "
    الموصل / حزيران 1982

  2. #2

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    قصة قصيرة
    (2) الوصيـة
    بقلم : قحطـان فؤاد الخطيب


    كان جل ما تتوق له الحاجة المسنة (أم غائب) ، وقد دلفت في عقدها الثامن هو أن تلملم دنانيرها المبعثرة هنا وهناك قبل ولوجها العالم الآخر ، دون إعطاء مبرر ما . لذلك شرعت تقلم أظافر منزلها ، بأن باعت محتويات ما تسمى (بغرفة الضيوف) كاملة ، كما باعت ما زاد عن حاجتها في مطبخ الفناء الشرقي(1) ، إضافة إلى بيع غرفة نومها الأثرية ، وما تبقى من الكراسي المكسورة والأثاث العتيق ، فيما منحت ابنتها الصغرى فقط عقد اللؤلــؤ القديم ، والذي اشتراه لها المرحوم (أبو غائب) قبل عشرات السنين . وأصدرت (الأوامر) بتحديد زيارات أبنائها السبعة وبناتها الأربع إضافة إلى أولادهم الذين لا حصر لهم إلى أضيق الحدود ، في حين كلفت صهرها الأصغر القيام بضبط أمورها المالية وإيداع ما يتجمع لديها من نقدٍ في حسابه المصرفي ، ذمة عليه ولـقاء وصولات ، رغم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب ، وبعلم الكل .
    وبلغت حصيلة كل مبيعاتها مع فرق الأسعار آنذاك(2) (778) ديناراً لا غير . وهذا المبلغ ، بالنسبة لها ، فوق مستوى تفكيرها وتوقعها مقارنة بمؤخر صداقها (5) دنانير فقط . وما هذا وما سيتراكم فيما بعد من مبالغ ليس إلا كل ما تركه المرحوم ، زوجها ، أبو غائب .
    ولم يبق لها من حطام الدنيا سوى الجدران الأربعة لدارها ، ذي الثمانية والأربعين متراً مربعا مساحة . وقد اختمرت في ذهنها فكرة بيع الدار أيضاً واستحصال فترة ستة أشهر بعد البيع لأخلائه ، علها ، حسب زعمها ، تنتقل إلى جوار ربها في بحر هذه الفترة ، وبهذا لا يبقى لها أية تعلقات فوق هذه البسيطة ، ويكون الانتقال إلى جوار خالقها بصمت لا يثير غبار القسام الشرعي والحصص والإرث والخ .... !
    ولم يجد أبناؤها وبناتها بداً من طاعة أمهم ، وهي في هذا الخريف من العمر الحرج . فاستنفروا كل طاقاتهم لبيع (العقار) ! وانطلق كل منهم في اتجاهه يبغي كسب ود أمه ، عسى أن يفوز ، ولو بدريهمات يحل بها مشاكله . وأخيرا بيع الدار ، من دون إشراك أحد من أفراد الأسرة باستثناء الحاجة المسنة (أم غائب) فقط والمالك الجديد ، الجار الملاصق داره بدارها . وبعد مقابلات وإجراءات أصولية قانونية انتقلت ملكية الدار إلى المالك الجديد الذي سلمها ، بحضور أفراد أسرتها ، سبعة آلاف ديناراً نقداً . بيد أن السيدة المسنة أومأت إلى صهرها الأصغر ، زوج ابنتها الصغرى ، هيفاء ، بتسلم المبلغ دون أبنائها أو بناتها . وتطلع الأبناء إليها منشدهين وقد صعقهم سلوك أمهم الهرمة وكأن عيونهم تتساءل .... لماذا وقع الاختيار على زوج هيفاء دون سواه ؟
    - هاك يا حسن النقود وضعها مع بقية نقودي الموجودة لديك في حسابك بالمصرف .
    - نعم يا عمتي .
    وهنا سأل الابن الأكبر وقد بدأ يساوره الشك بأن أمه خرفه ....
    - وماذا ستفعلين بكل هذه النقود ، يا أماه ؟
    - إذا وافتني المنية تقاسموها بينكم بالعدل وإلا ....
    - ولماذا لا نتقاسمها الآن وأنت بين ظهرانينا ؟
    أجابته ، كمن قرصها تحصيل حاصل تجارب السنين وشرعت تصرخ :
    - افترض أن عمري طويل ، هل ستنفق علي الدراهم أنت وإخوانك وأنتم تئنون من الجوع ؟
    - بالتأكيد ، يا أماه . فنحن سبعة أخوة وأربع أخوات .
    - ولكن الزمن تغير ، يا ولدي . فالعمل بالمضمون أضمن .
    ثم سألت البنت البكر ، بدون حياء ....
    - وأين سـتعيشين بعد انقضاء فترة الستة شهور ؟ ألا تشعرين بجنون تقلبات الأسعار بين ثانية وأخرى ؟
    - لا عليك ، فالزمن كفيل بحل كبرى المشكلات و ....
    ودارت عقارب الساعة بسرعة ، كما دار دولاب الحياة بسرعة ، أيضاً ، بحيث طويت صفحة الستة أشهر وكأنها ست ساعات . وجاء المالك الجديد ومظلة القانون تحميه وهو يقول للسيدة المسنة :
    - أراك غير ملتزمة بإخلاء الدار لحد الآن !؟
    - ولمــــــاذا ؟
    - لأن الفترة القانونية للأخلاء انتهت .
    قالت وكأن لسان حالها يقول (( ارحم عزيز قوم ذلْ )) ... ولكن ، لا أحد يريدني . نعم إنني غريبة .
    - إنها ليست مشكلتي بل مشكلتك . لقد قبضت الثمن سلفاً ووقعت العقد رسمياً .
    قالت بانفعال مشوبٌ بدموع ساخنة :
    - خذ دراهمك وأعد لي داري .
    - يا حاجة ... القانون قانون ، والأفضل لك ترك الدار فوراً والانتقال إلى دار أحد أبنائك أو بناتك على الأقل .
    صرخت ثانية بوجهه وقد مزقتها اللوعة :
    - قلت لك ، إنهم لا يريدونني ، لا يريدونني ، لأنني غريبة في وسطهم .
    وبعد محاولات يائسة توصل المالك إلى أنه لا جدوى من محاورتها لكبر سنها وحالة الاكتئاب المزمن التي انتابتها . فما كان منه إلا المضي إلى أقرب دار يعود إلى ابنها البكر، والانفعال قد ارتسم على محياه . وبالصدفة لاقاه الابن الأصغر الذي استوعب كل دقائق الموضوع بخصوص إخلاء أمه دارها المباع . وقد سأله المالك الجديد فيما إذا كان بالإمكان حل الأشكال باستضافة أمهم ولو لفترة قصيرة لحين شرائها داراً بديلاً . فما كان منه ألا أن تفوه بكلمات تكون النتانة منها براء حين قال :
    - ولا واحدة من زوجاتنا توافق على استضافتها ، ولا حتى أي من أزواج شقيقاتنا يوافق على استضافتها أيضاً . فأين الحل ؟
    - أتسألني أين الحل وهي أمكم ؟ ألم تسمع القول المأثور ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) ؟
    - نعم أفهم ذلك جيداً . ولكن دعني أتساءل : لماذا باعت الدار ؟ وماذا فعلت بنقودها ؟ ولماذا ائتمنت صهرها ولم تأتمن أبناءها ؟
    وهنا خرجت أحدى زوجات الأبناء وقد رقد طفل صغير على كتفها حيث قالت وكأنها سمعت كل الحوار :
    - لم لا تشتروا لأمكم داراً بنقودها ؟
    رد الابن وقد استهجن هذا الطرح من زوجة أخيه :
    - إنها لا تستطيع شراء غرفة بكل ما جمعته من أموال . لمن نشتري الدار والموت قاب قوسين أو أدنى منها ؟ لدي فكرة ايجابية تحل الإشكال . ثم أردف يقول : لماذا لا نناقش مع أمي مسألة نقلها مباشرة إلى دار رعاية المسنين ؟ فهناك تريح وتستريح ، حيث نستطيع زيارتها كلما سنحت لنا الفرصة بذلك ؟
    وما هي إلا دقائق حتى كانا أمام دارها . لقد كانت ترتعش من شدة الألم والشيخوخة وخيبة الأمل بأولادها ، ثم رفعت يديها للسماء شاكية حالها البائس وطالبة بالحرف الواحد ( الانتقام ) من ناكري الجميل . لقد أكدت للمالك الجديد عدم رضاها المطلق على أولادها وبناتها العاقين ، محيلة أمر حسابهم لله . وأخيراً صرخت للمرة الثالثة بصوت هستيري دراماتيكي بوجه المالك الجديد وقد نفذ صبرها :
    - ماذا تنتظر ؟ ألم تسمع فلذة كبدي يقدم وصفته السحرية لحل المشكلة بإيصالي لدار رعاية المسنين ؟ أجل ماذا تنتظر ؟ خذني أيها المالك المسكين إلى هناك . فبغير هذا لا تحصل على الدار . فأنا غريبة هنا ، وضيفة ثقيلة على الآخرين ...........ستقوم الساعة ....... نعم ستقوم القيامة ....... هيا ... خذني إلى هناك . هاك ، تفضل ، هذه مفاتيح الدار . خذها ....... مبروك عليك. لم يبق لي في الدار سوى الذكريات . وداعاً يا داري العزيز . أرجوك أوصلني بأية وسيلة إلى دار رعاية المسنين . فهناك القلوب أرحم . و ....
    - أماه ... أماه ...
    - ابتعد أيها العاق . انك منبوذ وجبان . دعني أنفذ ما يدور في رأسك ورؤوس إخوتك . إلى دار رعاية المسنين أيها المالك. إلى هناك ......................
    
    وأخيراً أسدل الستار على المشهد المأساوي بأن رضخ المالك الجديد إلى طلب إيصالها بسيارته العتيقة لدار رعاية المسنين . ولحسن الحظ استقبلت كما توقعت أو كما شاء القدر أن يرسم السيناريو كذلك ، نعم استقبلت بالأحضان والابتسامات وكأنها عروس في يوم زفافها . لقد نسيت أو تناست المشهد التراجيدي السابق لأن طبيب الدار هرع نحوها متحسساً معاناتها ومخففاً عنها ، إذ أوصى بجناح يتناسب مع عمرها . لقد أحست بأن هذا الطبيب لا يقل عطفاً عن صهرها الأصغر ، كما أحست بأن فترة تعارفهما وكأنها أشهر وليست بضع دقائق . إذ التمست منه أن يستدعي صهرها الصغير حسن بصورة رسمية كي يجلب معه كامل دراهمها حسب الوصولات الموجودة في حوزتها . ولبى الصهر النداء . بيد أنه بدأ يتملص ويناور ويتخاذل في رد الأمانة إلى أصحابها . إلا إنها كانت له بالمرصاد ، إذ اعتبرته جزءاً من الشلة العاقة . وبعد محاولات يائسة أقحمت إدارة الدار بموضوع النقود ملوحة بنقل الموضوع إلى القضاء . عندها انصاع بعد تلكؤ وتردد إلى جلب كامل المبلغ وتسليمه بيدها أمام إدارة الدار وفي غضون دقائق معدودة حيث قال :
    - وماذا ستفعلين بهذه الآلاف ؟
    أجابته بعصبية شديدة :
    - وما دخلك بالأمر ؟
    وحيث إنها لا تقرأ ولا تكتب ، ولأن آثار الصدمة لا زالت شاخصة فيها ، فقد التمست من الطبيب المؤتمن الذي أحست بوشائج قوية تربطهما أحدهما بالآخر ، التمست منه أن يحسب المبلغ وأن يحرر لها وصية رسمية بحضور الآخرين جاء فيها ما يلي : (((إنني الموقعة أدناه ، ..... ، أتنازل عن تحويشة عمري بما يساوي 7778 ديناراً لإدارة هذا الدار الذي سأقضي فيه آخر فصل من حياتي ، لما لمست فيه من حرارة الاستقبال الذي فاق استقبال الأبناء والبنات، ولما أحسست به من دفء الكلمات التي أرجعتني عقوداً إلى الوراء وأشعرتني بأنه لازالت الدنيا عامرة بالأخيار . كما أوصي أيضاً بإعطاء جسدي الهزيل إلى الكلية الطبية ، إذا رضيت به ، علها تكتشف سر طول حياتي رغم منغصات الحياة المفزعة ورغم تخلي أولادي وبناتي عني . كما أعلن أمام الله وأمامكم براءتي من كل أولادي وبناتي . )))
    لقد اندمج كل الموظفين والعمال والعاملات معها ، لروحها المرحة ، وحديثها الشائق ، بغض النظر عن فداحة معاناتها وكبر سنها . بيد أنها كانت كثيرة الشرود والتساؤل ولعلهـا معذورة فعلاً لذلك :
    - ما معنى امتلاكي أحد عشر مخلوقاً ولا أحد منهم يتفهمني ؟ لماذا هذا التغير في البناء الإنساني ؟
    ولم تمضِ سوى سويعات حتى فارقت الحياة ودنانيرها لم تدخل بعد قاصة الدار ودموعها لم تجف بعد . ونفذت بنود وصيتها تسلسلياً ، بأن سجل كامل المبلغ إيرادا لخزينة الدولة حسب ما جاء في الوصية ، فيما نقلت جثتها فوراً إلى الطبابة العدلية ، ومن هناك إلى ثلاجات الكلية الطبية بعد أن تمت الموافقات على القيام بذلك .
    
    ودنا الليل ، فإذا بزحف الأحد عشر (صنماً) نحو دار رعاية المسنين يحملون بين ثناياهم أنصاف الحلول لأمهم البائسة العجوز : ( لقد عثروا على غرفة للإيجار لأمهم المسنة في دار أحد الدفانين ! ) لقد تحدثوا بكل صفاقة مع الخفير عن (مشروعهم) الذي لم يفهم منه شيئاً . وقد منعهم من دخول الدار لعدم معرفته بالنزلاء الجدد بعد ، ولأن الليل ليس وقت زيارات بل وقت راحة النزلاء . لقد كانوا كالذباب في طنينهم ، وكالأقزام في تفاهتهم وضحالتهم . وما هي سوى لحظات حتى رن جرس الهاتف صدفة حيث كانت مسؤولة الدار الخافرة تتكلم مع الموظف الخفير بصدد مسألة قطع التيار الكهربائي المفاجئ ، وفيما إذا أصلح الخلل أم لا . إلا أنه أجاب بنعم . وحاول ضرب عصفورين بحجر واحد حين قال :
    - في القاعة الآن أحد عشر زائراً ، يرومون التحـدث مع النزيلـة (أم غائب) . لقد منعتهم من الدخول و ....
    قاطعه أحد الأبناء وأخذ منه السماعة شاكياً وقائلاً :
    - هل يجوز لموظف الاستعلامات كهذا أن يمنعنا من زيارة أمنا ؟ أين العدل وأين الأنصاف ؟
    - لا ، ولكن ليس في هذا الوقت المتأخر بالذات .
    لقد أجابت بحسن نية وعدم إلمام بتفاصيل الموضوع .
    - إذن اسمحي لنا بالدخول .
    وهنا أخذ الخفير السماعة وعيناه تشعان غضباً . لقد أخذ التعليمات الكاملة من سيدته معتذراً لها عن الإحراج الذي أوقعها فيه . ثم استفسر منهم عن الاسم الثلاثي لها وتاريخ دخولها الدار . بعدها فتح درجاً أخرج منه سجلاً كبيراً ثم أخذ يقلب الصفحات ، إلا انه رغم تدقيقه لم يجد الاسم . ثم عاد يقلب الأوراق ثانية وثالثة ، إلا أنه لم يجد ذلك الاسم . سألهم:
    - هل يجوز أن اسمها مع الوفيات ؟
    زمجر الكل في وجهه مرة واحدة كأنهم يريدون افتراسه قائلين له :
    - فأل الله ولا فألك . إنها دخلت الدار اليوم والحبر لما يجف بعد .
    وفعلاً فتح سجل الوفيات ، حيث وجد اسمها هناك وبجواره ملاحظة طويلة مربوطة بدبوس كبير . جاء فيها :
    ((( في الساعة ... من يوم ... توفيت السيدة المسنة ... وأرسلت جثتها إلى الطبابة العدلية ثم إلى الكلية الطبية بناءاً على وصيتها المثبتة أعلاه . و ... )))
    وساد وجوم قاتل أثناء تصفحهم الوصية الموشحة بختم إبهامها الأيسر . لقد ذهلوا وصفعوا بقوة بمضمون الوصية المتوجة بعدم رضاها عنهم في الدنيا والآخرة . وانصرفوا مذهولين ، واحداً تلو الآخر ، والصمت والوجوم والندم يلفهم.
    لقد خسروا أمهم بجرة قلم ونتيجة تصرف دنيوي زائل طائش .
    وخسروا رضاها ونقودها ووجودها حيث جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن !
    بل ... خسروا الدنيا والآخرة على حد سواء .


    (1) الحوش
    (2) 10 أيلول 1990



    الموصل في 10 أيلول 1990


  3. #3

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة


    قصة قصيرة
    3- الوجـه الآخر لناديـة
    بقلم : قحطـان فؤاد الخطيب
    juror.qahtan1@gmail.com

    مع اللحظات الأخيرة لوداع آخر خيط من نهار الأربعاء ، الرابع من أيلول عام 2002 ، المفعمٍ بضجيج مولدة كهرباء جارهِ ، والمطعم بنكهة حرارة أواخر أيام الصيف التي ، على ما يبدو ، طاب لها الاسترسال في البقاء ، تسللت عتمة لا تفتقر إلا إلى الشموع لتكتمل إنارة المكان ..... وسط هذا الجو الفريد، دلفت إلى شرفة مكتب الترجمة وتدريس اللغات الأوربية ، كهله في خريف عمرها ، تصحبها شابة خيل للأستاذ المحاضر بأنها ابنتها أو زوجة ابنها أو جارتها . وللتو ، توقع آن يكون غرض زيارتهما له هو ترجمة مستمسكاتهما الرسمية . بيد أن حدسه اخطأ هذه المرة .
    رحب بهما حسب الأصول ورجا تلميذه الموهوب جداً........ ، أن يضيفهما، لكنهما اعتذرتا شاكرتين . وفجأة رن جرس الهاتف الذي يبعد بضعة أمتار عن الشرفة . ثم مضى كي يرد عليه ، فيما أكمل الحوار معهما فني الكهرباء.............، الذي تزامن وجوده معهما وقتذاك . وبعد دقائق معدودة عاد إليهما الأستاذ ، فإذا بالسيدة وقد اندمجت في حوارٍ شيق معمق مع قني الكهرباء ، كأنهما أصحاب منذ أعوام ، إلا أن عيني الشابة أوحتا له وكأن لسان حالهما يقول :
    - "لقد أطلت الغياب ، يا أستاذ !"
    أحس بأن ثمة خيطاً روحياً دقيقاً شده إليها فجأة ، مما جعله تواقاً لإماطة اللثام عن كنهه . وعرف من ملامح وجهها بأنها شابة ، ثلاثينية العمر ، طافحة بالأنوثة المتقدة والحيوية المتدفقة ، والغارقة بالآمال والطموحات . وربما كانت تنحدر من أسرة مرموقة . كان اللون العسلي الداكن يطغى على عينيها المؤطرتين بكحل أحسن اختياره واللتين شع منهما وميض خافت لحزن دفين يكاد لا يفارقها . وكان يبدو أنها أمضت وقتاً ليس بالقصير في العناية بمكياج وجهها رغم أنه نضر ومعبر . على أن شعرها الذهبي الأملس انساب بدلع على كتفيها الرقيقين ، فيما زين الاسم (نادية) بالحروف الإنكليزية المجسمة عنقها البرونزي ، إذ كان يبدو أنه مصنوعٌ من الذهب الخالص ، عيار (21) ، أو هكذا خيل له . لقد وفر عليه هذا الاسم كثيراً من العناء ، كما اختزل الكثير من الأسئلة والوقت إذ بادرها قائلاً :
    - "آهلا ، ست نادية ."
    فوجئت بهذه التحية ثم قالت :
    - "لابد أنك تعرفني ؟"
    - "وأخالك تحبذين اللغة الإنكليزية، أليس كذلك؟ "
    - "كيف عرفت ؟"
    - "أحزري ."
    وهنا قطعت السيدة حوارها مع فني الكهرباء ومضت تقول :
    - "لابد وأن الموظف الذي دلنا عليك أعطاك فكرة عنها !"
    - "ومن يكون هذا الموظف ؟"
    - "انه مسؤول دائرة البريد في حينا والمكنى بالسيد (م¬) ."
    أجابها قائلاً :
    - "كلا ، يا سيدتي . فاسم نادية يزين عنقها . وبما أنه مثبت باللغة الأجنبية . إذن لابد وأنها ميالة لتلك اللغة ."
    أجابته السيدة قائلة :
    - "أحسنت ، وهي كذلك ." ثم أردفت تقول :
    - "إن السيد ، (م) أشاد بك كثيراً جداً ، ناهيك عن إشادته بإمكانياتك التدريسية الهائلة . ولهذا وجدتنا في مكتبك كي نبرم الاتفاق معك على عملية التدريس بكل تفاصيلها . وبدءاً أقول إنني أمها . وقد كرست كل حياتي لأجلها ، خصوصاً بعد وفاة والدها ، ولأجل شقيقتها المتزوجة والمقيمة في (...........) ، إضافة إلى ابني الوحيد (......................) ."
    شرع يسألها أسئلة عامة ، إلا أن أمها كانت تجيب بدلا عنها ، مما دفعه الفضول إلى الاستفسار منها قائلاً :
    - "هل سأدرسك أم سأدرسها ؟"
    عاجلته بالإجابة قائلة :
    - "لقد أحرجني تلعثمها في أجابتك ، مما حداني إلى حسم الموضوع ، والإجابة بدلاً عنها ."
    سألها :
    - "بما أنكما متفقتان على تدريسي نادية مادة اللغة الإنكليزية ، أليس الأجدر أن أطلب منها تقديم نفسها بنفسها وباللغة الأجنبية ذاتها ؟ آذن، دعيها تعبر كما تشاء كي أعرف من أين أنطلق في تدريسها ."
    أرخت نادية العنان لأفكارها كي تتدفق بحذر أنثوي لبق، وقد تورد وجهها الناصع البياض، وهي ترفع بشكل لاشعوري يدها اليمنى المثقلة بثلاثة أساور من العيار الثقيل ذهبا ، ومحبس فخم تلألأ مستقرا في إصبعها الوسطى ، لتزيح شعرات تدلت بجاذبية على وجهها المعبر ، وهي تتحدث بلغة العم سام:
    - "إنني ........ ولدت بتاريخ ........ في مدينة ........ واحمل درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية ........ بجامعة ........ "
    قاطعها قائلاً :
    - "أتمزحين يا نادية ؟ أنت زميلتنا إذن . ماذا سأضيف لك ؟ بإمكانك تطوير مهاراتك اللغوية الحالية بالاستعانة بالكتب والقواميس والأقراص الليزرية والحاسبة ."
    استجمعت الأم أفكارها ومضت تقول:
    -"قم أنت مقام ما ذكرت ، يا أستاذ . وليكن الغد اليوم الأول للشروع بتنفيذ المهمة."
    X X X X X
    تسارعت عقارب الساعة بشكل غير مألوف ، فإذا بشمس الخميس تستطع ، والأستاذ مشدوه بالعينة الأنثوية الملفتة للنظر ، وعلامات الاستفهام ما برحت تتراقص في مخيلته ، وأخماسه تضرب بأسداسه، وكأن نادية ، بسحنتها الدافئة ، وطولها المعتدل ، ومشيتها الأنيقة ، بقوامه الممشوق، شاخصة أمام
    عينيه . لقد كان يبدو وكأنه انقلب ، بقدرة قادر، من مدرس إلى أديب يقتنص المفردات البلاغية المعبرة ، ويهيم في بحر من الخيال بقارب ضاع مجدافاه . كان يسأل نفسه ثم سرعان ما يجيب:
    - " اسمها الثلاثي هو (................). إذن فهي ، بلا شك ، مسلمة . لكن صورة القديس ............ المثبتة على ساعتها التراثية الواسعة ، التي طوقت معصمها ، فكت اللغز بسرعة ، وأضفت جوا بانوراميا أخاذا عليها أماط اللثام لاسيما عن أناملها التي شع منها لون خمري بهيج ، فيما استقر في بنصرها محبس ذهبي تعلوه الفصوص الثمينة النادرة .
    دنا موعد المحاضرة ، وتطلع المحاضر إلى الساعة الجدارية ، فإذا بعقاربها تشير الى تمام التاسعة والنصف صباحا. ولفرط دهشته فاح عطر باريسي مركـز، أعقبه وقع أقدام تناغمت مع نوتة موسيقية شجية. فإذا به أمام أنثى متكاملة.
    حيته ، فرد عليها بأحسن منها. ثم أخذت مكانها. وهكذا بدا الحوار:
    -"اسمك الثلاثي واللقب."
    -"................................................. ...."
    لفت نظره لقبها، وتأكد بأنها مسيحية. ثم أردف يقول:
    " أي متكلم لا يجيد اللغة الا بممارستها. و ............................................."
    قاطعته، مستأذنة:
    "اجل . ذلك صحيح ، يا أستاذ ."

    "إذن ، لنبدأ المحاضرة. حدثيني عن نفسك ، هواياتك ، طموحاتك، شهاداتك ، نشاطاتك ، ممارستك . تحدثي عن كل شي بانسيابية وبدون تكلف. ودعيني أصحح أخطاءك اللغوية ، ومن خلاله يتعمق الحوار ."
    تحدثت عن كل شي ، وهو يصحح حينا ويضيف لها أحيانا . كان يدون ، على غير عادته ، أفكارها ، ويستنبط الأسئلة كأنه في جلسة تحليل نفسي . ويبدو آن الأسلوب التربوي الصارم نوعا ما راق للطالبة الطموحة، بحيث راحت تجزل العطاء في البوح عن مكنوناتها بلا تحفظ ، يحدوها الأمل في إتقان التعبير. وقد بادلها المشاعر بصدق ، فأنشدت إليه وكأن عقدة لسانها قد حُلت ، وكأن عقلها الباطن قد وجد الفرصة كي يبوح بما يعتمل في أعماقه طارحاً خزينه المتراكم من التساؤلات على طاولة الدراسة .
    انتهت المحاضرة الأولى وتأبطت أوراقها وتأملت واجبها ألبيتي وانصرفت مباشرة إلى عملها ، كطباعة كومبيوتر في مكتب ........... .
    لقد كانت الابتسامة العريضة مرتسمة على محياها ، وبريق عينيها يبعث برسالة مفادها أن كل شيء سار على ما يرام في بحر تسعين دقيقة . وهكذا توالت المحاضرات بانتظام . وسجل الكورس غيابين فقط بعذر : الأول حين داهمها مرض الأنفلونزا ، والثاني حين اضطرت لقضاء أمور منزلية ملحة . كانت الخطوط البيانية للمحاضر تسجل استقراراً في مواظبتها وسلوكها . فيما كانت مثالية في استجابتها لواجباتها البيتية . لقد أثبتت أنوثتها الرقيقة وطموحها اللامحدود عبر ساعات الدراسة المحدودة .
    وعبر ساعات المقرر التعليمي المتواصلة ، تجسد الوجه الآخر لنادية ، في كونها تكره القيود، وتحب الحرية ، وتتوق إلى الانعتاق . ومن سياق إجاباتها توصل المحاضر إلى أنها كانت تحب الحفلات والاختلاط ، وتعشق الدبلوماسية والأتيكيت . كما كانت تقدس العمل كان لسان حالها يردد :
    -"يجب على كل الفتيات العمل حتى ولو امتلكن كنوز الدنيا . فسر نضرتهن يكمن في عملهن."
    ولعل أطرف ما ميزها بالبراءة والعفوية عدم خلو حقيبتها من الحلوى وقطع الشكولاته ، التي كانت تقدمها للأطفال متى ما تواجدوا مع ذويهم في المكتب.
    كانت لا تجيد سوى الابتسامة لغة للتعبير، بحبال صوتية ناعمة لا تخدش طبلة الأذن ، فيما وظفت عينيها للإجابات التي لا تتطلب طويل وقت.
    لقد أضحت شغوفة برفد ذاكرتها الطفولية البريئة بكل المفردات الإنكليزية المثيرة التي لم تسمع بها عندما كانت على مقاعد الدراسة ، هذا ، ناهيك عن أنها كانت تواقة إلى اقتناص التعبيرات الشبابية المعاصرة وتدوينها. لقد كانت أشبه بالأيقونة في سكونها إذ كانت تسمع أكثر مما تتكلم مؤمنة بالقول المأثور:
    -" إذا كان الكلام من فضة ، فالسكوت من ذهب. "
    الموصل/ في 4 أيلول 2002

  4. #4

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    قصة قصيرة
    5- الفيلسوفة التائهة
    بقلم : قحطـان فؤاد الخطيب
    juror.qahtan1@gmail.com

    " بات من المستحيل أن اصمت وفي فمي الدم ... وبات من المستحيل أن أعيش في النار ما دامت هناك الجنة . " هكذا راحت الآنسة الشابة جوليت تبعث بعباراتها المنسابة ، التي عجزت عن تدوينها بما احتوته من عمق في الفكرة ، وجمال في
    الأسلوب ، وخصوبة في الخيال . ثم وجدتني مندهشاً أمام هذا النوع من الحواء .
    قالت بلهجة تمثيلية رائعة ..... " أنا اكره أبي وأمي ... أكرههما ، لأنهما تسببا في وجودي " . ثم استدركت قائلة: "أتدري لماذا اكرههما ؟ " عجبت من أمرها وأنا لم يمض على تعرفي عليها سوى أيام تعد بالأصابع ثم قالت : " إن وجودي يعني ، بالنسبة لي الخطأ الكبير . " ثم راحت تبعث بتفسيراتها وتعليلاتها قائلة : " فأبي لم يقرر الحصول على أطفال : لا بنين ولا بنات . ولكن جئت صدفة . " ثم رفعت عينيها وهي تتأملني كأنني أريد أن انتزع منها الاعتراف . وأردفت تقول : " إن أبي كانا تحت الأمر الواقع ، بل قل كان أبي يندب حظه حين عرف بأن أمي ستضع مولوداً . " ثم تساءلت بعصبية : " ولماذا تزوجها أذن ؟ ‍! " وتوقعت أن أعلل لها سؤالها ، ولكنها راحت تقول : " أتدري كم أثق فيك .... ؟ " ثم ابتسمت وقالت : " أجل إنني أثق فيك ، ويتراءى لي بأنـك خبير بالحياة ! "
    كانت فتاة خضراء العينين ، معتدلة القامة ، شعرها مفحم بالسواد ، رشيقة الحركة ، رقيقة الحديث . كانت تضحك ثم تسكت، تسأل نفسها ثم تجيب . لقد سبق وعرفت بأنها في سنتها الجامعية الأخيرة . كانت ذكية ..... تتحدث في كل شيء بلباقة . وكانت تريدني أن افهم بأنها أحسن حواء !
    وقلت لها : " هل أنت فيلسوفة ؟ ! أجابتني كمن أحبت هذا السؤال كثيراً . ثم راحت بغرور تعدد بأصابعها ذات الأظافر الطويلة الملونة بلون زهور الربيع ، أسماء الكتب والكتاب الذين قرأت لهم وتأثرت بهم . فذكرت المذاهب والشخصيات بلا حسـاب ثم قالت : " أحب الرمزية ... أحب اللامعقول ... أحب سارتر ... أحب الفن ... الأدب ... التمثيل ... آه ، أعبد التمثيل . وهنا لفظت عبارتها التالية التي أبعدتنا عن الطريق الذي كنا نسير فيه ، وقالت :
    " لاشيء يعيد للخضرة نظرتها . غاب القمر الذي كان يتلألأ...................... . "
    كنت ألاقي صعوبات شتى وان أدون أفكارها الغامضة ، ثم واصلت تقول : " لتحرسك الشمس ، ولترعك النجوم ."
    ولست أدري من كانت تعني ، وماذا كانت تريد أن تعني . قلت لها : " هل أنت تحت وطأة الحب؟" أجابت ببرود : "سؤال
    مألوف ... أبدا . " "وهل فشلت في الحب ؟ " قالت " بكل تأكيد ... أبداً . " فقلت لها" وماذا تريدين بكلماتك هذه ؟!" قالت : " أما عن الحب فلا أؤمن به ... أعني أنه زيف ... وكذلك لا أؤمن بالإنسان . " ودفعني الفضول لأن استطلع رأيها في لغتها هذه فإذا بها تقول : " أحب استعمال اللغة التي لا يفهمها الآخرون ، لأن وقعها طيب في نفسي . " قلت لها : وهل كل البنات هكذا ؟! أجابت " كل ما اعرفه أن هناك فتيات سخيفات وعظيمات ، وضيعات ومخلصات ، عالميات ومحليات . " قلت لها متهكماً : " وهل لك أن تحدثيني عن العالميات والمحليات ؟ " قالت برباطة جأش : " إنني لا أحب التدخل في شؤون الآخرين إلا إذا جلبت لهم السعادة . إنني غير سعيدة لأنني لا اعرف ماذا أريد . " وهنا افترضت في نفسي طبيباً سايكولوجياً ، وتمنيت فرويد بقربي ليحل رموز هذا النوع من الإناث . وهنا امتلكت عواطفي محاولاً وضعها في جو تستطيع خلاله أن تفضي بأفكارها لعلها تفسر هذه الطلاسم . ثم تحدثت بلهجة حزينة : " أنا أؤمن بأن السعادة ليست في إدخال السرور إلى نفسي بل إلى القلوب التي تحتاجها . " ثم سألتها وماذا تعنين بالذين يحتاجونها ؟ قالت " الرجال بالأخص ... وأنى ارثي لهم . إنهم يتغزلون بالفتاة ولكنها ألاعيب . " أحست بأن وقع الكلمات كان ثقيلاً علي ، فاستدركت تقول : " ليس كل الرجال ... فانا أعجب بالرجل المفكر ، والأديب ، والحزين ، والعميق ! أعجب بالرجل الذي يقيم أفكاري ، ويعجبني أن أتسلى به وهو يتلوع . انه طفل كبير ! "
    لم تكن الفتاة مسلمة ، ولم تكن متدينة بل كانت تتباهى بأنها عصرية ... متحررة ، كانت ضائعة ... عابثة ... كانت لا تعرف ماذا تريد ... كانت تضحك ثم تحزن . كانت تشكو الفراغ ، وربما ساعد حبها للتمثيل وحياة النجوم على تغذية هذا الفراغ . لقد جمعتني بها ظروف شاذة لم أكن أتوقعها ... ولست ادري ماذا كانت تهدف وهي تبعث باعترافاتها بسخاء . ولم يكن يدر بخلدي أن تنطلق حواء فتحدثني عن قلبها ونفسها وعقلها . لقد عرفت بأن أفكارها سترى النور وستترجم إلى حروف وكلمات فإذا بها تقول :
    " أحب أن أرى جوليت في المرآة ... ترى هل ستقبل المرآة ؟ " ثم أجابت نفسها وهي تهز رأسها ويديها الناعمتين :
    " لابد وأنها ستقبل في يوم من الأيام . "

    نشرت في جريدة ( العرب ) البغدادية بتاريخ 7/8/1969


  5. #5

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    (7) قصـة قـصيرة من الأدب الأسباني
    فـلاح مدينـة روتـه
    ترجمة : قحطـان فؤاد الخطيب
    عن كتاب
    elementary reader in english for the foreign born

    (1)
    تجري بداية أحداث هذه القصة القصيرة في مكان ما من روته ، بلدة صغيرة في اسبانيا ، لا تبعد كثيراً عن خليج (قادز) ، تشتهر بفواكهها وخضرواتها ، لاسيما محصولي الطماطم والقرع ، حيث تنتشر هنا وهناك ليس بأسواق (قادز) فحسب بل في المدن المهمة الأخرى أيضاً .
    وقد يوحي ذلك للمرء بأن التربة جد خصبة ، بحيث تدر أنواعاً نفيسة من ثمار كالطماطم والقرع ، في حين أنها ليست كذلك بل تربة جدباء ... مجرد رمل وصخور ، ولا شيء غير ، تلفحها رياح المحيط الأطلسي الهوجاء ، جارفة تربتها الفريدة ، وتاركة لا شيء سوى الرمل بدل التربة . هذا ناهيك عن شحه الماء وجفاف التربة .
    أذن .....
    كيف يمكن زرع هذين المحصولين في تربة كهذه ؟
    هنا ........ تتميز ثمرة الطماطم بكبر حجمها واحمرار لونها ، فيما ينتفخ القرع ويصفر لونه ..... وقد يعزى سبب ذلك إلى فلاحي هذه البقعة ، الذين يعملون بجد منذ الصباح الباكر وحتى سدول الليل خيوطه .... حافرين الآبار وناقلين الماء بأيديهم إلى بساتينهم ، مستخدمين أي شيء لإثراء التربة حول كل نبتة ... كاسين النباتات الغضة بأوراق الأشجار ، بغية حمايتها من حرارة الشمس اللافحة والرياح العاتية . إنهم يراقبون كل ثمرة بعناية ، خصوصاً الضعيفة منها ، موفرين لها الماء ومغدقين عليها ذات الحنان الذي يغدقونه على زوجاتهم وأطفالهم .
    على أن هناك قولاً مأثوراً ، يطال هؤلاء الرجــال وبساتينهـم ، يتردد على الشفاه عدة مرات في روته :
    " يلمس فلاح روته بيده كل ثمرة طماطم أربعين مرة كل يوم تقريبا ...........! "
    (2)
    ولعل العم بيتر هو أحد أولئك الفلاحين ، طاعن في السن ، بعقده السابع من العمر ، يمضي جل حياته بين أتربة هذه البستان ...... بظهر أحدب ، نتيجة سني العمل الدءوب بين مزروعاته ، فيما يشهد قرعاً منتفخاً لا مثيل له مصطبغاً بلون ذهبي مغاير لما سبقه .
    وها قد تراصفت أربعون قرعة ، تربطه بها وشائج حميمة سهلت تعرفه عليها بيسر ، إذ حملت كل واحدة منها أسماً ، مما زاد في فخره وهو منتصب هذا اليوم في بستانه ، مزهواً بها .
    على أنه عزم على بيعها بالسوق في اليوم التالي . لقد اعتراه الأسى ، لا لشيء إلا لجمالها ولفراقها الأبدي . وما أن دنا موعد عودته هناك حتى بان له بأنها قد سرقت ..... وربما سرق شخص ما أربعين قرعة بكاملها في عتمة الليل غير تارك حتى واحدة منها !
    ............ تمرض العم بيتر ، وخارت عزيمته . إذ لم يصدق عينيه ..... تلمس النباتات بيديه كي يتأكد بأنه ليس في حلم . ثم أقفل راجعاً إلى بيته ببطء والحزن قد غمره . وشرع يضرب أخماساً بأسداس . لقد أدرك بأن الشخص الذي سرق القرعات سوف لن يتمكن من بيعها في روته . إذ سيكون ذلك جد عسير لأنه سوف يميزها كما سيميزها الفلاحون الآخرون إضافة إلى أصدقائه . سيأخذها السارق إلى (قادز) ، المدينة الكبيرة . هناك ، سيكون سهلاً عليه بيعها في الأسواق .
    وقرر العم بيتر الذهاب إلى (قادز) . إذ أبحر القارب نحوها ما أن أطبقت عقارب الساعة التاسعة صباح اليوم التالي وعلى ظهره العم بيتر وكله استعداد للعثور على قرعاته !
    (3)
    وفيما بعد ، وحوالي الساعة الحادية عشرة من ذلك الصباح عينه ، توقف العم بيتر أمام كشك لبيع الخضار بـ (قادز) ، مصحوباً برجل شرطة ، حيث قال وهو يشير إلى مالك الكشك : " تلك هي قرعاتي . اقبض على ذلك الرجل . "
    قال الرجل بدهشة : " يقبض علي ؟ لماذا ؟ هذه قرعاتي ، وقد اشتريتها مبكراً هذا الصباح . "
    قال العم بيتر : " أقبض عليه . "
    " كلا ! "
    " نعم ! "
    " انه لص . "
    " لست كذلك . "
    قال الشرطي وقد أندفع بين العم بيتر وبائع الخضار : " أوقفا هذا ، أرجوكما . تصرفا كرجال ! "
    والآن تجمهر بضعة أشخاص بالقرب منهم . إذ طرق سمعهم صوت كلام عال ، مما حداهم للمجيء لرؤية ما كان يجري ، يتوسطهم مدير الأسواق ، الذي شرح له الشرطي مجريات ما حدث . ثم طرح المدير سؤالاً على بائع الخضار : " مِنْ مَنْ اشتريت تلك القرعات ؟ "
    " اشتريتها من رجل يدعى (لوبز) . وهو من مدينة روته . "
    صرخ العم بيتر : " لوبز ! طبعاً لوبز . أنه لص . في استنتاجي أنه كذلك . بستانه قاحلة . فعندما لا يملك خضراوات يبيعها ، يسرق من ناس آخرين . "
    قال مدير الأسواق : " حسناً . دعونا نفترض بأنه سرق القرعات . كيف تعرف بأن هذه القرعات وليس سواها هي لك ؟ فكل القرعات متشابهة ! "
    أجابه العم بيتر : " أعرف كل واحدة منها . أعرفها من أسمها . أنني أعرفها كما تعرف أولادك ، لو كان عندك أولاد ! أنظر ، هذه هي (بيبيتا) . وهذه هي (بلو بيوتي) ، وهذه (مانيوويلا). هي دائما تذكرني بابنتي الصغرى ."
    واصل العم بيتر تسميته للقرعات المختلفة ثم طفق يبكي كطفل .
    قال مدير الأسواق : " هذا جيد جدا . ربما بإمكانك تمييز قرعاتك . وهذا غير كاف . فبموجب القانون عليك تقديم الدليل . نعم الدليل ومن النوع القاطع . "
    أجابه العم بيتر : " بحوزتي الدليل القاطع . بإمكاني إعطاءك دليلاً صحيحاً هنا . هذه القرعات زرعت في بستاني . "
    (4)
    ركع العم بيتر على ركبتيه وشرع يفرغ الكيس الورقي الكبير من محتوياته . لقد فكه بعناية وبطئ مما أستحوذ على اهتمام الحضور كله ...... ماذا سيخرج من الكيس ؟ وأثناء ذلك مر شخص حيث شاهد جموع الناس . لقد جاء ليستطلع ما كان يجري .
    قال الخضري : " أوه ، أنه أنت يا سيد (لوبز) . إنني مسرور لعودتك . فهذا الرجل يدعي بأنك سرقت قرعاته ، تلك التي بعتها لي صباح هذا اليوم . "
    وأصطبغ وجه السيد (لوبز) بنفس صفار القرعات ، محاولاً التملص على الفور . بيد أن الشرطي حال دون ذلك وجعله يبقى هناك . ثم وقف العم بيتر بسرعة محدقاً بوجه (لوبز) ، حيث قال : " سنرى من سيقول الحقيقة ! "
    أجابه (لوبز) : " كن حذراً مما تقول . ليس بإمكانك مناداتي باللص . عليك إثبات ذلك . وسوف تذهب إلى السجن بسببه . لقد زرعتها في بستاني وأتيت بها هنا هذا الصباح . "
    رد عليه العم بيتر قائلاً : " سوف نرى ذلك . " والتقط الكيس الورقي ثم فتحه وقلبه إلى الخارج نحو الأرض ، حيث تساقط عدد كبير من كرمات القرع . لقد كانت خضراء اللون وطازجة . كما قطف العم بيتر نباتاته ذلك اليوم . وهكذا تكلم العم بيتر إلى الجمهور قائلاً : " هذا هو دليلي . فهذه الكرمات هي جزء من القرعات التي سرقها اللص . لقد ترك الكرمات على النباتات لأنه كان في عجلة من أمره . أنظروا جميعاً ! هذه الكرمة تخص هذه القرعة . لا أحد يشك في ذلك . وهذه الأخرى هي لتلك القرعة المنتفخة ها هنا . هذه الكرمة العريضة تخص هذا المكان بالضبط ! هل ترون ؟ هذه تذهب ... "
    (5)
    وأستمر العم بيتر يضع كل كرمة على القرعة المقصودة التي تنتمي لها . لم يكن هناك أدنى شك بشأن ذلك . لقد عرف القرعات بإتقان ، كما عرف من كان يملك من بالضبط ! ممــا أثار حفيظة الحاضرين الذين قالوا : " هذا صحيح . الرجل المسن على صواب . أنظروا ! تلك الكرمة تذهب هنا والأخرى تذهب هناك . لا شك في ذلك ..... "
    على أن مدير الأسواق أضاف قائلاً : " انه دليل جلي . "
    تماماً في هذا الوقت عم الفرح الناس الذين انفجروا ضاحكين يتبادلون الكلام في الوقت نفسه . كما كان العم بيتر مغموراً بالفرح أيضاً . وبدأ هو الآخر يضحك أيضاً . إلا أن الدموع ماانفكت حبيسة عينيه .
    ومما لا شك فيه فإن رجال الشرطة قبضوا على (لوبز) واقتادوه إلى السجن ، إذ توجب عليه إعادة مبلغ ثلاثين دولاراً سبق وقبضه ثمناً للقرعات!
    وهكذا عاد العم بيتر إلى روته وكله قناعة . وبينما كان في الطريق ردد مع نفسه عدة مرات :
    " ما أحلى تلك القرعات وهي تفترش السوق ! على الأقل ، وحسرتاه تترك هنـــــــاك ! ...... قرعات لطيفة كهذه ..... (مانيوويلا) ، (بيبيتا) ، .....




  6. #6

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    (9) قصة لويس برايل
    ترجمة : قحطــان فؤاد الخطيب / العراق

    يحتمـل سماع كل شخص عن نظام برايل للقراءة الخاص بالمكفوفين ، بيد أن القليل منهم يعرف لماذا يدعى نظام برايل ، أو من كان لويس برايل .
    في عام 1812 كان لويس برايل صبياً صغيراً . فقد عاش في بلدة صغيرة بفرنسا . وامتلك أبوه دكاناً صغيراً حيث كان يصنع فيه أشياء جلدية . وفي أحد الأيام كان لويس يلعب في دكان أبيه ، والتقط آلة صغيرة ذات نتوء حاد جداً . وسقط أرضاً ثم دخل النتوء في عينه . وفيما بعد أصبح مكفوفاً في كلتي عينيه .
    وبالرغم من كونه في ربيعه السابع أو الثامن ، إلا أنه وجب عليه المشي بعكاز لكي يتحسس إلى أين كان ذاهباً . وشعر سكان البلدة بالأسف حينما رأوا الصبي الصغير مكفوفاً بالكامل أثناء تحسسه الطريق على طول الشوارع بعكازه لكي يجد الاتجاه المطلوب .
    وبعد بضعة سنين ذهب لويس إلى مدرسة خاصة بالمكفوفين في باريس حيث تعلم هناك القراءة . أي بمعنى آخر تعلم كيفية التمييز بين الستة والعشرين حرفاً من الأبجدية ، بتحسسها بأصابعه . إلا أن الحروف كانت بضعة بوصات أعلى وأعرض . ومن الطبيعي فهذه طريقة بدائية للقراءة . فمقال مقتضب جداً ملأ بضعة كتب ، وكل كتاب كان ذا وزن ثمانية أو تسعة أرطال !
    وأصبح لويس فيما بعد معلماً بنفس تلك المدرسة . وأراد كثيراً إيجاد نظام أفضل للقراءة الخاصة بالمكفوفين ، غير أن ذلك لم يكن سهلاً . ففي أحد الأيام ، وأثناء زيارته للبيت ، قال لأبيه :
    " الناس المكفوفون هم الأكثر عزلة في ألعالم . وأنا أستطيع تمييز طائر من آخر عن طريق صوته . كما أستطيع معرفة باب البيت بتحسس يدي . ولكن هناك أشياء لا حصر لها لا تمكنني من السماع والتحسس . إن الكتب فقط تستطيع تحرير المكفوفين .غير أنه لا توجد كتب كي نقرأها . "
    ثم ، وأثناء جلوس لويس في مطعم ، مع صديقه الذي كان يقرأ مقالاً في جريدة إلى لويس ذات يوم ، عن ضابط ، برتبة رائد في الجيش الفرنسي ، والذي تمكن من استعمال نظام للكتابة في الظلام أطلق عليه " الكتابة الليلية " . وفي هذه الكتابة أستعمل الرائد نظام النقاط والفواصل حيث رفعت على الورقة لكي يتمكن الشخص من تحسسها بأصابعه .
    وعندما سمع لويس حول هذا النظام ، كان مسروراً جداً حيث شرع يتكلم بصوت عال وهو يذرف الدموع :
    " أرجوك ، يا لويس , " قال صديقه . " ما الأمر ؟ كل شخص يتطلع إليك ! "
    " وأخيراً وجدت الجواب لمعضلة المكفوفين " .
    قال لويس " الآن بإمكان الناس المكفوفين التحرر " .
    وفي الصباح التالي ذهب لويس مع صديقه لرؤية رائد الجيش حيث سأله عن نظامه ، فكان الأخير يقول بأنه أستعمل آلة ذات نهاية مدببة لعمل الثقوب ( النقاط ) والفواصل الصغيرة على ورق سميك . وكان بإمكان الشخص تحسس النقاط والفواصل على الجهة الأخرى من الورقة . لقد كانت علامات معينة تدل على شيء واحد . إن الآلة التي استعملها رائد الجيش كانت نفس نوع الآلة التي لعب بها لويس سابقاً ، عندما سقط أرضاً في أحد الأيام ودخل النتوء في عينه .
    قال لويس " أنا متأكد بأننا نستطيع استعمال هذا النظام لمساعدة المكفوفين في القراءة مع إعطائهم كتباً . "
    لقد كان يوماً بديعاً بالنسبة إلى لويس . وفيما بعد مضى يدرس هذا النظام الجديد لتطبيقه على المكفوفين . فقد درس طرقاً مختلفة لعمل النقاط والفواصل على الورق . وأخيراً توصل إلى نظام بسيط استعمل من خلاله ست نقاط خلال فراغ صغير واحد . وبهذه النقاط الست ، وبأوضاع مختلفة خلال نفس الفراغ ، تمكن من عمل (63) مجموعة مختلفة ، أشارت كل مجموعة إلى حرف من الأبجدية أو إلى كلمة قصيرة . حتى أن هذه المجاميع اشتملت على علامات التنقيط ، ونحو ذلك ، مما دعا لويس فوراً إلى تأليف كتاب مستعملاً نظام " برايل " .
    في البداية لم يصدق الناس بأن نظام لويس برايل كان ممكناً أو عملياً . وفي أحد المرات تكلم لويس أمام جمع من الناس ، مبينا كيف تمكن من الكتابة باستعمال تلك النقاط على الورقة تقريباً ، بنفس السرعة التي تمكن بها شخص ما من القراءة له . ثم أعاد قراءة ما سبق وكتبه بسهولة . لقد قالوا بأن ذلك مستحيل التطبيق . كما قالوا بأن لويس تعلم عن ظهر قلب ما قرأه لهم . وفي كل مكان حدث نفس الشيء 0 الناس لم يصدقوا لويس . وفي بعض الحالات لسبب ما أو لآخر لم يرغبوا في تصديقه . وحتى أن الحكومة الفرنسية لم ترغب في سماع أي شي يخص نظام لويس ، قائلين إنهم كانوا قبل الآن يفعلون أي شي ممكن لأجل المكفوفين .
    وأستمر لويس في العمل بنظامه . والآن أضحى رجلاً جد مريض . وفي كل عام كان مرضه يزداد ، لكنه استمر يعمل ويعمل بنظامه مطوراً إياه . وأستنبط الإشارات لموضوع الرياضيات إضافة إلى الموسيقى . ففي أحد الأيام كانت تعزف بنت مكفوفة منذ ولادتها على البيانو بشكل بديع جداً أمام جمهور غفير ، حيث استمتع كل واحد منهم بذلك . ثم نهضت الشابة وقالت بأن الجمهور لا يجب عليه شكرها لأدائها البديع . يجب عليهم شكر لويس برايل الذي سهل لها طريقة تعلمها الموسيقى والعزف على البيانو . كما أخبرتهم بأن لويس برايل كان رجك مريضاً على فراش الموت .
    وفجأة وبعد عدة سنوات أصبح كل شخص مهتما بلويس برايل ، إذ كتبت الصحف عنه كما أصبحت الحكومة مهتمة بنظامه الخاص بالقراءة للمكفوفين . لقد ذهب أصدقاء لويس إلى بيته لرؤيته حيث كان راقداً في سريره . وأخبروه بما حدث حين شرع يبكي قائلاً :
    " هذه هي المرة الثالثة في حياتي أبكي فيها . لقد بكيت أولاً عندما أصبحت مكفوفاً كما بكيت ثانياً عندما سمعت عن (( الكتابة الليلية )) . والآن أبكي لان حياتي لم تكن فاشلة " .
    وبعد بضعة أيام مات لويس برايل وهو في الثالثة والأربعين من العمر .
    مترجمة عن كتاب
    elementary reader in english for the foreign born


  7. #7

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    (11) قصة قصيرة
    الحميــــر الجامحــة
    قحطــــــان فؤاد الخطيب / العراق

    ما أن لاحت تباشير الغسق حتى اصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين . وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير ، كعادتهم ، يتقاطرون الواحد تلو الآخر : هذا بثوب أكل عليه الدهر وشرب ، وذاك بسترة مقطعة الأزرار ، غير آبه بحرارة تموز ، وثالث ما أنفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......

    أجساد متعبة ، يكسو رؤوسها شعر ناصع البياض . وترتسم على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً وكأن لسان حالها أوشك أن يقول :
    نحن في خريف العمر ، ولكن ..... !

    كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد ، بيد أنهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا . أو هكذا دلت نقاشاتهم الصبيانية ، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في أحلام يقظة. أو قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول
    !
    لقد جمعت بينهم خيوط عديدة ، لعل أبرزها : إحالتهم على المعاش ، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد ، وشغفهم بلا محدود بلعبة الدومينو بموارد مالية جد بائسة وضيقة . فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية ، إضافة إلى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم ، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه ، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و
    و............................

    لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش :
    (خمس استكانات شاي سنكين) *. وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم . وقد تحسبني من رواد المقهى مثلهم ، المدمنين ، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى ، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء .

    وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون أخر ، لدرجة تخال وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !

    لقد اجتمعت فيهم المهن كافة : فهذا معلم ، وذاك محام ، وثالث مهندس وعامل . فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا . بيد أن قاسما مشتركاً أعظما جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!

    ويبدو أنهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً . وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي وهي تصدح في أذني والتي طالما رددها أبي قائلا :
    - " يا ولدي . أنت في العاشرة من العمر . أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير . اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك . أصغ إلى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب ! "

    لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي ، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني ، يحدوني الأمل اقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون نقاشاتهم ، الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف ، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام . وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير .

    لقد كان شهراً تموز يا مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم ، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين :
    -" يا حسن . تعال وسجل لنا . وثمن الشاي مدفوع عنك سلفا. "

    أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي . واندمجوا في لعبتهم الروتينية . وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً ، السيد (ع) يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ ، لم يلفت نظر أحد غيري . فقد انصب جل تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه ، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ إلى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم .

    " المسألة جد سهلة . " قال الراوي الخبيث . " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً . ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر . رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين متتاليين . بعدها ، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الأوربيين هذه الوصفة السحرية . وبقدرة قادر أضحوا صبياناً . أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة . "

    راقت هذه الوصفة من رجل ، كما يبدو ، مجرب ، للسيد (ع) وشده الرقم (مئات) والكلمة (أوربيين) . وسال لعابه . وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب ، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهرى الأفواه ، مشدوهين . لقد أراد أكبرهم سناً استيضاح الأمر من الخبيث ، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه.

    وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة . وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة ، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه . وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي . وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بينهم سادسهم ، مسجل الألعاب . وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت . لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم إلى صباهم ، تصور ......... !

    ومضوا يضربون أخماساً بأسداس . " إذا تكللت المحاولة بالنجاح ، " يقول م" سوف
    أتزوج ! " ويسخر منه (ل) قائلاً : " قبل أيام ودعت عقدك السابع . فمن يا ترى ، سعيدة الحظ ترضى بك ؟"

    أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب إليها الآن ، وأهديها رقية ، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة . " صاح آخر وهو يمضغ الجملة . " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة ، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً . سأطبق التعليمات بحذافيرها . عمتم مساءاً "

    أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي ، يحدوهم الأمل برجوع الشباب إليهم ، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم .
    لقد حاولوا المضي ، على غير عادتهم ، للعودة إلى بيوتهم مبكراً ، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم ، حالمين وهم في مطبخ الدار يتحركون بحركات مشوبة بالانفعال والترقب ، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأواني لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية متقيدين بأدق تفاصيلها ، وهم يتلون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم . اختلطت عليهم الأمور . وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع . الآن هم حقاً تائهون .
    في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها . وتمادى في إطرائها معززاً إياها بالأرقام والإحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !

    وكاد الفضول يدفعهم لاستيضاح المزيد . إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك . وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ! وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن إلى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .

    في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر ، يحدق شمالاً ويميناً ، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث إلى أن التأمت المجموعة باستثناء الخبيث .

    وهنا ألمح أحدهم ثانية إلى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف . فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء . ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسئول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس) ، فهو طريح الفراش ، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة . ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم ! "
    فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً : " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على إتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "

    أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . إنني أعاني الآن من مغص شديد . نحن حمير جامحة ليس إلا . ذخيرتنا خلب . وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام أسرنا وأنفسنا . "

    بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً :
    " كيف صدقناه ومضغنا قشور الرقي ؟ واحسر تاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... إلى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والانفعال والألم .

    " أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم ، الحادي عشر من تموز 1965 ، مهما كانت الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! "

    * (خمس أقداح شاي مركز)

  8. #8

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    (11) قصة قصيرة
    الحميــــر الجامحــة
    قحطــــــان فؤاد الخطيب / العراق

    ما أن لاحت تباشير الغسق حتى اصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين . وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير ، كعادتهم ، يتقاطرون الواحد تلو الآخر : هذا بثوب أكل عليه الدهر وشرب ، وذاك بسترة مقطعة الأزرار ، غير آبه بحرارة تموز ، وثالث ما أنفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......

    أجساد متعبة ، يكسو رؤوسها شعر ناصع البياض . وترتسم على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً وكأن لسان حالها أوشك أن يقول :
    نحن في خريف العمر ، ولكن ..... !

    كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد ، بيد أنهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا . أو هكذا دلت نقاشاتهم الصبيانية ، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في أحلام يقظة. أو قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول
    !
    لقد جمعت بينهم خيوط عديدة ، لعل أبرزها : إحالتهم على المعاش ، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد ، وشغفهم بلا محدود بلعبة الدومينو بموارد مالية جد بائسة وضيقة . فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية ، إضافة إلى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم ، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه ، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و
    و............................

    لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش :
    (خمس استكانات شاي سنكين) *. وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم . وقد تحسبني من رواد المقهى مثلهم ، المدمنين ، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى ، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء .

    وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون أخر ، لدرجة تخال وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !

    لقد اجتمعت فيهم المهن كافة : فهذا معلم ، وذاك محام ، وثالث مهندس وعامل . فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا . بيد أن قاسما مشتركاً أعظما جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!

    ويبدو أنهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً . وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي وهي تصدح في أذني والتي طالما رددها أبي قائلا :
    - " يا ولدي . أنت في العاشرة من العمر . أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير . اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك . أصغ إلى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب ! "

    لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي ، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني ، يحدوني الأمل اقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون نقاشاتهم ، الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف ، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام . وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير .

    لقد كان شهراً تموز يا مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم ، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين :
    -" يا حسن . تعال وسجل لنا . وثمن الشاي مدفوع عنك سلفا. "

    أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي . واندمجوا في لعبتهم الروتينية . وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً ، السيد (ع) يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ ، لم يلفت نظر أحد غيري . فقد انصب جل تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه ، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ إلى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم .

    " المسألة جد سهلة . " قال الراوي الخبيث . " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً . ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر . رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين متتاليين . بعدها ، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الأوربيين هذه الوصفة السحرية . وبقدرة قادر أضحوا صبياناً . أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة . "

    راقت هذه الوصفة من رجل ، كما يبدو ، مجرب ، للسيد (ع) وشده الرقم (مئات) والكلمة (أوربيين) . وسال لعابه . وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب ، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهرى الأفواه ، مشدوهين . لقد أراد أكبرهم سناً استيضاح الأمر من الخبيث ، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه.

    وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة . وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة ، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه . وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي . وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بينهم سادسهم ، مسجل الألعاب . وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت . لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم إلى صباهم ، تصور ......... !

    ومضوا يضربون أخماساً بأسداس . " إذا تكللت المحاولة بالنجاح ، " يقول م" سوف
    أتزوج ! " ويسخر منه (ل) قائلاً : " قبل أيام ودعت عقدك السابع . فمن يا ترى ، سعيدة الحظ ترضى بك ؟"

    أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب إليها الآن ، وأهديها رقية ، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة . " صاح آخر وهو يمضغ الجملة . " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة ، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً . سأطبق التعليمات بحذافيرها . عمتم مساءاً "

    أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي ، يحدوهم الأمل برجوع الشباب إليهم ، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم .
    لقد حاولوا المضي ، على غير عادتهم ، للعودة إلى بيوتهم مبكراً ، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم ، حالمين وهم في مطبخ الدار يتحركون بحركات مشوبة بالانفعال والترقب ، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأواني لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية متقيدين بأدق تفاصيلها ، وهم يتلون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم . اختلطت عليهم الأمور . وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع . الآن هم حقاً تائهون .
    في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها . وتمادى في إطرائها معززاً إياها بالأرقام والإحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !

    وكاد الفضول يدفعهم لاستيضاح المزيد . إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك . وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ! وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن إلى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .

    في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر ، يحدق شمالاً ويميناً ، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث إلى أن التأمت المجموعة باستثناء الخبيث .

    وهنا ألمح أحدهم ثانية إلى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف . فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء . ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسئول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس) ، فهو طريح الفراش ، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة . ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم ! "
    فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً : " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على إتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "

    أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . إنني أعاني الآن من مغص شديد . نحن حمير جامحة ليس إلا . ذخيرتنا خلب . وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام أسرنا وأنفسنا . "

    بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً :
    " كيف صدقناه ومضغنا قشور الرقي ؟ واحسر تاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... إلى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والانفعال والألم .

    " أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم ، الحادي عشر من تموز 1965 ، مهما كانت الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! "

    * (خمس أقداح شاي مركز)

  9. #9

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة

    (11) قصة قصيرة
    الحميــــر الجامحــة
    قحطــــــان فؤاد الخطيب / العراق

    ما أن لاحت تباشير الغسق حتى اصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين . وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير ، كعادتهم ، يتقاطرون الواحد تلو الآخر : هذا بثوب أكل عليه الدهر وشرب ، وذاك بسترة مقطعة الأزرار ، غير آبه بحرارة تموز ، وثالث ما أنفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......

    أجساد متعبة ، يكسو رؤوسها شعر ناصع البياض . وترتسم على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً وكأن لسان حالها أوشك أن يقول :
    نحن في خريف العمر ، ولكن ..... !

    كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد ، بيد أنهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا . أو هكذا دلت نقاشاتهم الصبيانية ، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في أحلام يقظة. أو قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول
    !
    لقد جمعت بينهم خيوط عديدة ، لعل أبرزها : إحالتهم على المعاش ، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد ، وشغفهم بلا محدود بلعبة الدومينو بموارد مالية جد بائسة وضيقة . فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية ، إضافة إلى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم ، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه ، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و
    و............................

    لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش :
    (خمس استكانات شاي سنكين) *. وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم . وقد تحسبني من رواد المقهى مثلهم ، المدمنين ، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى ، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء .

    وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون أخر ، لدرجة تخال وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !

    لقد اجتمعت فيهم المهن كافة : فهذا معلم ، وذاك محام ، وثالث مهندس وعامل . فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا . بيد أن قاسما مشتركاً أعظما جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!

    ويبدو أنهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً . وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي وهي تصدح في أذني والتي طالما رددها أبي قائلا :
    - " يا ولدي . أنت في العاشرة من العمر . أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير . اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك . أصغ إلى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب ! "

    لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي ، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني ، يحدوني الأمل اقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون نقاشاتهم ، الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف ، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام . وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير .

    لقد كان شهراً تموز يا مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم ، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين :
    -" يا حسن . تعال وسجل لنا . وثمن الشاي مدفوع عنك سلفا. "

    أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي . واندمجوا في لعبتهم الروتينية . وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً ، السيد (ع) يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ ، لم يلفت نظر أحد غيري . فقد انصب جل تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه ، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ إلى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم .

    " المسألة جد سهلة . " قال الراوي الخبيث . " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً . ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر . رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين متتاليين . بعدها ، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الأوربيين هذه الوصفة السحرية . وبقدرة قادر أضحوا صبياناً . أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة . "

    راقت هذه الوصفة من رجل ، كما يبدو ، مجرب ، للسيد (ع) وشده الرقم (مئات) والكلمة (أوربيين) . وسال لعابه . وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب ، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهرى الأفواه ، مشدوهين . لقد أراد أكبرهم سناً استيضاح الأمر من الخبيث ، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه.

    وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة . وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة ، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه . وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي . وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بينهم سادسهم ، مسجل الألعاب . وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت . لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم إلى صباهم ، تصور ......... !

    ومضوا يضربون أخماساً بأسداس . " إذا تكللت المحاولة بالنجاح ، " يقول م" سوف
    أتزوج ! " ويسخر منه (ل) قائلاً : " قبل أيام ودعت عقدك السابع . فمن يا ترى ، سعيدة الحظ ترضى بك ؟"

    أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب إليها الآن ، وأهديها رقية ، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة . " صاح آخر وهو يمضغ الجملة . " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة ، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً . سأطبق التعليمات بحذافيرها . عمتم مساءاً "

    أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي ، يحدوهم الأمل برجوع الشباب إليهم ، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم .
    لقد حاولوا المضي ، على غير عادتهم ، للعودة إلى بيوتهم مبكراً ، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم ، حالمين وهم في مطبخ الدار يتحركون بحركات مشوبة بالانفعال والترقب ، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأواني لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية متقيدين بأدق تفاصيلها ، وهم يتلون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم . اختلطت عليهم الأمور . وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع . الآن هم حقاً تائهون .
    في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها . وتمادى في إطرائها معززاً إياها بالأرقام والإحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !

    وكاد الفضول يدفعهم لاستيضاح المزيد . إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك . وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ! وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن إلى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .

    في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر ، يحدق شمالاً ويميناً ، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث إلى أن التأمت المجموعة باستثناء الخبيث .

    وهنا ألمح أحدهم ثانية إلى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف . فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء . ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسئول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس) ، فهو طريح الفراش ، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة . ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم ! "
    فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً : " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على إتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "

    أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . إنني أعاني الآن من مغص شديد . نحن حمير جامحة ليس إلا . ذخيرتنا خلب . وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام أسرنا وأنفسنا . "

    بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً :
    " كيف صدقناه ومضغنا قشور الرقي ؟ واحسر تاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... إلى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والانفعال والألم .

    " أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم ، الحادي عشر من تموز 1965 ، مهما كانت الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! "

    * (خمس أقداح شاي مركز)

  10. #10

    رد: قصة قصيرة / فانوس الاشارة





    Stray Ports
    &
    Other Stories


    By
    Ibrahim S. Nadir

    Translated by
    Qahtan F. AL-Khatib




    2011





    Story (1)
    A Desire in the Pit of Fear
    Translated by : Qahtan F. AL-Khatib
    juror_qahtan1@yahoo.com

    They have slapped him, tore his clothes to pieces and sent him as well as his donkey to the village road. He went on shaking on his bewildered donkey gazing at the dry yellow fields as they extended alongside the road.
    It was a hot day and he felt that he was wrapped with a thick throttle (blanket). He burst out crying of rage swallowing his inhalations and remembering how they leaped on him suddenly without knowing anything when one of them cried out blocking the way. Then they gathered dragging him off his donkey shouting :
    “ ... What do you want sons of ........... ! ? “
    He wanted to run away, ........... and, ..........., ........... and ........... !
    But he tried to forget now. They took ten dinars, which were all he had, out of his pocket. One of those bastards became angry when he was disappointed. He snatched his colored bread towel in front of him then kicked the animal’s abdomen and cried :
    “ Dee ........... kh. “
    He beat the donkey on its rear laughing with disapprobation. He was not a coward at all. He tried to defend himself and struggle. But they were five. He now wishes with a mad desire howling in his inside that one or even two of them fell in his grip so as to teach them the Act of bravery, but they were five.
    He went on imaging those strangers hung from their legs and beaten with a strong and stiff whip. He burst into laughter wildly: ‘Ah ........... ! if they were in my grip now. Oh God ........... ! He shall take out the dinars of their intestines, teach them how to humiliate them and whinny them. Then, he will be the happiest man in the world as they are crying and beseeching him.
    “ Your hand ........... Let us kiss your hand ........... Be merciful to us.
    God bless you ........... Repentance ........... For God’s sake.
    He felt some ecstasy. Then he looked at the yellow condensed space around him. He got lost among his thoughts. So did his donkey as well.
    His body trembled and he constringed his lips by a sudden movement. It must be the bastards again. But he was a dwarf man with a Negroid look, who came of under a dry tree. He was approaching him but he was on the alert. His eye lids movement increased.
    The dwarf approached him out of breath. Then he raised his eye and cried :
    “ I am your companion to the village. ........... God bless you. The dwarf got on the donkey grumbling.
    The donkey was heavy loaded, bewildered and ambled from side to side. The man was small-sized, snub-nosed and soft-voiced. He was similar to the male of the goats in a funny way. He heard rattling and then a sound of strong spitting on the ground. he coughed. It was his strange desire. No. He shall never do that. There is God and mercy. The man looked poor and good. But, did those cursed scoundrel pity him ? Did they sympathize with him ? They beat him so much. He is still moaning and suffering from the beating.
    He turned round the dwarf. He was whispering and mumbling. His pupils of the eye got lost at the bottom of the yellow horizon. He was counting by his fingers as if he were transmigrated by some matter. Then he felt him rubbing his abdomen. He was still lost among his calculations. He tried to say something, opened his mouth then he began to pronounce strange meaningless things. He was red-eyed and inflated. He tried to cry with a dry voice as the bastard did with him.
    “ Take out your money ........... Come on ........... !
    He was completely stupid as his donkey. He got mixed up. He importuned in his speech. Pronounced empty sounds that meant nothing at all. But the dwarf paid attention to him putting his hand on his ear saying :
    “Ha ........... ? What ........... ? I didn’t understand ........... ! “
    He is, in fact, a donkey.
    His enthusiasm faded away suddenly. He became coward. He bent on his donkey with a stiff face. He pinched his neck and cried :
    “ Dee ........... kh ! “
    No. It is not a donkey. It is a ......................................... mouse. “

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قصة قصيرة: (11) فانوس الإشارة !
    بواسطة قحطان الخطيب في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-05-2016, 02:11 PM
  2. حكاية فانوس رمضان
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان المناسبات
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-16-2016, 01:25 AM
  3. أصنع فانوس رمضان من الورق
    بواسطة هيثم طلال هاشم في المنتدى فرسان الأشغال اليدوية.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-23-2012, 06:35 PM
  4. قصص قصيرة 32
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 12-23-2011, 05:24 AM
  5. أول قصة قصيرة أقصوصة قصيرة
    بواسطة معاذ العُمري في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-27-2009, 04:36 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •