منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: شمس الليل

العرض المتطور

  1. #1

    شمس الليل

    بسم الله الرحمان الرحيم
    شمس الليل
    وحيدة فتاة من دمي ولحمي.. مات أبوها وانقطعت عن الدراسة، فهربت بلا وعي إلى إيطاليا..
    إيطاليا التي يحلم بها العشرات مثلها، منحتها إقامة شرعية رغم أن وجودها فيها غير شرعي..
    وبعد نفاد صبرها من كثرة الوعود، والحلم بالمستقبل المضيء.. جالت في مدينة بالارمو، بحثا عن عمل شريف يحفظ لها ماتبقى من كرامتها المهدورة.. حتى حفظت تلك الشوارع الفارعة كل تقاسيم وترانيم تلك الفتاة.. وهي تدندن عازفة دموعها إيقاع تلك التواشيح والمواويل الحزينة على أنغام الموسيقى العربية المترسخة في مخيلتها..
    تراكم دينها ليصل الأمر حد المساومة على شرفها، هكذا فاجأها زوج أو عشيق المرأة التي أتت بها إلى إيطاليا، رغم أن هاته المرأة التي من بلدها هي من ضمنت لها استخراج أقامة مؤقتة أصبحت فيما بعد طويلة المدى.. وأسكنتها عندها.. فكم مرة سألت نفسها عن ماهية ذلك الرجل من بلدها أيضا، الذي لا وقت لدخوله كما لا يوجد وقت لخروجه.. ورائحة الكحول والمشاريب تملأ المكان.. وغالبا مايكون سكران.. لكن الآن لا يهم، لم يعد عندها فرق، الأمر الذي جعلها تتوسل العمل لكل من ترى فيه إمكانية مساعدتها..
    وجد لها بعض الطيبون عملا ألا وهو الإعتناء بسيدة مسنة، وافاها الأجل بعد أسبوع من عملها لديها، حتى أنها لم تحصل حتى على أجرة ذلك الأسبوع.. وكلما أزدادت حدة المساومة كلما توسلت وتسولت كل البشر حتى الحشر طلبا لرزق حلال يكفيها، ويخول لها دفع المبلغ المهول لتلك المرأة مقابل إتيانها بها إلى إيطاليا، بعدما افتكت منها كل أوراق الثبوتية التي بحوزتها رهينة.. وإلا سقطت في الرذيلة..
    وأخيرا حن عليها القدر لتجد عملا عند سيدة صاحبة سلسلة من المطاعم في بالارمو، مطلقة وأم لولد في العشرين من عمره مصابة بمرض غير معروف.. لتموت بعد أربعة أشهر، لتعود وحيدة لمواصلة رحلة الألف مصيبة ومصيبة..
    إحتقنت كل دماء الكون في وجهها.. إزدحمت كل الكلمات على عتبة لسانها.. تجمع كل ظلام اليابسة في عينيها.. تشظت قواها.. وتشتت بصرها وبصيرتها.. وفاضت دموع يأسها الجبان.. حاصرها ذلك الرجل الحشرة.. استجدته فرصة أخيرة فلم تفلح في إقناعه.. فوجدت نفسها وفي لحظة الإصطدام الحاد بعد أن تعالت همسات التوسلات إليه حد الصراخ مستجدية فرصة أخيرة.. وجدت نفسها تهوي بين ذراعيه كحمامة مكسورة الجناحين ساقطة في فخ المصير، مستسلمة لعدم إمتلاكها خيارات أخرى..
    هي خيرة، حنونة، لم تكن مثالا في الإستقامة.. ولكنها من تلك اللحظة أصبحت ذيلا في الدعارة.. مرددة المثل القائل: "باع دارو وكرا عند جارو"، أي من يتنازل عن أعز مايملك مرة يمكن له أن يتنازل مرات..
    بدأ إسمها يلمع بين زوار الليل لجمالها وكثرة تزينها واختيار ثيابها الجذابة التي ترى على نور السيارات من بعيد.. فأطلق عليها إسم "شمس الليل".. بعد أن استسلمت إلى حياة الرذيلة..
    تذكرت وأنا أطالع وأراقب تلك الفتاة الآتية من وراء البحار، وهذه الكنية الجديدة التي التصقت بها كالقرادة ـ اليراعة ـ تلك الحشرة التي قص علي عمي قصتها وأنا صغير حين سألته عن اسمها، وسبب ضوئها في ظلام الليل.. فأجابني بأن إسمها شمس الليل، تنير الطرقات للضالين..
    ربما عمي لا يعرف حقيقة إسم تلك المخلوق العجيب فسمّاها شمس الليل.. أو ربما أحرجته بسؤالي وقتها عن سر نور تلك الكائنات الصغيرة، التي تصدر الضوء ليلا، ثم تنقطع، ثم تعيد اللمعان، وهكذا.. فأسكتني بذاك الجواب. ولو بحثت عن سبب هذا اللمعان الذي تصدره تلك المخلوقات وما الغرض منه؟ لما وجدت جوابا شافيا.. بل من الغريب أنه حتى العلماء مندهشين من ضوء اليراعة، لأن هناك عدة أمور لا يستطعون تفسيرها بالنسبة لهذا الضوء.. وأما عن الغرض من هذا الضوء في اليراعة، فمنهم من قال أن الفائدة منه هو مساعدة اليراعة على أيجاد الذكور.. وهذا تماما ماتفعله شمس الليل عندما تلبس تلك الألبسة الشبه عارية.. العاكسة لضوء السيارات، التي تمتاز بها هي وحدها من دون الأخريات مثلها.. الذي هو بمثابة إنذار للذكور الباحثة عن أنثى ليلا.. حتى تتعرف في الظلام على شمس الليل الواقفة على قارعة الطريق.. فلو وقفت مدة من الوقت لرأيت شمس الليل تظلم الطرقات للمهتدين.. وتنير الرصيف للغاوين.. أي هي تظهر ثم تختفي بمجرد أن تجد "زبونا".. ثم تعيد اللمعان بمجرد أن تطفأ لزبونها ماتبقى له من بصيرة، بعد أن يتركها تتمايل عائدة لممارسة بغائها الليلي..
    سألت ذات مرة إن كانت خائفة من أن يعرفها أحد ويخبر ذويها بما أنها في مدينة يسكنها كثير من العرب؟ قالت: إن كان هناك من يعرفني.. فلن يقول شيئا.. لأننا في الهوا سوا.. هو يشتري وأنا أبيع..
    سألت أحدهم يعرف تضاريس جسمها جيدا بعدما أكد لي أنها فتاة تساعد الناس، وأنه هو كذلك يحاول مساعدتها بإعطاها أكثر مما تطلب: لم تحاول تبرير عملك..؟ وتأخذ ما يمكنك من متعة الفتاة..؟ ولا أظنها متعة إنما هي خيبة، تتصرف بكل قذارة يمكن أن يفرضها وضع كهذا..
    ألا تفكر بعد قضاء حاجتك أنك لست بأفضل من تلك العاهرة...؟ أنت قذر.. أنت تافه..
    ألست أنت جزء من من ذلك كله..؟ ألم ترى فيها إحدى شخصياتك الغارقة في المستنقع.. التافهة..؟
    ألم تشعر بفجأة الندم بعد عملك السيء ذلك..؟ ألم يكن ضميرك يوخزك..؟ لم تصرف المال الذي آتاك الله على متعة مؤقتة..؟
    من العاهرة..؟ هل هي تلك الفتاة التي باعت جسدها..؟ أم أنت الذي جاء إلى مكان كهذا..؟ وأنثى كتلك..؟
    نظر إلي، لكنه لم يكن قادرا على قراءة تلك التسائلات..
    عادت شمس الليل في عطلة قصيرة إلى بلدها بعدما أضحت متأرجحة بين القهر والتقهقر.. لكنها وسط أمواج الرذيلة، لم تنس جيرانها وأقاربها مغدقة عليهم المال، غير مكلفين أنفسهم عناء السؤال عن كثرة تلك الأموال التي تأتي بها.. ربما خوفا من جواب يصدمهم.. أو خشية من توقف تلك العطايا عند معرفة الحقيقة.. أو ربما هم فقط لا يهمهم الأمر مادامت بعيدة عنهم.. معتقدة هي أنها تقوم بما يمكن وصفه بغسيل الشرف.. تشعر من خلال تلك المساعدات بما يشبه المخدر للضمير.. وبقيت على هذا المنوال سنوات تقدم خطوة وتأخر أخرى.. بين التوبة والتطبع.. مرة توصلها نفسها اللوامة إلى اليقين، بأنها غارقة في وحل الرذيلة حد النخاع ولهذا يلزمها التطهر.. وتارة تقنع نفسها الأمارة أنه بغاء من أجل البقاء...
    تسأل نفسها مرة ومرات عند محاولة تبرير صنيعها: ألم يغلق الشرف كل أبوابه بوجهها الشاحب من الوجعين: وجع الفجيعة في والدها، ووجع الغربة..؟ ألم يخذلها وطنها بكل مافيه ويتركها فريسة للضياع..؟ ألم يكتفي كل الشرفاء من حولها بدور المتفرج، وكأنها ممثلة على خشبة مسرح..؟ ألم تتوسل حد التسول عملا شريفا..؟ ألا يكفي الشمس والقمر وشوارع بالارمو التي خاطتها طولا وعرضا حتى حفظت كل آهاتها شهود عدل..؟ هل ستتخلى عنها دموعها عند ربها حين تسأل لماذا لم تسعى للرزق الحلال..؟ ألم تكن شاهدة عليها تلك الدموع التي خطت خارطة أحزانها على خدودها الذبلى، وكانت دليلها في كل طرق وحارات وأزقة ودكاكين الحلال..؟
    ألا تشفع لها هذه وتلك وهؤلاء وأولائك وهم كثر..؟
    وبعد تلاوة كل هذه التبريرات ظهر كل يوم، تخلد إلى النوم وكأنها أتمت صلاتها، لتصحو على ليل عهر جديد...

  2. #2

    رد: شمس الليل

    السلام عليكم
    لماذا أغلقت الأبواب الشريفة الأبواب في وجهها؟
    لماذا تفتح أبواب الرذيلة للجميع؟
    لماذا لانجد بابا واحدا شريفا يحتوينا او لماذا هي قليلة نادرة مواربة؟
    ولماذا رحلنا عمن يبقى القرب منهم رغم الخذلان أفضل مما عند الغرب؟
    ولماذا يشهر المثقف الفقير على أكتاف العهر؟.
    أسئلة عديدة تسأل للذين سكنوا صومعات نظيفة إلا من فكرهم ...
    قصة مؤلمة واكثر أذكرتني برفض امي دراستي في بلاد الغرب فكان لصالحي..........
    كن بخير
    تثبيت
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    قاص ومترجم
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,153

    رد: شمس الليل

    نص ثري يعكس مرارة واقع يقذف فيه الإنسان بلا اختيار
    شكرا لك أخي فتحي

  4. #4

    رد: شمس الليل

    شكرا أستاذة ؤيمة الخاني

  5. #5

    رد: شمس الليل

    السلام عليكم
    لن أضيف على ردود من سبقني سوى الشد على يدك لروعة سردك رغم الالم
    رغد
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  6. #6

    رد: شمس الليل

    شكرا لك أستاذة رغد على شدك على يدي، وشكر لكل من وجه النصيحة وكل من تعقبني بالكلمة الطيبة

المواضيع المتشابهه

  1. زوار الليل
    بواسطة رمزت ابراهيم عليا في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 06-27-2012, 01:41 PM
  2. سكن الليل طرب
    بواسطة فواز شمر في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-06-2010, 03:21 AM
  3. المحل
    بواسطة يعقوب القاسمي في المنتدى فرسان الخواطر
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 06-03-2010, 07:37 PM
  4. يا سيد الليل
    بواسطة عبد اللطيف غسري في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 09-03-2009, 10:23 PM
  5. عشق الليل
    بواسطة الهادي الزغيدي في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 08-30-2009, 02:26 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •