دهشة
لما نهى إليه الخبر ارتبك فاقتضب حديثه و أغلق سماعة الهاتف ، جلس على طرف السرير بهدوء و هو يسترجع و يحوقل ، تلاطثت أفكاره و ساط الأمر ملياً حتى وصل إلى القرار الذي أملاه عليه سلطان الواجب ، وجلس ينتظر حلول المساء و قد أبحر على متن تداعي الأفكار إلى موانئ الذكرى ، و راح يذكر ذاك "الجبل" حازر الوجه الذي إذا تلكم ارتعدت فرائص الرجال من هدرته " الظهير " الذي ما إن هز عصاه حتى تخر له النفوس صاغرة خوفا من جبروته و سطوته تنتظر إشارته "الغني" صاحب العقارات الضخمة و التجارات الواسعة .
و بدأ النهار يلملم أطراف ثوبه مصطحبا معه يوما آخر من أيام العمر ليتسلل المساء مصافحا وجه السماء من جديد .
استجمع بقايا جيشانه في جوشنه و نهض متكئا على عكازه ببطء و حذر خوفا من السقوط يريد الوضوء فلم يقو على ذلك فتيمم و صلى المغرب جالسا ،و سأل الله أن يعينه على أداء واجبه ، و بعد عدة محاولات و عناء استطاع بلوغ باب المنزل و خرج ، فطلب سيارة أجرة إلا أنه لم يتمكن من ركوبها ، فنزل السائق ليعينه و شاهد معاناته الكبيرة و بعد أن أجلسه داخل السيارة و جلس هو الآخر خلف المقود قال : إلى أي مشفى تريد الذهاب ؟
_ أنا بخير و الحمد لله .
_ لا أظن ذلك فأنت تئن لأبسط حركة .
_ بل أنا بخير فقط امض بنا لا أريد أن أتأخر و جزاك الله خيرا .
و في الطريق لم يستطع السائق أن يبكس فضوله فبادر سائلا : ما الذي يجعلك تخرج من بيتك و أنت على هذا الحال ..عساه خيرا !!
أرجو أن لا يكون سؤالي مزعجا .
فلم يسمع جوابا، و لكي يدفع عن نفسه الملل من الجلوس خلف المقود طوال اليوم أعاد سؤاله : نشدتك الله إلا أخبرتني و إن كان يلزمك شيئ آتيك أنا به .
_ لا يا أخي جزيت خيرا لا يلزمني إلا الوصول إلى بغيتي ،
عندها أخذ عبد الله نفسا عميقا بعمق معاناته و زفر زفرة طويلة و كأنه يلفظ نيران صدره خارجا
_إذا لن تخبرني رغم أني أريد أن أساعدك ، معك حق فأنا بالنسبة لك رجل غريب .
_ أستغفر الله يا أخي أما وقد سألتني فسأخبرك ، إنه حماي لقد توفي اليوم أطال الله في عمرك .
_ عظم الله أجركم .
_ شكر الله سعيكم .
_ لا بد أنه كان رجلا طيبا ، ولكن أين زوجك ؟
_ طلقتها .
_ ابنته طليقتك و تحضر عزاءه !! ربما كان قريبك ؟
_ كلا ليس قريبي هو والد طليقتي فقط.
_ أشم منك ريح طيب الإرس فهل أخبرتني بالمزيد ؟؟
عندها لم يتمالك عبد الله نفسه فانبجس الكلام من بين الصخور التي استقرت على صدره : لقد أُجبرتُ على تطليقها .
_ ماذا ؟
_ باختصار شديد كنت شرطيا و في أول عام من خدمتي أصبت بمرض يسمى ( الروماتويد ) و بناء على قرار اللجنة الطبية التي صرحت بأنني غير قادر القيام بعملي تقاعدتُ و عدتُ إلى مدينتي ، وجبتُ عدة بلدان بحثا عن علاج إلا أن الله تعالى لم يأذن بذلك ، فلزمت علاجي الذي لم يستطع إيقاف تمدد المرض في مفاصلي و نهشها يوما بعد يوم ، ونزولا عند رغية أمي رحمها الله و عائلتي تزوجت رغم رفضي التام للأمر و لم يكن حالي كما ترى الآن إطلاقا ، عملت محاسبا في شركة تلبيس المعادن و الصولجان و كنت أتقاضى راتبا جيدا عشت مع زوجتي_ تسع سنوات _ حياة هانئة لا يشوبها كدر إلا مرضي الذي بلغ به الأمر أن يتركني طريح الفراش مدة شهرين من كل عام و ذلك عند اشتداد البرد .
_ و هل لك أولاد ؟
_ آآآه لقد وضعت يدك على الجرح تماما ، الولد كان غصة أمي رحمها الله و عائلتي خاصة زوجي ،
و ذهب بعينيه بعيدا بعيدا ثم قال : زوجي التي كنت أذوي و تضمحل روحي عندما كنت أراها تداعب الأطفال و تغني لهم ، لم أكن أتمنى أن أرزق بطفل لأفرح به لنفسي بقدر ما تمنيته لها و لعائلتي ، وهذا أيضا من تداعيات المرض .فلكي أرزق بطفل علي أن أترك الدواء مدة عام كأقل تقدير و هذا من محال المحال ..
ثم التفت إلى السائق ليقول : لابد أنك تشفق على زوجي من وضعي أنا أيضا أشفقت عليها كثيرا و لطالما رغبتُ في اختلاق المشاكل لتكرهني و تذهب في طريقها إلا أنني لم أتمكن من ذلك فهي طيبة معي و أنا أحبها .
_ لا يا أخي فالمرأة الصالحة تصبر على صروف الدهر ..لا حول و لا قوة إلا بالله ..فمن يعينك و يهتم بأمرك ؟
_ إخوتي و أخواتي و بعض الأحباب و رب عملي لا زال يزورني آملا شفائي و عودتي إلى العمل عنده فهو يحب أمانتي و إخلاصي في العمل .
_ شفاك الله و عافاك و لكن لْم تخبرني لمَ أَجبرتَ على تطليقها ؟ أتشوق لمعرفة قصتك .
_ذات مساء كان المطر واكفا و كنت في فترة انطراحي في الفراش زارنا حماي ، رحبت به و أنا مستلق على السرير لأنني لم أقو على الجلوس إلا أنه لم يردّ التحية بل بدا متجهما و بدون أي مقدمات قال : هل يعجبك هذا الحال !! أيرضيك أن تمضي ابنتي شبابها في خدمة طفل كبير؟؟
و الأمر يزداد سوءا و لا أمل ...
ثم سكت و بدأ ينفخ كالتنين و طلب من ابنته أن تجهز نفسها للرحيل
_ يا عمي دعها تجهز لنا القهوة لنتحدث ..
_ لم آت للتحدث بل جئت لأخلص ابنتي من عذاباتها فابنة أبي شعبان يحق لها أن تعيش حياة أفضل من هذه الحياة .
و راح يصرخ على ابنته يستعجلها ، شعرت بخدر في أطرافي و سيوف تقطع مهجتي و تهت في دنياي ، ماذا أفعل يا رب ؟ فزوجي هي أملي و وسيلتي ، طلبت منه التريث و إعادة التفكير في الأمر إلا أنني عبثا كنت أحاول ، وقفت زوجي بجانبي و دموعها تحكي الكثير و كأنها تقول : أحبك و لكنني تعبت كثيرا معك و أخاف من جبروت أبي و بدت و كأنها تطلب الغفران ، ولما رأى ضعف ابنته و وقوعها بين نارين انتفض و قال : انظر يا بني الذنب ليس ذنبنا و ينقصك ثلاثة أمور عندما تمتلكها عد و خذ زوجك ..الصحة و الولد و المال .
_ ولكن يا عم أنت تعلمُ علم اليقين بأنني لم أنقص على ابنتك شيئا رغم ما تراه من حالي و على قدر استطاعتي أسعدتها و إنك لتطلب مني ما في يد الله و ليس في يدي
_ إذاً.. ادع الله أن يعطيك ما في يده .
و مضى و أخذ معه روحي و سلوتي و تركني صريع آلامي و وحدتي و همي ، ولما أُغلق الباب خلفهما شعرت برغبة في الصراخ ..كنت أحبس بصدري صراخا لو خرج لزالت منه الجبال ، و شكوته إلى الله الذي وحده يعلم بحالي .
وصلتْ السيارة إلى المكان المقصود و تراءت جموع غفيرة من الناس و خيمة عزاء فاخرة و أكاليل الزهور الثمينة تملؤ الشارع ، فمد يده ليحاسب السائق إلا أن السائق رفض مطلقا رغم إلحاح عبد الله عليه ، فنزل السائق ليعينه على النزول ثم أعطاه ورقة و قال : هذا رقم هاتفي اطلبني عند العودة أحب أن نكون أصدقاء بل أتشرف بصداقة رجل مثلك .
و قبل أن يغادر قال : لو كنت مكانك لما جئت بتاتا فليذهب إلى الجحيم و بئس المصير ، على كلٍّ أحب أن نسهر الليلة سويا إن لم يكن لديك مانع ؟
_ على الرحب و السعة سأتصل بك عند عودتي إن شاءالله .
و مضى السائق في طريقه و راح عبد الله يجرُّ خطاه جراً متوكئا على عكازه و هنا كانت المفاجأة ..
فما أن رآه الناس حتى اضطربوا و بدؤوا يهربون منه و كأنه جانّ و الكل يسمّي و يكبّر و لما بلغ باب الخيمة كانت الخيمة قد خلت من الناس إلا من رجل واحد و الذي كان عم زوجه ، وقف شاخصا منتصبا كأنه خشبة ، بُهت عبد الله مما رأى و راح يتلمس وجهه و كفيه فقد شك في نفسه أترى به جَرَبٌ أو ما شابه يجعل الناس تفر منه خوفا من العدوى !!!
وقف أمام العم الذي راح يمشي للوراء ببطء و ذهول فألقى عليه التحية : السلام عليكم يا عم ما الذي يحصل و لمَ يهرب الناس مني ؟
تلعثم العم قليلا ثم قال : بسم الله منك هل أنت إنسيّ؟
_ ماذا تقول ..ماذا تقصد بقولك هذا ؟!!
_ ولكن كيف خرجت ؟
_ من أين سأخرج !!
_ من القبر .
_ و أي قبر !! ، إنما جئت لأقوم بواجب التعزية و أمضي و ليس عندي أدنى فكرة عما أرى !!
عندها تنفس العم الصعداء رغم الدهشة التي طافت ملامحه ، فطلب منه الجلوس فجلس ، إلا أن العم ترك مسافة بينهما لأنه لايزال متوجسا منه خيفة
_ إذاً أنت لم تمتْ يا بني !
_ كيف أكون ميتاً و أكون هنا !! ولكن نشدتك الله إلا أخبرتني بما يحصل مع الناس ومن قال أني متّ ؟
_ سأخبرك ..لما طال مكوث زوجك في بيت أهلها استغربنا من ذلك خاصة أننا لم نكن لنراك معها فسألنا أخي أبا شعبان عن السبب و أخبرنا بأنك قد مِتَّ بسبب داء السرطان الذي استشرى بك .
عندها أصيب عبد الله بدوار و شعر بغثيان و خارت قواه و كاد أن يهوي أرضا ، اقترب منه العم و سنده و لما شعر باستقراره ناوله كاسا من الماء و قد كثر اللغط خارج الخيمة و الكل يسترق النظر إلى الداخل مستغربين رباطة جأش العم و ثباته .
_يا الله ..أََبَلَغََ الكبْر بأخيك إلى هذا الحد !! أنا حيٌّ كما ترى و لكن أخوك قتلني من الداخل وزادني هما فوق همي فأخذ ابنته غصبا عني و أجبرني على تطليقها ، وقص عليه القصة بكاملها ...
دهش العم من فظاظة و قسوة أخيه و أطرق رأسه خجلا
_ لا حول و لا قوة إلا بالله ما كان ينقص أخي سوى الرحمة و التواضع ثم انتفض قائما و نادى على الناس : أيها الناس يا أبناء أبي شعبان هلموا و اسمعوا و انظروا ماذا فعل أبوكم بصهره لعلكم إن عرفتم و ظهر حق هذا الظلوم كفّر الله عن ميْتنا ، وبدأ الناس يدخلون أفواجا أفواجا و قص عليهم العم القصة بأكملها ما جعل الناس يكبرون و يهللون و يستغفرون الله ، ولكن المفاجأة التالية كانت أكبر ...
فلقد أخبره العم بأن عمه أبا شعبان قد مات بسبب السرطان الذي استقر بمعدته و راح ينتشر بجسده انتشار النار في الهشيم و خلال ثلاثة أشهر فقط صرعه الموت رغم أنه أرسل جميع صوره و تحاليله عبر الطائرات إلى أكثر الدول تقدما في الطب ولكن دون جدوى وكان الإنس و الجن يسمعون صيحات ألمه ، لم يتمالك عبد الله نفسه خاصة أنه شعر برضى داخلي عن عدالة الله إلا أنه لم يبد ذلك خوفا من أن يحسبه الله من الشامتين فقال : سبحان الله لقد طالبني بما يملكه الله و استعان علي بما كان في يده فلم ينقذه شيئ ، و لقد أصيب بما اتهمني به وها هو الميت المزعوم يحضر عزاء من ظن أنه سيخلد !!!
علا صوت التكبير أكثر فأكثر و الذين هربوا منه منذ قليل صاروا يقتربون ليروه عن كثب ، فطلبوا منه أن يسامحهم لجهلهم بالحقيقة فقال : يغفر الله لي و لكم و له أيضا .
قال العم مستغربا : أوتسامحه رغم كل ما فعل !!
و قبل أن يجيب قال قائل : لن يسامحكم الله إن لم تردّوا عليه زوجه فعسى إن جبرتم بخاطره يكفر الله خطيئة بل جرم ميتنا .
قال عبد الله مشتملا بإيمانه : و الله ما جئت طمعا باستراد زوجي بل أتمنى لها السعادة و أسأل الله أن يسترها و يجزيها عني كل خير ، ولكني هنا لتقديم التعزية و يغفر الله له ما صنع .
كبر الناس كثيرا و بكى أغلبهم وقالوا له : ظنناك شبحا فكنت ملاكا ، سامحنا يا أخي و اطلب أي شيئ كتعويض عما سلف .
_ أشكر نبلكم و كرمكم و إنه بقي لدي شيئ واحد أطلبه
فقال العم : تفضل يا كريم العرق مُرنا .
_ أستغفر الله الأمر لله وحده ، أتعرفون لمَ فعل عمي بي ما فعل ؟
ذلك لأنني لم أعامله معاملة السيد و العبد بل عاملته على أنه والد زوجي و احترمته بناء عليه ولما أدرك أنه لن يستطع شراء كرامتي رغم كل ما لديه من مال وسلطان خاصة أنه عرض علي أن يشتري لي بيتا فاخرا و يغدق علي فأبيتُ أن أحني قامتي أمامه و رضيت أن أعيش كفافا بما رزقنيه الله متسلحا بتعففي ، متمسكا بحيائي من الله فكيف أذل نفسي لمرزوق و أنسى الرازق بل كيف أخضع لجبار في الأرض و جبار السموات و الأرض فوقي .و الحمد لله على كل حال .
عاد صوت التكبير ليشق سمع المكان ..
تقدم أخو زوجه و هو يلهث و أخبره بأن زوجه تنتظره في السيارة و أن بإمكانه أن يحضرها متى شاء و الشيخ جاهز ليكتب كتابهما في بيته و استبشر بقبول عبد الله للأمر ، أخرج عبد الله الورقة و اتصل بالسائق فحاول النهوض و خانته قواه فتسابقوا على مساعدته ، اتكأ على عكازه و مشى مثقلا و لما وصل رأس الشارع رأى سيارة حماه الفارهة و فيها زوجه ، أدار طرفه عنها و جاءه السائق مسرعا ، استند على كتف السائق و ركب السيارة و مضى .