في معهد البحوث والدراسات العربية (معهد المخطوطات)
(إحدى حلقات كتابي "في الطريق إلى الأستاذية" المفتقدة)
عدت من رحلة عملي القصيرة بجامعة طيبة من المدينة المنورة (22/11/2008-30/6/2010)، فرغب إليَّ أخي الكريم الفاضل الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات، أن أدرّس علم الكتابة (الخِطاطة)، لطلاب قسم البحوث والدراسات التراثية بمعهد البحوث والدراسات العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة العلوم بجامعة الدول العربية، القسم الذي استُحدث بالمعهد لخدمة معهد المخطوطات بالمنظمة نفسها، فأجبته.
على رغم ما كان لهذا العلم في القسم من برنامج مفردات، رأيت أن أدرس للطلاب كتابي "مهارة الكتابة العربية"، وأستطرد في أثناء ذلك إلى ما أستحسن إضافته. وقد بقيت مرتابا فيما أصنع حتى اعترض طريق مُنصرَفي مرةً الدكتور عصام الشنطي شيخ مفهرسي المخطوطات العرب –رحمه الله، وطيب ثراه!- فأعطاني خطابا كأنما أراد -لولا تلاقينا- أن يرسله إليّ، وإذا هو ثناء على الكتاب عظيم -ولا ريب أن الطلاب أطلعوه عليه- يذكر فيه أنه كأنه اختراع في بابه مثل اختراع الكيميائيين في بابهم؛ فأزال عني ما بقي من ارتيابي!
ثم دعاني الدكتور فيصل الحفيان كذلك إلى تدريس علم النحو، فأجبته، ولكنني درست للطلاب عندئذ كتاب الأستاذ عبد العليم إبراهيم "النحو الوظيفي"، ومنذ عملت بقسم البحوث والدراسات التراثية لم أنقطع حتى سافرت عن مصر.
كانت مكافأة المحاضرة ستين دولارا، لولا قلة المحاضرات لَتجمَّع بها كل شهر مقدار طيب، ولكنني استلطفت العمل؛ فقد كان بالمقر التعليمي في ميدان الدقي من الجيزة العزيزة قريبا من جزيرة الروضة جنوبي القاهرة الفاخرة حيث أقيم، وكنت أحاضر فيه الطلاب العرب والمستعربين من كل مكان!
ومن طرائف لقاءات هؤلاء الطلاب أن سلَّم عليَّ مَخرَجَنا من المحاضرة متعمِّمٌ سوري مهيب، أراد أن يثني على القسم؛ فاستدل بأن من أساتذته الدكتور محمد جمال صقر تلميذ محمود محمد شاكر -رحمه الله، وطيب ثراه!- فقلت له: هذا أنا أستاذك، فكان كأنما خذلته! ومن طرائفهم أنني وجدت في قائمة أسمائهم اسم إحدى أميرات آل سعيد سلاطين عُمان -وكنت أنتظر توظيفي بقسم اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس العُمانية- ولم تكن تحضر بحيث تعرف ما أدرسه وتخوض اختباراته؛ فرسّبتها، ثم لم يمرّ شهران حتى حظيت بالوظيفة!
كنت أبكر إلى العمل قبل الموعد، فأرتاح إلى غرفة الأساتذة، ولاسيما أنني كنت أجد بها قبلي الدكتور يوسف فايد ذا الثمانين عاما رئيس قسم البحوث والدراسات الجغرافية، قد جاء من بيته ماشيا رشيقا أنيقا طموحا حفيا؛ فأفرح به، وأغريه بالكلام في كل فن؛ فيتكلم، وأنصت، حتى فاجأني مرة بأنه كان صديق جمال حمدان جغرافيّنا النابغة صاحب "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان"؛ فازددت به فرحا وله إغراء، وازداد بي حفاوة ولي كلاما!
وكان ألطف ما قاله لي عن جمال حمدان أنهما ومعهما غيرهما من الجغرافيين كانوا يصطفون أمام الخريطة المعينة يجتهدون في تحليلها فكان جمال حمدان يرى دائما فيها ما لا يرونه؛ فكنت -وما زلت- أذكر ذلك لطلابي في مقام التأمل! ولكنه فاجأني مرة برد رواية قتل جمال حمدان، بأنه إنما مات مختنقا بغاز الأنبوبة التي لم يكن يعبأ قط بإصلاح خرطومها المتهرئ!