http://www.odabasham.net/show.php?sid=4784
محمد الحسناوي
أما دراسة فواصل سورة ( الكهف) بالتفصيل ، فتسلمنا إلى المعطيات التالية :
1 – دور حركة الفتح:
خلافاً لعلماء العروض والقافية .. تضفي فواصل سورة الكهف أهمية موسيقية على حركة ( الفتح) التي التزمتها حروف الروي ، هذه الحركة يسميها العروضيون ( وصلاً) ، ولا يعدونها رويّاً .
حركة الفتح التي التزمتها فواصل سورة الكهف باطراد ، قامت مقام الروي ، فسوّغت تعدد حروف الروي ، ذات المخارج الموحدة ( المتقاربة ) : وهي ( حروف اللسان: ق – ج – ض – ل – ن – ر – د – ط – ص – ز) ، وغير الموحدة مثل ( حرف : ع : الحلقية ) و(الحروف الشفوية :ف – م – ب - و: المتحركة بالفتح ) . من أمثلة المخارج الموحدة أو المتقاربة فواصل: ( مِرْفَقا – عِوَجا – عَرْضا – عَمَلا – حَسَنا – نَهَرا – أَبَدا – فُرُطا – قَصَصا – جُرُزا ) ، وغير موحدة المخارج : ( تِسْعا – أَسَفا – عِلْما – هُزُوا - كَذِبا).
2 – غنى الفاصلة المتقاربة :
الشعر العربي قديماً لم يعرف إلا القافية الموحدة أو المتماثلة ( ذات الروي المتماثل) ، أما فواصل القرآن ، فمنها المتماثلة والمتقاربة وحتى المنفردة .
عرف العلماء الفاصلة ( المتقاربة ) بأنها التي تقاربت حروف رويها ، كتقارب الميم والنون الرحمنِ الرحيم . مالكِ يومِ الدين ) (8)، أو تقارب الدال مع الباء : ( ق ، والقرآنِ المجيد. بل عَجبوا أنْ جاءَهم مُنذرٌ منهم فقالَ الكافِرون : هذا شيءٌ عَجِيب ) (9) .
أما فواصل سورة الكهف ، وباطراد حركة الفتح فيها ، فقد وسعت أفق الفاصلة ( المتقاربة) ، فلم تعد نقتصر على حروف الروي ذات المخارج المتقاربة ، بل ضمت حروف روي من ثلاثة مخارج : معظمها – كما رأينا – من مخرج اللسان ، وهي ( ق : 6 فواصل – ج:1 فاصلة واحدة – ض : 1 واحدة – ت : ثلاث عشرة – ن : 3 ثلاث – ر : 24 أربع وعشرون – د : تسع وعشرون – ط : 2 فاصلتان – ص : واحدة -
ز : 1 واحدة ) إلى جوارها ( ع : 5 خمس فواصل ) وهي من مخرج الحلق ، والشفويات : ( ف : 2 فاصلتان – م : 3 فواصل – وَ: المتحركة بفتح : 2 فاصلتان – ب : 17 سبع عشرة فاصلة ) .
لا يمكن تسمية فاصلة (ع ) الحلقية فاصلة ( منفردة ) ، لأنها وردت خمس مرات ، ومثل ذلك الفواصل التي جاءت حروف رويها ( شفوية ).
نستنتج من ذلك أن الفاصلة المتقاربة تنويع وتلوين ، يثريان التقفية العربية ، فلا تقتصر على المتماثلة ، كما حاول الشعر الحديث ( شعر التفعيلة ) ذلك التنويع ، ثم إن توسعة أفق الفاصلة المتقاربة في تطبيقات فواصل سورة الكهف ، تزيد هذا التنويع غنى وجمالا .
3 – فواصل مختارة :
لكل فاصلة من هذه الفواصل دورها وأهميتها في سياقها الجزئي أو الكلي ، لكن هناك بعض الفواصل تسترعي الانتباه ، نختار منها فاصلتين : ( هُزُواً) ( أَحَداً) .
وردت فاصلة هُزُواً في موضعين :
الأول قوله تعالى وما نُرسِلُ المُرسَلِين إلا مُبشِّرِين ومُنذِرِين . ويُجادِلُ الذين كفروا بالباطلِ ، لِيُدحِضُوا بهِ الحقَّ، واتخذوا آياتي وما أُنذِروا هُزُوا) (الآية56) .
الثاني قوله تعالى في السورة نفسها بعد خمسين آية : ( ذلك جَزاؤُهم جهنَّمُ بما كفروا ، واتخذوا آياتي ورسلي هُزُوا) (الآية106) .
إن تكرار فاصلة هُزُواً هنا تكرار فني مقصود ، لا يُراد منه أن تُذكر الثانية بالأولى من باب التناغم الموسيقي وحسب! بل يضاف إلى ذلك ، التعقيب بذكر العقاب ، الذي جاء نتيجة للجدال بالباطل ، واتخاذ الآيات والنذر والرسل مادة للهزء والسخرية ، بعد وصف أهوال القيامة : ( وتركنا بعضَهم يومئذٍ يموجُ في بعضٍ ، ونُفخَ في الصُورِ ، فجمعناهم جمعاً . وعرضنا جهنم يَومئذٍ للكافرين عرْضاً . الذين كانت أعينُهم في غِطاءٍ عن ذكري ، وكانوا لا يستطيعُون سَمْعاً . أفحَسِبَ الذين كفروا أن يتخذوا عِبادي من دوني أولياء َ ؟ إنَا أَعتدنا جهنمَ للكافرين نُزُلاً . قُلْ هل نُنبئُكم بالأخسرِين أعمالاً . الذين ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدنيا ، وهم يَحسَبون أنهم يُحسِنون صُنعاً . أولئك الذين كفروا بآياتِ ربِهم ولقائهِ ، فحبِطت أعمالُهم ، فلا نُقيمُ لهم يومَ القيامةِ وزناً . ذلك جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا ، واتخذوا آياتي ورُسُلي هُزواً ) (الآيات99 – 106) . وذلك كله بعد سرد قصة ذي القرنين الحاكم العادل القويّ ، الذي قال عن السدّ المحصن بالحديد والنحاس ممزوجين : (.. فإذا جاء وعدُ ربي جعلَهُ دكَّاءَ ، وكان وعدُ ربي حقاً ) ، وبعد قصة موسى والرجل الصالح ، التي أوضحت الفرق بين حكمة الإنسان المحدودة وحكمة الرحمن التي لا حدود لها ، فأين يذهب الساخرون المستهزئون بالأنبياء والرسل ، وبكلمات الله التي لا تنفد حين تَنفدُ كلمات البحر ، ولو جئنا بمثله مدداً ؟
4 – فاصلة (أَحَداً ) :
هذه الفاصلة في سورة الكهف تنتمي إلى الفواصل الواردة على حرف (الدال) ، وفواصل الدال إحصائياً هي في الترتيب الأول ، إذ بلغ تعدادها ( 29: تسعاً وعشرين فاصلة ) ، على حين كان ترتيب الفواصل الأخرى ، كما يلي: ( الراء: 24- الباء : 17 – اللام: 13 – القاف : 6 ...) من عشر فواصل بعد المئة .
ثم إن فاصلة ( أحداً) ، تكررت تسع مرات بلفظها في أواخر الآيات : ( 17 و19و22و26و38و42و47 و49و110) . ثم إن معناها في مواضعها كلها واحد ، ولم تخرج عن سياقين اثنين ، كل منهما متماثل مع نفسه :
الأول : ( ...فلم نُغادرْ منهم أحداً ) ( ... ولا يظلمُ ربُكَ أحداً ) .
الثاني : ( ... ولا يُشركُ في حكمهِ أحداً ) .
( .... ولا أُشركُ بربي أحداً ) .
(.. يا ليتني لم أُشركْ بربي أحداً) .
( .. ولا يُشركْ بعبادة ربهِ أحداً ) .
إن فاصلة ( أحداً ) تغتني بوفرة روي الدال في فواصل السورة ، ومن تكرارها بالذات ، ثم باتساقها مع الموضوع العام للسور المكية وهو ( عقيدة التوحيد ) ، ومع موضوع سورة الكهف الخاص : ( تصحيح العقيدة) . وما التصحيح غير إخلاص التوحيد ونبذ الشرك . وإذا تذكرنا أن آخر كلمة أو فاصلة في السورة هي لفظة ( أحداً ) أيضاً ، أدركنا مدى الدلالات المعنوية والجمالية التي تشع من تكرار هذه الفاصلة ، ومن المواقع التي تشغلها في ثنايا السورة وفي ختامها ، وذلك فضلاً عن دورها بختم السورة ، بمثل ما بدأت : إثباتاً للوحي ، وتنزيهاً لله عن الشريك .
وما قيل عن فاصلة ( أحداً ) ، يمكن أن يقال عن فاصلة ( رَشَداً ) التي تكررت : 6 ست مرات أيضاً .
وخلافاً لقواعد (العروضيين) فيما سموه ( الإيطاء ) من عيوب القافية في الشعر ، وتابعهم أهل السجع : وهو ( لا يجوز إعادة اللفظة بذاتها : بلفظها ومعناها ، وتجوز إعادتها بمعنى مختلف ، أو إعادة اللفظة ذاتها بمعناها بعد سبعة أبيات ) ((10 .. نقول : خلافاً للعروضيين جاءت فاصلة ( أحداً ) ، لتقر الجواز في أقل من ذلك بكثير ، وتقر جماله حين يحقق أحد القوانين السبعة من قوانين الإيقاع الجمالية الذي هو ( التكرار ) الفني.
الوزن الموسيقي :
للوزن العروضي في الفواصل دوره الموسيقي ، الذي لا يقل عن دور حروفه : من روي وردف ودخيل وتأسيس ووصل وخروج .
من حيث التبسيط بوسعنا أن نصنف فواصل القرآن عروضياً ضمن مجموعتين اثنتين : إحداهما _ وهي الأغلب – وزنها : ( فاعلانْ) وجوازاها ( فَعَلانْ- فَعْلانْ) بتحريك العين في الأولى وسكونها في الثانية ، والثانية وزنها : ( فاعلنْ) وجوازاها (فَعَلنْ- فَعْلنْ) .
بناء على ذلك نلحظ أن فواصل هذه السورة ، ومثلها فواصل سورة (طه ) وكثير من السور المكية ، التزمت وزن ( فاعلن ) وجوازيها ، وبمعنى آخر ، كان حرف الروي فيها متحركاً مطلقاً أي منتهياً بحرف ساكن ،
مثل الألف والياء ، وهذا ما غلب على قوافي الشعر العربي القديم . والفرق الموسيقي بين المجموعتين أن المجموعة الأولى ذات الروي الساكن : ( رحيمْ- غفورْ – رَحْمانْ ) ،أقل جهارة وتصويتاً من المجموعة الثانية ، ذات الروي المتحرك والصوت المطلق الممتد مع حرف المد ألفاً كان أو ياءً : ( سَبَبا- مجرى – صدرِيْ- أَمْرِي) . وقد بدأ ظهور القوافي ذات الروي الساكن مع حركة تجديد الشعر في العصر العباسي ، وشاع وكثر في الشعر الحديث ( شعر التفعيلة) حتى سمي بالشعر المهموس .
على كل حال .. إن وزن ( فاعلن ) وجوازيه ( فَعَلن ْوفَعْلنْ) ، أسهم مع حركة الفتح أو ألف الإطلاق في إضفاء موسيقى شاملة موحدة ، ذات نبرة واضحة ، أشبه ما تكون بموسيقى الفواصل المتماثلة ، أي موحدة الروي ، كمعظم الشعر العربي القديم ، لكن تنوع مخارج حروف الروي كسر من حدة الرتابة والإيقاع الجهوري بتنويعات وتلوينات غير خافية على المتذوق . وهكذا حصل للمتذوق العربي استمتاع بلون جديد في موسيقى التقفية العربية ، غير الانقسام الصرف ( أسود – أبيض ) بين الروي المتماثل المطلق الحركة و الروي الساكن الحركة مسبوقاً بردف ( حرف مدّ ) أو غير مسبوق .
إنتهى النقل.
------------------
سبق لي تناول ذات الموضوع على الرابط :
https://sites.google.com/site/alaroo...e/fawasel-kahf
ربما كان الموضوع يحتاج إلى مزيد من الصقل ، لكنه يظهر دور الأرقام في توضيح الشرح.
[TR]
[TD="class: td1, width: 20"][/TD]
[TD="class: td2"]نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي[/TD]
[/TR]