رحلتان إلى الحجاز ونجد
سلام مراد
الرحلات إلى أرض الحجاز كثيرة، والنسبة الكبيرة منها لأداء فريضة الحج أو العمرة، ولكن هناك رحلات أخرى ولغايات ثانية منها رحلة علاّمة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار عام 1920م. والذي زار الحجاز ومشارف نجد بمهمة وطنية سياسية لمقابلة الأمير عبد العزيز آل سعود، فقد كانت أنظار الزعامات الوطنية والدينية في بلاد الشام ترنو إلى جزيرة العرب، منتظرة أن يكون زعيم العرب أجمعين من البلاد الشريفة، وكان معقد الآمال آنذاك الملك عبد العزيز آل سعود من أجل توحيد كلمة العرب ولمقاومة المطامع الغربية على المنطقة العربية.
وحمل الشيخ محمد بهجة البيطار في رحلته إلى الحجاز رسالتين إلى الملك عبد العزيز آل سعود الأولى من المصلح الإسلامي الكبير محمد رشيد رضا والثانية من الأمير فيصل بن الحسين حاكم الشام آنذاك. من أجل توحيد كلمة العرب والمسلمين لمواجهة المخاطر الخارجية.
وقد صادقت الشيخ البيطار في رحلته مشاق كثيرة منها صعوبات تتعلق بانفلات الأمن على طريق الحاج، وتحكم روح الغزو ومنطق السلب والنهب بالكثير من الأعراب. هذه الفوضى التي عملت في تلك الفترة، انتهت على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وذلك عندما بسطت الدولة السعودية نفوذها على نجد والحجاز.
لذلك شكلت هذه التجربة مصدر سعادة للكثير من العرب، وخصوصاً في بلاد الشام، فقد كان أهل بلاد الشام في ذلك الزمن أي في عشرينيات القرن العشرين، يتطلعون إلى بناء كيان عربي مستقل يشمل فيما يشمله الجزيرة العربية والهلال الخصيب، حيث كانت أنظار الزعامات الوطنية والدينية ترنو إلى جزيرة العرب، منتظرة أن يكون زعيم العرب أ جمعين من هذه البلاد الشريفة.
والرحلتان اللتان تُعرضهما في هذه المقالة تضافان إلى جملة الوثائق التاريخية التي تخص تلك المرحلة الحساسة والمفصلية من تاريخ العرب، ويصوران بشكل أو بآخر حقيقة المشاعر والتطلعات التي كانت تشغل أبناء الشام في تلك الحقبة الخطيرة.
صوت الرحلة الأولى في دمشق عام 1967م أي بعد كتابتها بنحو 47 سنة، وقد ذكر الشيخ البيطار أنه تركها كما هي لم يغير في صياغتها شيئاً «لتبقى لها صورتها الأولى ولتحمل جوها الأصيل»، في حيث صدرت الرحلة الثانية في القاهرة عام 1930 م في المطبعة السلفية بعد أن نشرت على حلقات في جريدة «الصراط المستقيم»، ورغم التفاوت بين المرحلتين من حيث الأسلوب، إلا أن ما يجمعهما أنهما يخصان عالمين من بلاد الشام، كانت لديهما رؤية متقاربة لواقع ومستقبل العرب والمسلمين في ذلك الوقت، على الرغم من أن عقداً من الزمن يفصل بين الرحلتين.
وهو عقد شهد تحقق المشاريع الاستعمارية الغربية في بلاد الشام على أرض الواقع، وتم تقسيم هذا الإقليم العربي إلى سبع دول مختلفة، قبل أن تتحد أربع منها في الدولة السورية.
امتدت رحلة الشيخ محمد بهجة البيطار خمسين يوماً ابتدأت من يوم السبت في 8 جمادى الثانية عام 1338هـ/1920م/ انطلقت من محطة القنوات في الشام بالقطار الحديدي الحجازي، ومد بالمحطات التالية الكسوة ودير علي ثم المسيحية ثم جباب ثم خبب فالمجدة وبعدها إزرع وخربة غزالة وتأتي بعدها محطة درعا وذكر الشيخ أن في درعا فرع للخط الحديدي من جهة العُرب يمتد إلى حيفا.
يوم الاثنين في 10/جمادى الثانية عام 1338هـ.
تحرك بهم القطار الساعة الثالثة صباحاً، ووصلوا إلى (منزلة) ثم «فريفرة» ثم «الحسا» و«جروف» ويعدها «عنزة» و«وادي الجردون» ثم «معان».
ويصف الشيخ ما حصل له مع أعراب بني عطية فيقول:
«وفي الساعة الثالثة والنصف (وقت الظهيرة) من يوم الخميس 13 جمادى الثانية 1338هـ/ نَفَرَ لنا بين تل الشهم والرملات (551 – 560)كم فئة قليلة من الأعراب راكبين فوق ظهور الأيانف والأباعد، حاملين البنادق على أكتافهم، والمسدسات، والمدى بأيديهم، فوجهوا سلاحهم أولاً نحو رئيس الحركة، وأذنوه بالقتل إذا لم يقف، فوقف قطاره مضطراً.
لم يكد يقف القطار عن الحركة حتى انقضوا علينا منحدرين كالسيل الجارف، والبرق الخاطف، وهم يقولون: «وش علومكم، وش عندكم، حنّا ما نبغي غير الذهب». فقال لهم بعضنا: نحن جماعة من الجنود والشيوخ نحمل المكاتيب من رؤساء العرب، ومن سمو الأمير فيصل، لنوصلها إلى سمو الأمير علي في المدينة المنورة، من أجل إصلاح الطريق وتمشية القطار»:
لم يكترث بنو عطية بهذا الكلام وسلبوا المسافرين أكثر حاجتهم ونقودهم وحتى قسم كبير من ثيابهم.
عدد الشيخ المسلوبات بشكل مفصل، بدأها بنفسه ثم الشيخ شلاش النجدي وبقية المجموعة وجنود اسماعيل بك القزاز.
وصف الطعام والمنام والركوب:
كان طعام الشيخ وأصدقائه خلال ثمانية عشر يوماً وأما أرز مع اللحم، أو الأرز وحده، أو التمر، أو حليب التوق وحده، والتمر وحده هوزادهم، وإذا التقوا بالعرب كانوا يشربون حليب النوق عندهم من الصباح ويبقون عليه أحياناً إلى السماء، والخبز غير موجود وعن الشارب قال الشيخ إن الماء رملي وسخ جداً وهو الذي كانوا يطبخون به الطعام، فيقع الرمل تحت أسنانهم، واستغرب الشيخ إنهم لم يمرضوا بسبب هذا الماء الوسخ. وكانوا يتيممون كل هذه المدة لعدم تيسر الماء ويصلون جماعة على التراب، وكان الشيخ يصلي جمع تقديم أو تأخير عند الضرورة، ومركوبهم الإبل، وقد عانى الشيخ حتى تعلم ركوب الإبل وتعود على ركوبها بالتمرن ودوام المسافر في رحلته عبر الصحراء. وعن النوم قال الشيخ إنهم كانوا ينامون على الأرض تحت الخيام أو تحت السماء، والعرب ليس عندها للضيف إلا الطعام والقهوة، وينام الإنسان وإلى جانبه الجمال التي تأكل طوال الليل، وسخرا الغنم والماعز والكلاب التي تنتج فيظن النائم أن العدو يحاول قتل الرجال، وسلب الأموال، وكان الهواء قوياً يشكل عواصف رملية تصم الآذان، لذلك ذكر الشيخ ينبت الشق الذي يقول:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إليَّ من قصر منيف
وشرح الشيخ البيت وبين أن العادة تحبب للإنسان حياة معينة، فالحضري يحب الحياة الحضرية وكذلك البدوي يحب حياة البادية، ولكل نمط من المعيشة خواص وميزات ينفرد بها عند الآخر.
وقال الشيخ إن البرد شديد، والعرب تقول عنه «منع البَرْدُ البَرْدَ» «أي منعت البرودة النوم» وصف حالهم في السفر يقول الشاعر: «ما أذوق المنام إلا عزاراً».
وفي كل يوم من شدة الخوف والمخاطر والقصص التي كان يرويها المسافرون كان يتلو الشيخ آيات من القرآن وبخاصة: «وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت».(سورة لقمان الآية 34).