رؤية نقدية لقصائد الحكم في شعرنا المعاصر:
السلام عليكم وخير السلام على خير الأنام وبعد:
لا أظن أن هناك من سبقني لمغامرة النقد المشترك وإن كان فأرجو ممن لديه نصا نقديا مماثلا أن يسعفني به وبتاريخه لأنها مغامرة ممتعة وهامة في عالم النقد الأدبي.
لماذا النقد الأدبي المشترك؟
ذلك لأننا نجد قواسم مشترك كثيرة في عدة قصائد قد لا تتطابق فكرة ومضمونا وسبكا بشكل كامل لكننا نجدها تمضي معا في مسار واحد قيمي وعلى الأقل كمذهب شعري للشعراء التي سترد أسماؤهم في هذه الدراسة البسيطة والتي أخشى أن نقول أخيرا أننا بحاجة ماسة لشعر الحكم وبقوة...لأنه الأطول عمرا شعريا...
جمع أدباء وأعضاء منتدى فرسان الثقافة أبيات شعرية تحوي من الحكم ما يبهر ويسعد ويلفت الأنظار من الشعر العمودي..
لكن أن نجد قصيدة كاملة تحوي حكما على معظمها أو حكما رائعة تميزت بها تجمل القصيدة وتزينها لهو القيمة الأدبية الوارفة الظل والعميقة المضمون تظهر مدى عمق فكر صاحبها,وهذا ما وجدناه أكثر في قصائد : كل من الشعراء الكبار: صبري الصبري - العربي حاج صحراوي- زياد بنجر- الطنطاوي الحسيني
هؤلاء الشعراء الكرام هم أكثر من كتب في هذا المجال ولو بغير قصد لخدمة معاني القصيدة, فوضع الكثير من العلامات الهامة حول ذلك.
وإن فكرنا برؤية نقدية سريعة لنموذج من شعرهم لهو بيت القصيد وغاية الجهد هنا وتكبير لجهدهم الذي بتنا متعطشين له على قلته وربما ندرته.فجل ما نقرأ للأسف شعر الغزل الذي تتلهف الأضواء لخطف شذرة منه وما هو بذات قيمة كبيرة!إلا غناء ..وما أتعس الغناء لما تتمايل الخصور والصدور.
ذلك لأنه مهوى أفئدة المراهقين تلك الشريحة الكبيرة التي وجهتنا وما وجهناها..بينما شعر الحكمة يبقى في قلوب وعقول البرية إن عرفوا قيمتها الفكرية والأخلاقية والأدبية وحملوها هموم ومبتغى تلك الشريحة الرائعة التي نريدها إلى جانبنا, فلماذا لا ندعمها بطريقتنا؟فقد تناهى إلى سمعي نداءات المراهقين والمراهقات يسألون:
هل هناك شعر غير الغزل؟ وهل هناك ساحة تحتوي ما نبحث عنه؟وعندما وجدوا لم يصدقوا..و قد يقول أحدهم أن الشاعر الفلاني لم يسخر جل شعره للحكم,ومن قال ان هناك من سخر جل شعره لذلك؟ فجميعنا بشر نحمل في طيات نفوسنا تقلبا نفسيا وروحانيا يتجدد عند كل حالة شعورية جديدة..لكن من كان في شعره كم واف منه فلنقل أنه الشاعر المنشود هنا.
لقد اخترت عدة نصوص لكل منهم كنموذج بسيط,نقارنها مضمونا قبل أن نقارنها بناء ونمسك بخيطها الفكري والأخلاقي المتين كي نقبض قبضة من تبرها الطاهر الوارف:
لو بدأنا بقصائد الشاعر الكبير صبري الصبري تطالعنا عناوين قصائده كالتالي:
ترانيم عشق-موال عاشق-الأطلال-القلب-ضيف السماء-حبيب الله... عيد الفطر ..الخ...
يحق لنا أن نقول أن قصائد الشاعر الكبير صبري قصائد المناسبات على جلها... تحمل شعارا شعريا عالي الشحنة لكنه لم يخل من حكم متناثرة هنا و هناك تهمنا وتلفت نظرنا بقوة.
الشاعر الكبير العربي حاج صحراوي:
كان جل قصائدة عاطفيه وجدانية توجه مؤخرا حسب متابعتنا له في الفرسان لشعر القيم والتوجيه الأخلاقي الذي نريد.
نستعرض عناوينها معا:
مجرد اعتراف-توبة-حل أخير-في مطاردة النوارس-من فلسفتي –قبل الشروق-عادت ولكن...
عناوين قوية لافتة مثيرة لا تحمل شحنة عاطفية بقدر التعبير والإفصاح الصادق...
بينما نجد أن جل قصائد الشاعر الكبير زياد بنجر هي شعر الورع والتدين و المحبة والتصويب الأخلاقي:
إلى صديق الصبا-دنياك مهما ازينت-مضى الليل-العبد الفقير-هي القدس
عناوين بسيطة جدا معبرة بقدر ما تحتاج إلى إثارة للفت نظر المتلقي أكثر, لكن من يعرف الشاعر حق المعرفة سوف يوقن انه أمام قصيدة تحمل معاني كبيرة وهامة.
أما شاعرنا الكبير الطنطاوي الحسيني فقد كان يحوم حول المناسبات والوجدانيات والطهارة بمراوحة:
غزة النصر-حتى متى يا قلب-دنيا العفاف-بغداد قاومي-قصة ولد-أحبك في الله
عنوان بسيط معبر إلى حد ما يحمل شحنة عاطفية معتدلة الموجة محملة بتعبير وجداني لافت.
لدى استعراض بسيط لعناوين القصائد يمكننا ارتشاف أول دفقة من مشاعر إنسانية هامة ونظيفة نريدها ونريد أن يكثر مرتاديها وشعرائها..
تلك القصائد تدفع تهمة من ستهم بان الشعر ذاتي أولا, لكنه هنا غيري بامتياز ..يعرض حال الأمة والنفس الإنسانية التي تبحث عن القيمة الفضلى للشعر وتجعله براقا مشعا بما يحويه من جواهر مبنى ومعنى, وتحمل قواسم مشتركة يشعرها المتلقي في غالب القصائد لهؤلاء الكرام.
أما جواب السؤال لم اخترنا هؤلاء الشعراء؟
لأنهم لخصوا خير الأغراض الشعرية في قصائدهم الجزلة,وقدموا عصارة الشعر العربي الطاهر بقوة وجدارة,والتي يمكنها مقارعة الشعر العربي القديم بطريقتهم الخاصة ,وربما التفوق عليه بطريقة ما...
نبدأ على بركة الله :
ماذا عن مضمون الشعري والمعنى التي تحمله القصيدة الحاملة للحكمة؟:
في قصيدة العربي نجد حكمته عبر قصيدة يا لها من حياة (بحر الخفيف):
تجد أن البداية تلخص ما يريد قوله مباشرة دون مواربة فيقول:
كم مضى من يوم وشهر وعـــــــــــــام() والورى يجترون نفـــــــــــس الكلام
هي بداية شبه حكيمة تمهد للحكم المزجاة في النص: البشر يكررون كل يوم وكل مناسبة نفس الكلام والثرثرة! هو الاجترار بعينه فأين الجديد؟
يتلوه البيت التالي:
وحياة مقســـــــــــــــــــــومة بين إنجا () ب وجنس و نومة وطعـــــــــــــــــام
إكمال ما بدأ به من فكرة فالحياة في نظهر بلا علامات تميز ليست بحياة , وربما لم يكن موفقا نحويا في كلمة "نومة"فهو مجرد مذكر "نوم"
يكمل معاني القصيدة المتناسبة والمتلاحمة و المتحلقة حول هذا المعنى بالذات فيختمها بعد عشر أبيات:
هي دنيا قد ضاع منطقهافاقــــــــــــــ () ـرأ اذا شئت سرها في الظــــــلام
هو السر في الظلام والذي لا يتكشف بسرعة إلا من دخل هذا الظلام الدامس.
أما الحكمة في قصيدة القلب عند صبري فيقول فيهاعبر قصيدة بنفس طويل تفوق الخمسين بيتا على بحر الكامل:
صاحبت قلبي في رياض تَمَتُّعِ= بربيع شدو شاعريٍّ مُمْتِعِ !
فالقلب يهوى ما يشاء وطبعه= طبع التقلُّب في سياق تسرُّعِ
هنا نجد انه دخل الموضوع كذلك من بابه ولم يحاول البدء بتمهيد بسيط قبل الولوج فدخلنا الفكرة من أبوابها العريضة.ويختم بيبيتين لافتين بمعاني سامية رائعة:
يا سمع آذان القلوب تسمعي= قولي وكوني با رتقاءات معي
إني سأجعل من قصيدي مرتعا= للحب هيا فاستجيبي وارتعي !
ربما نجده ذو لمحة ذاتية لكنه يخدم ضمنا غرضا عاما يمسك بقواسم مشتركة مع كل البشر في تقلبهم وتحولهم.
نجد صدى ذلك في شعر زياد كذلك في قصيدة العبد الفقير:
أنا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إِلى إِلهِي= بَرِئْتُ إِلَيْهِ مِنْ حَوْلِي وَ جَاهِي
وَ أَرْجُوهُ السَّلامَةَ مِنْ سَوَادٍ=يَغِيبُ وَرَاءَ نَاصِعَةِ الْجِبَاهِ
دخل الموضوع مباشرة لكنه لم يزجي لنا الحكمة بسرعة حتى نصل للبيت التاسع:
وَ أَنْ يَقَعَ الْعَذابُ إِذا انْبَرَيْنَا= بِحِرْبَاءِ التَّلَوُّنِ وَ التَّمَاهِي
هي حكم مزجاة بذاتية أيضا يعبر من خلالها لعالم البشر في نصائحه, بأبيات تفوق العشر أبيات.
وتنتهي بالبيت التالي:
نُحِبُّ فَيُقْبِلُ الْإصْفَاءُ نَهْراً= وَ تَحْنُو زَهْرَةٌ وَ يَطِيبُ زَاهِ
هو بيت رقيق الحاشية كان الأجدى بشعرنا العزيز أن يختمها بحكمة تلخص كل ما سبق.
أما في قصيدة بقدر الحب للشاعر الطنطاوي المتمتع بنفس شعري معتدل وقد فاقت قصيدته الخمس وعشرين بيتا على بحر الوافر:
بِقدْرِِ الحُبِّ ينطلقُ العتابُ = وَلِي في جنَّة العْتب الرِّغَابُ
يبدأ كذلك بالفكرة نفسها ونرى ونلاحظ مما سبق أن العنونة لو جاز التعبير تؤخذ غالبا من البيت الأول وكأنه اختير آخر الأمر وبعد الكتابة والنظم.
يتلوه بيتا آخر:
ولو أضمرتُ ما استشعرتُ غيبًا = لشابَ صحائفَ الرُّوحِِ اكْتِئَابُ
حكمة أخرى واضحة وضوح الشمس..هو العتاب يشحذ الحب ويؤججه ويزيد حرارته اشتعالا إن كانت المحبة حقيقية.وإلا فسترى العجب العجاب.تعتبر هذه القصيدة أقرب النماذج النموذجية لشعر الحكم بما حوته من حكم كثيرة متلاحمة ومنسجمة وقوية تختم بالحكمة التالية عبر البيتين الأخيرين:
فَلَا تَطْوِ على الَأشْباهِ قلبًا = يكدِّرُ رِشْفَةَ الكأسٍ اجْتِنَابُ
وقيدُ الودِّ عتبٌ لَا افتئاتٌ = وَ رِهْنُ الحبِّ أَوْشَاجٌ عِذَابُ
هنا كان الختام موفقا جدا ولا يشعر المتلقي بقطع أو رغبة شاعر بختم القصيدة بل يتركك بشوق للمزيد.
ونلاحظ في القصائد الثلاثة للشعراء صبري وبنجر والطنطاوي القافية المكسورة المعبرة بقوة عن الحكمة وكأنهم اتفقوا على ذلك عفوا على غرار العربي الذي اختار القافية الميمية الساكنة فلم تعط التأثير القوي ذاته.
في الشعر العربي [1]كان هناك أبيات متفرقة من الحكمة ولم يفرد لها قصائد خاصة وهذا طبيعي لأن الحكمة تأتي في بيت أو عدة أبيات ومن الصعب أن نحشد حكما كثيرة في قصيدة واحدة ربما وجوه للحكمة بعدة صور كما وجدناها عند العربي والطنطاوي لكن ما نلاحظه بقوة هو عدم تسكين آخر الأبيات في غالب الحكم الشعرية وهو أقوى أثرا وهنا يتبين ان العربي تجاوز القاعدة والتي ليست بقاعدة بقدر ماهي أمر متعارف عليه عفوا,فاجتاز حاجزا سميكا صعبا بينما الطنطاوي استطاع حشد الكثير من الحكم في قصيدة واحدة.
نقوم في آخر بحثنا الآن في رصد الم/ع لأبيات الحكمة لنبحث أيها حشد الذروة في المشاعر على أن نأخذ عدة أبيات لكل شاعر وردت له ونقوم بالوسطي[2]:
العربي:
في البيتين الأولين عند العربي نصل للإحصائية التالية عن ارتفاع المعدل الشعوري:
9/4=2,25
8/6=1.3
عند صبري:
8/7=1.1
9/6=1.5
عند بنجر
6/6=1.2
5/7=0.7
عندالطنطاوي
9/6=1.5
9/4=2.25
بارتفاع معدل الرقم الصحيح يعطينا صورة عن ارتفاع المعدل الشعوري لارتفاع معدل حركات السكون في البيت الواحد.ونجهم متقاربين بطريقة ما وربما كان لدى العربي والطنطاوي اكثر قليلا.
كانت دراسة بسيطة أقدمها هدية لشعراء أقدرهم واحترمهم جدا فتقبلوها مني
ريمه عبد الإله الخاني
13-11-2011