قصة قصيرة: (10) الحميــــر الجامحــة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
ما أن لاحت تباشير الغسق حتى اصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين. وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير، كعادتهم، يتقاطرون الواحد تلو الآخـــر: هذا بثوب أكل عليه الدهر وشرب، وذاك بسترة مقطعة الأزرار، غير آبه بحرارة تموز، وثالث ما انفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......
أجساد متعبة ، اشتعلت رؤوسها شيبا ، وارتسمت على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً وكأن لسان حالها أوشك أن يقول :
نحن في خريف العمر، ولكن..........!
كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد، بيد أنهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا. أو هكذا دلت نقاشاتهم الصبيانية، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في أحلام يقظة. أو قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول !
لقد جمعت بينهم خيوط عديدة، لعل أبرزها: إحالتهم على المعاش، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد، وشغفهم بلا حدود بلعبة الدومينو بموارد مالية جد بائسة وضئيلة. فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية، إضافة إلى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و............................
لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش:
(خمس إستكانات شاي سنكين) *. وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم . وقد تحسبني من رواد المقهى المدمنين مثلهم، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء !
وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون آخر، لدرجة تخال وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !
لقد اجتمعت فيهم المهن كافة: فهذا معلم، وذاك محام، وثالث مهندس وعامل. فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا. بيد أن قاسما مشتركاً أعظم جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!
ويبدو أنهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً. وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي، التي مابرحت تصدح في أذني، والتي طالما رددها قائلا :
"- يا بني . أنت في العاشرة من العمر. أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير. اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك . أصغ إلى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب ! "
لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني سنا، يحدوني الأمل اقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون نقاشاتهم الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام. وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير !
لقد كان شهراً تموزيا مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين:
" يا حسن. تعال وسجل لنا. وثمن الشاي مدفوع عنك سلفا. "
أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي. واندمجوا في لعبتهم الروتينية. وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً، السيد (ع)، يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ، لم يلفت نظر أحد سواي . فقد انصب جل تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ إلى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم.
" المسألة جد سهلة. " قال الراوي الخبيث. " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً. ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر. رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين متتاليين. بعدها، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الأوربيين هذه الوصفة السحرية. وبقدرة قادر أضحوا صبياناً. أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة !! "
راقت هذه الوصفة من رجل، كما يبدو، مجرب، للسيد (ع). وشده الرقم (مئات) والكلمة (أوربيين) ! وسال لعابه. وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهرى الأفواه، مشدوهين. لقد أراد أكبرهم سناً استيضاح الأمر من الخبيث، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه.
وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة. وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه. وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي. وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بينهم سادسهم، مسجل الألعاب. وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت. لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم إلى صباهم ، تصور ........ !
ومضوا يضربون أخماساً بأسداس. " إذا تكللت المحاولة بالنجاح، يقول "م" سوف أتزوج ! " ويسخر منه (ل) قائلاً: " قبل أيام ودعت عقدك السابع. فمن يا ترى، سعيدة الحظ ترضى بك زوجا ؟"
أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب إليها الآن، وأهديها رقية، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة. " صاح آخر وهو يمضغ الجملة. " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً. سأطبق التعليمات بحذافيرها. عمتم مساءاً "
أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي، يحدوهم الأمل برجوع الشباب إليهم، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم.
لقد حاولوا المضي، على غير عادتهم، للعودة إلى بيوتهم مبكراً، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم، حالمين وهم في مطبخ الدار... يتحركون بحركات مشوبة بالانفعال والترقب، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأوان لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية، متقيدين بأدق تفاصيلها، وهم يتلون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم. اختلطت عليهم الأمور. وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع.
الآن هم حقاً تائهون .
في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها. وتمادى في إطرائها معززاً إياها بالأرقام والإحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !
وكاد الفضول يدفعهم لاستيضاح المزيد. إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك. وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ! وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن إلى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .
في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر، يحدق شمالاً ويميناً، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث إلى أن التأمت المجموعة باستثناء الخبيث .
وهنا ألمح أحدهم ثانية إلى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف. فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء. ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسئول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس)، فهو طريح الفراش، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة. ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم "!
فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً: " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على إتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "
أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . إنني أعاني الآن من مغص شديد. نحن حمير جامحة ليس إلا. ذخيرتنا خلب. وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام أسرنا وأنفسنا . "
بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً :
" كيف صدقناه ومضغنا قشور الرقي ؟ وحسرتاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... إلى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والانفعال والألم .
" أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم، الحادي عشر من تموز 1965، مهما كانت الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! "
* (خمس أقداح شاي مركز)