الشيخ محمد بن عبدالوهاب
د.هشام الحمامي




"وأراد الله له الخير، فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يبعثون ليجددوا لهذه الأمة دينها، فقد حقق الله على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح والدين الحق، والألفة بعد الاختلاف، والوحدة بعد الانقسام، ولا أقول: إن الرجل كامل، فالكمال لله وحده، ولا أقول إنه معصوم فالعصمة للأنبياء، ولا أقول إنه عارٍ عن العيوب، ولكن أقول: إن هذه اليقظة التي عمت نجداً ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة ثم إلى ما حولها، ثم امتدت إلى أن وصلت إلى آخر بلاد الإسلام ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله"، هذا ما ذكره الشيخ علي الطنطاوى يرحمه الله في كتابه (محمد بن عبدالوهاب).

ولد محمد بن عبدالوهاب بن سليمان ابن علي التميمي النجدي في العيينة شمال غرب مدينة الرياض عام (1703م) وتعلم على أبيه، ونشأ نشأةً صالحة، وقرأ القرآن مبكراً. واجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه، وكان فقيهاً كبيراً وعالماً قديراً (وكان قاضياً في بلدة العيينة) ثم حج بيت الله الحرام، وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف.


تأثره بابن تيمية

ثم توجه إلى المدينة فاجتمع بعلمائها، وأخذ من عالمين كبيرين في ذلك الوقت وهما: الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف النجدي، والشيخ الكبير محمد حياة السندي. والثابت أنه يرحمه الله تأثر كثيراً بابن تيمية ويقال إن في المتحف البريطانى رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط يد ابن عبدالوهاب.

ثم رحل إلى البصرة، لطلب العلم، كما رحل إلى بغداد وكردستان وأصفهان وقم التى كانت آخر تطوافه، ثم عاد إلى بلاده، وتوجه إلى الأحساء واجتمع بعلمائها، ثم توجه إلى بلاد حريملاء، حيث كان والده قاضياً فيها وقتها سنة 1724م، واستقر هناك، ولم يزل مشتغلاً بالعلم والتعليم فيها حتى مات والده في عام 1738م.

ثم انتقل إلى بلدة العيينة فنزل على أميرها الذي رحب به وقال له: "قم بالدعوة إلى الله، ونحن معك وناصروك"، وأظهر له الخير والموافقة على ما هو عليه، فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل وتوجيه الناس إلى الخير والمحبة في الله، رجالهم ونسائهم، واشتهر أمره في العيينة، وجاء إليها الناس من القرى المجاورة.


انتشار الشرك

كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، وكان الشرك قد انتشر حتى عُبدت القباب والأشجار والأحجار، ومن يدعي بالولاية، واشتُهر في نجد السحرة والكهنة، وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها، وقل القائم لله والناصر لدينه، وهكذا أيضاً في الحرمين الشريفين وفي اليمن، واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم، وذبح الذبائح لهم، وجعلها في الزوايا من البيوت؛ رجاء نجدتهم وخوف شرهم. فلما رأى الشيخ هذا الشرك وعدم وجود منكر لذلك، شمر عن ساعد الجد، وعرف أنه لا بد من جهاد وصبر وتحمل للأذى.

فجد في التعليم والتوجيه والإرشاد، وهو في العيينة، وفي مكاتبة العلماء في ذلك، والمذاكرة معهم؛ رجاء أن يقوموا معه في نصرة دين الله، ومجاهدة هذا الشرك وهذه الخرافات، فأجاب دعوته كثيرون من علماء نجد والحرمين واليمن وغيرهم، وكتبوا إليه بالموافقة، وخالف آخرون، ثم ذهب إلى بلاد الدرعية بعد أن اضطُّهد في العيينة، ونزل على شخص من خيارها اسمه محمد بن سويلم العريني ويقال: إن هذا الرجل خاف من نزوله عليه حين يعلم أمير الدرعية محمد بن سعود (جد الأسرة السعودية) بخبره، فطمأنه الشيخ، وبالفعل بلغ محمد بن سعود خبر الشيخ، فذهب إليه في بيت مضيفه، وسلم عليه وتحدث معه، وقال له: "يا شيخ محمد أبشر بالنصرة، وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة"، فقال له الشيخ: "وأنت أبشر بالنصرة أيضاً والتمكين والعاقبة الحميدة، هذا دين الله، من نصره نصره الله، ومن أيده أيده الله، وسوف تجد آثار ذلك سريعاً"، فقال له: "سأبايعك على دين الله ورسوله، وعلى الجهاد في سبيل الله فلا تبتغي غير أرضنا، ولا تنتقل عنا إلى أرض أخرى"، فرد عليه قائلاً: "وأبايعك على أن الدم بالدم، والهدم بالهدم، لا أخرج عن بلادك أبداً" وتمت البيعة على ذلك.


انطلاقته من الدرعية

وتوافد الناس إلى الدرعية من كل مكان، وتسامع الناس بأخبار الشيخ ودروسه، ودعوته إلى الله وإرشاده إليه، فأقام الشيخ بالدرعية معظماً مؤيداً محبوباً منصوراً، ورتب الدروس في العقائد، وفي القرآن الكريم وفي التفسير وفي الفقه وأصوله والحديث ومصطلحه والعلوم العربية والتاريخية، وغير ذلك من العلوم النافعة، وتزايد إقبال الناس عليه من كل مكان، واستمر على الدعوة، ثم بدأ بالجهاد، وكاتب الناس إلى الدخول في هذا الميدان، وإزالة الشرك الذي في بلادهم، وبدأ بأهل نجد، وكاتب أمراءها وعلماءها؛ وكاتب علماء الرياض وأميرها دهام بن دواس، وعلماء بلاد الجنوب والقصيم وحائل والوشم وسدير، وغير ذلك، ولم يزل يكاتبهم ويكاتب علماءهم وأمراءهم.

واستمر الشيخ في الدعوة والجهاد وساعده الأمير محمد بن سعود فى ذلك مساعدة كبيرة، ورُفعت راية الجهاد، ومع بداية عام 1743م بدأ الجهاد بالسيف وبالكلام والبيان والحجة والبرهان، واستمروا في الجهاد والدعوة، وشعرت الدولة العثمانية بالخطر، فخاضت ضد الشيخ وأتباعه قتالاً شرساً وظالماً.


محاور أساسية لفكره

ثلاثة محاور أساسية تحرك على أساسها محمد بن عبدالوهاب وأصحابه:

أولاً: إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص. وكان قد سمى دعوته (بالموحدين) أما اسم (الوهابية) هذا فقد اطلقه خصومه من باب الغمز عليه.

ثانياً: إنكار البدع والخرافات كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، ونحو ذلك كالموالد والطرق التي أحدثتها طوائف المتصوفة.

ثالثاً: أمر الناس بالمعروف وزجرهم عن الباطل، وبذلك ظهر الحق وانتشر وسار الناس في سيرة حسنة ومنهج قويم في أسواقهم وفي مساجدهم وفي سائر أحوالهم.


معالم تجديده

حين نتأمل حياة الإمام محمد بن عبدالوهاب (ثمانية وثمانون عاماً) ودعوته وعصره والبيئة التي عاش فيها لا يسعنا إلا أن نخرج بنتيجة يقينية أنه يرحمه الله كان من المجددين الكبار في عصره.. وحقيقة لم يغفل العلماء والمؤرخون له هذا الفضل، فلقد أنصفه وأنصف دعوته كثيرون، فكتب عنه الشوكاني صاحب "نيل الأوطار" في (البدر الطالع) ودافع عنه الألوسي في بغداد في كتاب (غاية الأماني)، ويقال: "إن من أفضل الدراسات التي كتبت عنه الرسالة التي أعدها الدكتور صالح العبود ونال بها درجة الدكتوراه من قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية وعنوانها (عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي)".
وعلى الجانب الآخر كان للرجل خصومه ومعاندوه الذين أكثروا في الاتهام له والادعاء عليه.

فمن الافتراءات التى ادعاها عليه خصومه:
ا ـ ادعاء النبوة.

2ـ رميهم الشيخ وأتباعه بأنهم "خوارج"! وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عنهم في قوله: "الفتنة من ها هنا" وأشار إلى المشرق.

3 ـ أن الشيخ مشبِّه مجسم!

4 ـ أنه ينكر الكرامات!

5 ـ أنه ينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم !

6 ـ أنه يكفر المسلمين ويستحل دماءهم!


ردوده على خصومه

وقد طلب الشيخ يرحمه الله من خصومه ومناوئيه أن يأتوا بمسألة واحدة خالف فيها الحق فى جزيرة العرب.

ورد على كل ذلك فقال: ".. فالمسائل التي شنع علي بها، منها ما هو من البهتان الظاهر مثل: أني مبطل كتب المذاهب، وأني أقول: إن الناس من 600 سنة ليسوا على شيء، وأني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري (صاحب البردة) لقوله: يا أكرم الخلق، وأني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب! وأني أنكر زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من يحلف بغير الله.." وجوابي على كل ذلك أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم"!

وقال أيضاً: "وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً من أن يفتريه ومنها: أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن (زواجهم) غير صحيح! ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل! هل يقول هذا مسلم أم كافر أم عارف أم مجنون"؟

ويقول يرحمه الله : "وأنا أدعو من خالفني إلى: إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما إلى إجماع أهل العلم، فإن عاند دعوتُه إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان الثوري والأوزاعي في مسألة رفع اليدين وغيرهما من أهل العلم".

ويقول الشيخ رشيد رضا يرحمه الله في تقديمه لكتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" والشيخ أحمد بن دحلان هذا أحد خصوم الشيخ : "كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا وأمثاله فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، فعلمت أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفاً من تجديد ملك العرب وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى..."، إلى أن قال: "ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ وكتب أولاده وأحفاده ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية، فرأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذباً عليهم قالوا: سبحانك هذا بهتان عظيم، وما كان صحيحاً أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه.

وقد طُبعت كتبهم، وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم، ومن المستبعد جداً أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل، وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها ثم أصر على ما عزاه إليهم من الكذب والبهتان لاسيما ما نفوه صريحاً وتبرؤوا منه فأي قيمة لنقله ولدينه ولأمانته؟ وإذا فرضنا أنه لم ير شيئاً من تلك الكتب والرسائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه؟! إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره، وعدّوه من أئمة المصلحين المجددين للإسلام، ومن فقهاء أهل الحديث كما نراه في كتبهم".

وفاته

وفي عام 1791م توفي الشيخ محمد بن عبدالوهاب عن ثمانية وثمانين عاماً، منها خمسون عامًا في الجهاد والدعوة إلى الحق، حتى التزم الناس بالطاعة وهدموا ما عندهم من القباب وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور، وحكموا الشريعة، ودانوا بها وتركوا ما كانوا عليها من شرك وبدع، وساد الأمن والوحدة ربوع الجزيرة العربية.