ما بعد الكارثة والبحث عن مخلّص
ريم بدر الدّين بزال
يُقال أنّ إرهاصات معركة نهاية العالم “هرمجدون” المذكورة في الكتاب المقدّس تظهر على شكل مجاعاتٍ وأوبئةٍ وحروبٍ وموتٍ، ولكنّ نهاية العالم في أدب الخيال العلميّ تتعلّق بظواهر أخرى مثل الحرب أو الكارثة النّوويّة أو الحرب البيولوجيّة أو الكارثة البيئيّة أو الجيولوجيّة أو حتّى الكارثة الكونيّة.. وأدب ما بعد الكارثة يناقش قضيّةَ ما يمكن أن يُحَلّ بالوجود الإنسانيّ والتّحذير من الشّرّ الكامن في قلب الإنسان، والّذي يمكنه أن يتفجّر يوماً ليقضي علينا جميعاً.
غير أنّ القطبة المخفيّة في جميع هذه الأعمال هي البحث عن المخلّص، وفتح نافذة الأمل بعد أن تكون التّجربة قد عركت الباقين وعلّمتهم درساً في كيفيّة احترام إنسانيّتهم وبنائهم المجتمعيّ وإنجازهم البشريّ والهبات الإلهيّة.
ويبدو أنّ هذا الموضوع يشغل بال الكثيرين من الكتّاب والرّوائيين، إذ عُولِج في الأدب العالميّ بكثيرٍ من الإسهاب والتّفصيل، واعتمد أغلبه على الرّواية التّوراتيّة نفسها:
“تعالي نقيم من أبينا نسلاً”.. سفر التّكوين.
حيث ورد في الرّواية التّوراتيّة في سفر التّكوين أنّ قوم لوط فسقوا فأرسل لهم الله ملائكةً توقع بهم العذاب، وبعد أن أمرت الملائكة لوط وأسرته بالخروج نحو الجبل لاتّقاء الكارثة الّتي ستحيط بقومه، وحين حلّت الكارثة أدركت ابنتا لوط أنّه ليس ثمّة أملٌ سوى بإقامة نسلٍ من أبيهما للحفاظ على وجودهما الإنسانيّ، ولم تقم الرّواية التّوراتيّة بإدانتهما بل باركت ما قامتا به، إذ لولا ما فعلتاه لانقرض الوجود الإنسانيّ. ومنذ تلك الرّواية التّوراتيّة يعيد الأدباء والمؤرّخون والرّوائيّون إنتاج القصّة بأشكالٍ مختلفةٍ، ولكنّها جميعاً تلتقي عند ذات المنبع، وقد صُنِّفت فيما بعد على أنّها (أدب ما بعد الكارثة).
وجاء في التّعريف أن أدب ما بعد الكارثة هو: نوعٌ من أنواع أدب الخيال العلميّ الّذي كان من أبرز روّاده الفرنسيّ “جول فيرن”.
وأدب ما بعد الكارثة يكتب عن أيّ جائحةٍ يمكنها أن تمحو الوجود الإنسانيّ أو تكاد، سواء كانت كارثةً طبيعيّةً أو عقوبةً إلهيّةً (وباء، زلزال، خسف…)، أم نتيجة جنون الإنسان (استخدام الأسلحة المدمّرة أو التّسبّب بالكوارث البيئيّة..).
ويصوّر هذا الجنس الرّوائيّ صورة العالم والبشريّة بعد الكارثة والخراب الّذي يمكن أن يحلّ بالأرض والإنسان، والخبايا الّتي تظهرها النّفس الإنسانيّة عند الكارثة من طمعٍ وجشعٍ وأنانيّةٍ كجانبٍ طاغٍ، وبعض التّعاطف والتّعاون كجانبٍ لا يمكن أن يمّحي بالمطلق من النّفس البشريّة.
وعند إحصاء ما كُتِب في هذا المجال قد تنتابنا الدّهشة، إذ قُدِّمت الكثير من الأعمال الأدبيّة الّتي تدخل في إطار أدب ما بعد الكارثة، رغم أنّه غيّب في الفضاء العربيّ إذ لم يتطرّق له كثيرٌ من الكتّاب عدا “نجيب محفوظ” في رواية الحرافيش. في حين يختلف الوضع بالنّسبة للأدب العالميّ، إذ أنّه تمّ التّطرّق لهذا الموضوع من قبل العديد من الكتّاب مثل “خوسيه ساراماجو” البرتغاليّ (الطّوف الحجريّ، العمى) وكورماك مكارثي في أثره (الطّريق). و يُعتبر العمل الأوّل والأهمّ في أدب ما بعد الكارثة هو رواية (الإنسان الأخير) لماري شيلي والّتي نشرت عام 1826 وتركّز على النّاجين من وباء يتهدّد الجنس الإنسانيّ.
وقد صعد هذا الجنس الأدبيّ المتفرّع من أدب الخيال العلميّ خلال خمسينيّات القرن الماضي ووصل إلى ذروته خلال الحرب الباردة، عندما كان التّهديد بإبادةٍ نوويّةٍ وشيك الوقوع. ومع أنّ المعسكرات المتعادية قد تغيّرت بعد انهيار الاتّحاد السّوفيتيّ لكنّ التّهديد بكارثةٍ ما يزال قائماً وقوياً، (انظر موسوعة الأدب العالميّ جون كلوت وبيتر نيكولاس. المحرقة وما بعدها).
إنّ الحاجة لكتابة أدب ما بعد الكارثة باتت مهمّةً باعتبارها جنساً أدبيّاً، إذ يغذّي الذّائقة الأدبيّة المحبّة للمغامرة والتّهديدات النّاجمة عن محاولات الاستكشاف والرّغبة في سبر أغوارٍ جديدةٍ، إنّه نوعٌ أدبيٌّ يحثّ على التّوقّف عن الاقتتال وبدء صفحةٍ جديدةٍ نستطيع أن نرى فيها ما كان يمكن أن يكون العالم عليه لو امتلكنا وعينا الآن في وقت وقوع الكارثة.
يتلخّص هذا جيّداً في الاقتباس التّالي من كتاب جون فارلي (المختصر) الصّادر عن مانهاتن فون بوك: “جميعنا نحبّ القصص الّتي تتحدّث عن ما بعد الكارثة، وإذا أنكرنا هذا فماذا يبرّر وجود هذا العدد الكبير جدّاً منها؟ هناك ما يثير فعلاً في النّاس الّذين ماتوا، هناك ما يثير حقّاً في التّجوّل في عالمٍ خلا من البشر نستجدي علب اللّحوم المجفّفة مع البازلّاء، ندافع عن عائلاتنا من القتلة. نعم هي قصصٌ مرعبةٌ، وسنبكي حتماً حزناً على كلّ الّذين ماتوا، لكنّ جزءاً سرّيّاً في دواخلنا يغبطنا ويقول أنّه من الجيّد أن ينجو الإنسان ويبدأ من جديدٍ. نعلم بشكلٍ خفيٍّ أنّنا سننجو وهذه القطعان الأخرى سوف تموت، هذا هو حقّاً ما تقصّه علينا روايات ما بعد الكارثة.”.