«والقلم وما يسطرون» آية كريمة ترجمها العرب الأقدمون بمعرفة وحب عميقين لكل ما يسطر عن القلم، فتفننوا به وأبدعوا حروفه، نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

فكان فن الخط آية من آيات الجمال التي اختص بها العرب وطوروها عبر العصور، فمنذ ان ورث العرب الكتابة عن الأنباط مروراً بدعوة الرسول الكريم إلى تعلم القراءة والكتابة، بدأت رحلة تحسين الكتابة وتجويدها، وكان للكوفيين الخطوة الأولى تاركين اسم مدينتهم ليكون أهم اسم من أسماء الخطوط التي دوّن بها القرآن الكريم في تلك الفترة. وكانت سمة تلك القرون الأولى من العصر الراشدي إلى الأموي فالعباسي هي الابتكار والإبداع حتى وصلت الخطوط العربية إلى ما يقارب المئة فوضع ابن مقلة الوزير العباسي أول ميزان للخط ينسب أبعاد الحروف إلى دائرة قطرها طول حرف الألف بوحدة قياس أساسها (النقطة). هذه الخطوة التي عبرت عن وعي العرب لعلوم الهندسة وارتباطها بالميزان والجمال، وبعدها توالت جهود رواد الخط في إكمال دور ابن مقلة في تهذيب القواعد وتبسيطها واختزالها، وشهدت تلك المسيرة سقوط أنواع وظهور أخرى بما يتلاءم مع تطور المفهوم الجمالي لكل عصر، ليظهر في بلاد الشام محمد بدوي الديراني الذي يعد من أهم من أبدع في فن الخط في العصر الحديث و أخرج حروفه من قالب الشكل الى قالب اللوحة ليعرف بخطاط بلاد الشام.
الدكتور محمد ياسر العبار أرخ مسيرة الفنان الديراني في إصدار خاص خصته به الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 احتفاء بمسيرة الديراني وفيه:
ولد الخطاط محمد بدوي الديراني (1894-1967) في دمشق وهو منسوب الى بلدة داريا، عاصر في طفولته المبكرة تجديد الجامع الأموي بعد حريقه، وتتلمذ في صباه على يد الخطاط التركي يوسف رسا الذي بعث من أجل تجديد كتابات الأموي، كما تتلمذ في الوقت ذاته على يد الخطاط القاضي مصطفى السباعي في الخط الفارسي، وكان معروفاً عن السباعي امتلاكه كنوزاً عظيمة لكبار خطاطي إيران الذين مروا بدمشق في رحلتهم الى الحج، ثم عمل في محترف صديقه وأستاذه الخطاط الشامي ممدوح الشريف حتى وفاته، ثم افتتح لنفسه محلاً قرب الجامع الأموي.
سافر الديراني إلى اسطنبول عام 1954 للاطلاع على فرائد الخط العربي فيها، وفيها نزل ضيفاً على الخطاط الشهير حامد الآمدي، كما زار الديراني الإسكندرية، فاطلع على الخط المرقوم في مساجدها، وقابل مشاهير الخطاطين فيها، ومن الإسكندرية سافر إلى القاهرة ونزل ضيفاً على الخطاط حسني البابا، ثم عاد إلى اسطنبول.
أكثر ما اشتهر عن بدوي تميزه في الخط الفارسي، فأسلوبه بالكتابة مستقر على السطر وحروفه حادة على اختلاف الأسلوب الإيراني الأكثر توضعاً على المستوى العمودي وهكذا أخذ بدوي يصطفي لنفسه بحرية الفنان الواعي من دون تحزب أو تحيز ما يراه أكثر تناسباً وتلاؤماً مع متطلبات العمل تارة واللوحة تارة أخرى.
أما في الثلث فقد فاق بدوي معاصريه وأساتذته في الشام وقارع في تراكيبه أعظم خطاطي عصره، وأكثر ما دل عليه لوحته الشهيرة ذات الخمسين نوعاً من الكتابة. أما في الكوفي فقد عُدَّ بدوي استاذاً خبيراً، وكانت كتاباته الكوفية متنوعة وأصيلة نجدها إلى اليوم فوق المنابر، وبالنسبة لخط النسخ لم يراع بدوي الاسلوب التركي بل كان أسلوبه أكثر استقراراً على السطر، وفي الخط الديواني كان أسلوبه واضحاً ولم يستخدم التراكيب التي تشكل لبساً في القراءة.تركة بدوي تشهد له بمستوى الحرفية والجمال اللذين وصل إليهما الديراني بكتاباته ومن آثاره الباقية الكتابات التي ترصع جوامع: الروضة، والمنصور، والثريا، وكريم الدين، والمرابط، والعثمان، والفردوس... ومن المنشآت المدنية التي تحتضن آثاراً بديعة له، مبنى مجلس الشعب، ومبنى لجنة مياه عين الفيجة، ووزارة العدل، وكذلك شهادات خريجي جامعة دمشق وحلب، وله كتابات ولافتات كثيرة على أبواب الدور والمتاجر والمكاتب..
ونظراً للأثر الذي تركه كرمه بلده بمنحه وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1968 أي بعد سنة من وفاة بدوي، وقد استلمه أبناؤه وأقيم على هامش هذه المناسبة معرض لأعماله في قاعة المعارض في متحف دمشق الوطني، كما كرم في «لبنان» عام 1999 من مركز البيان الثقافي، والمكتب الإسلامي، وفي إطار مهرجان «بيروت» عاصمة الثقافة العربية أقيم له معرض خاص به وحفل تكريم.

http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/298692