على المصاطب
على المصاطب المنبسطة قيمة متر أو يزيد قليلاً خارج ديار الحارة , النسوة يجدن التشدق بالضار و النافع و كل ماهو جديد , ويعتدن فرقعات الضحكات الرنانة و العلكة بمزاج , و يستمتعن بنسمة العصر الهافة من غيطان الفول و الجنائن البرتقالية فتنعش صدورهن المكتنزة بتدرجٍ و أردافهن التى لا تتسع لها المصاطب , و تحرك شحومهن المتكومة تحت الإبط و فوق الأرداف , و ترطب أقدامنا الحافية ـ نحن الصبية ـ المعجونة بأتربة الحوارى و رماد الأفران البلدى , ونستريح بجوارهن من عفرتة الأزقة , فاغرين الأفواه .. نتلاقط الشهيق و الزفير كالناجين من الغرق , و نكرع (أكواذ) الماء بنهم , ثم ندلقها على السيدات اللينات , فيتدحرجن بأردافهن المنفرطة , فينجرف تيار الثورة و النشوة فى سيقان عم فخرى القابع خلف شباكه يرصدهن بشبقٍ وكياسة , و تتفجر به طاقات الحرمان المختزنة منذ رحيل زوجته , فينتبهن له وعلى عجلٍ يلملمن ما انفرط, فيزداد شبقه و يطن دبورٌ فى دماغه . ثم نعود كى نرجم بعضنا بعضاً بكرةٍ قد صنعناها بأيدينا من أحد جوارب والدى القديمة , وحشوناها بقصاصات متنوعة من الملابس النافقة ..
نلهو بها فى الصباح و بعد العصرية نفقدها كالعادة , إما فى ترعة القرية أو فوق سطح منزلٍ مهجور أو تهرب منا وتطيرعبر نافذة أحد المراحيض .. تلف و تدور مع الماء المنزلق إلى أن تستقر فى كوع التصريف , فتعوق حركة الملاحة و المرور , وتطفح المواسير و تتسرب المياة من الجدران ثم تصير بحيرات تنعم و تستجم بها الطيور الضالة من بطٍ و أوزٍ , وفى النهاية تنشب المعارك الضارية بين النسوة بالمقشات و الطشوت , فنقف و نتفرج و نهلل لمن تبطح رأس خصمتها بملعقة أو فردة شبشب , و تستمر المعركة حتى يأتى الأزواج و يضربهن ضرباً مبرحاً , وفى اليومِ التالى يجلسن على المصاطب , و يعقدن الصلح و يتبادلن الحديث عن آلام الظهر و الليالى الحمر , ومصاريف الدار و أسعار الزيت و السكر.
فى بادىء الأمر , كان صنع الكرة يسيراً ولا يعد مشكلة , فما أكثر الخرق و الأقمشة التالفة بالأزقة , وبيوتنا أيضاً كانت عامرة بالجوارب المسنة , نحكم صنعها جيداً ثم ننطلق كى نحرث الحارات بأقدامنا , نتقاذفها و من تصبه يكن مستبعداً و يجلس بجوار السيدات ينتظر للدور القادم , ومن يصمد حتى النهاية دون أن تمسه الكرة يصبح بطلاً من أبطال اكتوبر و نتوجه كأساً ذهبية مصنوعة من أغلفة التبغ اللامعة التى أهدرها عم فخرى و رماها أسفل الشباك.
لا نشرع فى اللعبة حتى نتأكد من جلوس عم فخرى , ونتمهل قليلاً حتى يفرقع أول علبة "كليوباترا" و يطيحها إلينا فنلتقفها فرحاً بقدوم الكأس .
وذات يومٍ , جلسنا كالمعتاد على مصطبة الحاجة نعيمة نتدبر المصيبة الكبرى , كل الجوارب القديمة استهلكناها فى نفخ الكرات , و عصرنا جماجمنا حتى أسدلنا قائمة الإقتراحات :
استبعدنا الإقتراح الاول , فالأكياس البلاستيكية غير نافعة و تتمزق مع أول قذفة .. و الإقتراح الثانى لا يصح , من منا لديه الجرأة كى يسرق جورب جديد من جوارب والده .. أما الإقتراح الأخير فكان رابع المستحيلات , فالمساجد محفوفة بالملائكة و حرمتها عظيمة , وفى الأسبوع الماضى أنشد شيخ المسجد خطبة كاملة عن ابن عوض الدكر لما سرق حذاءه و فر هارباً .
ـ عندى فكرة .
ـ الحقنا بها ياأبو العريف .
لم يكن هناك حلول أخرى , ولا غيره يفرج كرباتنا , يمدنا بالكأس و سيمدنا بالكرة أيضاً .. كان الشباك مغلقاًً و الغرف مظلمة , فتأكدنا أنه يأكل (بلوظة) مع الملائكة .. تسللت بهدوء كقطٍ كنت أتفرج عليه دائما فى فقرة الكارتون و تسحبت على أظافرى مثله , و فتحت باب الدار , كان مغلقاً بغير إحكام , فسهّل علىّ المهمة , و واصلت الزحف كالفدائيين , مبدلاً يدى اليمنى مع قدمى اليسرى و العكس , واحدة يساراً مع أخرى يميناً , فيميناً فيساراً , فيساراً فدوخة و عرق و زغللة , حتى أُجهدت و حمدت الله أنه لم يخلقنى قطاً , كنت سأعانى الكثير فى صيد الفئران , وأخيراً وصلت و تمكنت من هدفى و وضعت الحذاء بين يدى , و دسستها فى يمناه , واستندت على اليسرى أتنفس الصعداء و أشق ريقى الجاف بلعابى الهارب , و أخرجت الوليمة , ويا قوة الله على أم عفنك يا عم فخرى , انطلقت من الحذاء رائحة نتنة كأننى اصطدت فأر متجيف , وضعته فى جيبى و استدرت إلى الخلف مكتوم الأنفاس , عائداً بنفس الخطة , يميناً فيساراً ..... , لكن علق بنطالى بمسمارٍ كان بأسفل الباب , فاستغنيت عن (الأستيك) و قرضته بأنيابى المتينة , وقذفت نفسى وسط لحم الأولاد المتكوم بالخارج , و المتأهبون لإعلان النصر , وسريعأ قرفصت إلى ركن حائط أطرد الفأر الذى ابتلعته فى صالة عم فخرى .
أفرغت أمعائى و ارتميت كالعنزة النفساء ألعن أسلاف الرجل على مصطبة الحاجة نعيمة مع الأولاد الذين أثبتوا كفاءتهم فى لم الزبالة و تطهير الشوارع من بيجامات متهالكة و قمصان نوم و سراويل مهلهلة و حمالات صدر بأحجامها و ألوانها الرائعة بمختلف المقاسات , ثم شرعنا فى نفخ الكرة و إحكام جورب عم فخرى الفضفاض الذى استهلك منا حمالتين و نصف لباس , فقدم عم فخرى كانت مبططة مثل خُف الجمل , ولا تقنع بأى حذاء , لكن و الحق لله كانت فردة جوربه من النوع الفاخر ولم نشهد بها أى ثقوب أو فتحات .
وأخيراً انتهينا من تجهيزالكرة , وصارت مدورة كنهدٍ أعلن اكتنازه , و رحنا نجربها تحت شباك أبو الفواخر العظيم , عامدين إيقاظه كى يأتى بسجائره و يمنحنا الكأس المنشودة , تقاذفناها مئات المرات و تعفرتنا آخر عفرتة .. صرخنا بآخر جهدنا , لكن يبدو أن (البلوظة) أثخنت معدته وراح فى سابع نومة , لم نيّأس .. و حاولنا مرات عديدة , وجلسنا تحت الشباك نضج و نصخب الحواديت الفارغة , و بعد حدوتتين شعرنا بحركة ناعمة داخل الدار ..الله أكبر.. فلحت خطتنا , ففرحنا و صهللنا بأعلى صوت .. الحركة ازدادت قليلاً فزودنا معيار الصهللة .. الحركة اشتدت أكثر و أكثر و سمعنا حفيف نعال يمر فوق رؤوسنا بجانب الشباك .. اللهم صلى على النبى .. جهزنا أنفسنا بالتسخين و المران العنيف .. لمحنا نسوة يدخلن و يخرجن من الباب الذى طمع فى (أستيك) بنطالى , ثم دلفن مرةً ثانية بسرعة و خرجن , ثم دلفن و هكذا قرابة النصف ساعة .
كن فى بادىء الأمر يلبسن المزكرش و المنقرش , و خدودهن متورمة كالطماطم المطبوخة , فتوقفنا عن العفرتة و تشبثت أقدامنا الحافية بالأرض مشدوهين و شاخصين الأنظار , نعد حبات الطماطم الداخلة و الخارجة حبة بعد حبة .
و فجأة اختفت الزركشة و النقرشة و أظلمت الحارة , و اتشحت بسوادٍ قاتم , ثم افترشت المصاطب بالأفخاذ و النهنهات , و خرجت الحاجة نعيمة بحنجرةٍ أسطورية ترج الأمكنة بأمجاد أبو الفواخر بطل الحرب و السلام , و بصوتٍ رخيم كان شيخ المسجد يشيع الفقيد و يقتصر عزاءه على الجبانه , فانزوينا تحت الشباك و جلسنا نغط فى بكاءٍ عميق .