منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3

العرض المتطور

  1. #1

    الأديب يوسف إدريس ملك القصة

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    كاتبنا هذه المرة واحد من الذين جمعوا بين مهنة الطب وحرفة بالأدب.. والذي ربما ترك البحث في وسائل علاج الأمراض العضوية في جسد الأفراد ليبحث عن علاج للأمراض النفسية والاجتماعية في جسد المجتمع.

    إنه أحد المتمردين على الموروث والمتحجر والثابت، ثائر كالموج، أفكاره متجددة كمياهه، عميقة كبحره، ولهذا استطاع أن يشعل بقلمه ثورة فنية وإبداعية خلاقة في عالم القصة القصيرة، والتي ما إن تقرأ إحداها حتى تشعر أن كاتبها ينسج خيوطا من حرير الكلمات التي تنبهر لها عيون العقل والوجدان معا.. إنه ملك القصة القصيرة، "يوسف إدريس" فهيا بنا نقترب سويا من عالمه لنتعرف على بعض منه..

    الكاتب في سطور:

    ولد "يوسف إدريس" لأسرة متوسطة الحال بإحدى قرى محافظة الشرقية عام 1927، التحق بالمدارس الحكومية حتى المرحلة الثانوية، ليكمل بعدها مشواره التعليمي بكلية الطب جامعة القاهرة ثم ليتخرج فيها عام 1951.

    وعلى هذا فقد عايش في مرحلة الشباب فترة حيوية من تاريخ مصر من جوانبه الثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث الانتقال من الملكية بكل ما فيها من متناقضات، إلى الثورة بكل ما حملته من آمال، ثم النكسة وما خلفته من هزائم نفسية وآلام، ثم النصر في 73 بكل ما كان ينطوي عليه من استرداد لعزة وكرامة الشخصية المصرية، ثم الانفتاح وما تبع ذلك من آثار على المجتمع المصري من تخبط وتغير في بنيته الثقافية والنفسية والاجتماعية.. إنه رجل عاش كل هذه التقلبات، ليس كما يعيشها الإنسان العادي، بل كما يعيشها الفنان المبدع الذي تؤثر فيه تفاصيل الأحداث، ويعمل على أن يرصدها ليتمكن من تأثيره عليها، فجاء أدبه معبرا عن كل مرحلة من هذه المراحل، وناطقا برأيه عما يتغير ويحدث حولنا في هذا البلد وما يحدث في أبنائها، ولاسيما أنه كان في مطلع شبابه متأثرا بالفكر الماركسي بكل ما يحمله من هموم اجتماعية.

    كان كاتبنا غزير الثقافة واسع الاطلاع بالشكل الذي يصعب معه عند تحديد مصادر ثقافته أن تقول إنه تأثر بأحد الروافد الثقافية بشكل أكبر من الآخر.. حيث اطلع على الأدب العالمي وخاصة الروسي وقرأ لبعض الكتاب الفرنسيين والإنجليز، كما كان له قراءاته في الأدب الآسيوي وقرأ لبعض الكتاب الصينيين والكوريين واليابانيين، وإن كان مما سجله النقاد عليه أنه لم يحفل كثيرا بالتراث الأدبي العربي وإن كان قد اطلع على بعض منه.

    هذا من ناحية أدبية وفنية وثقافية عامة ساهمت في تشكيل وعيه العقلي والأدبي، ولعل ممارسته لمهنة الطب وما تنطوي عليه هذه الممارسة من اطلاع على أحوال المرضى في أشد لحظات ضعفهم الإنساني، ومعايشته لأجواء هذه المهنة الإنسانية ما أثر في وعيه الإنساني والوجداني بشكل كبير، مما جعل منه إنسانا شديد الحساسية شديد القرب من الناس شديد القدرة على التعبير عنهم، حتى لتكاد تقول إنه يكتب من داخلهم وليس من داخل نفسه.

    بدأ نشر قصصه القصيرة منذ عام 1950، ولكنه أصدر مجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي" عام1954، لتتجلى موهبته في مجموعته القصصية الثانية "العسكري الأسود" عام1955، الأمر الذي دعا عميد الأدب العربي "طه حسين" لأن يقول: "أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول (أرخص ليالي) على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها.."

    وهي ذات المجموعة التي وصفها أحد النقاد حينها بقوله: "إنها تجمع بين سمات "ديستوفسكي" وسمات "كافكا" معا".

    ولم يتوقف إبداع الرجل عند حدود القصة القصيرة والتي صار علما عليها، حتى إنها تكاد تعرف به وترتبط باسمه، لتمتد ثورته الإبداعية لعالمي الرواية والمسرح..

    حديث عن الحرية...
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    لقد تمتع "يوسف إدريس" بسمات شخصية كان على رأسها الإقدام والجسارة والجرأة، ولم تختلف صفحات قصصه ورواياته كثيرا عن تلك السمة المميزة لصفحة شخصيته، فاتسمت هي الأخرى بالجسارة، فهو من أصحاب الأقلام الحرة، على الرغم من أنه ظهر في مرحلة تجلّى القمع فيها في أسوأ صوره، من تكميم لأفواه المبدعين، وسحق لآدميتهم، وتشريد الداعين للحرية بطردهم من وظائفهم، أو سجنهم، أو التنكيل بهم.. إلا أنه بين كل هذه الألغام في طريق الكلمة الصادقة الحرة عمل دائما على أن يقول ما يريد وقتما يريد، وبعد أن فرح بالثورة وأخذ بجانب بدايته كطبيب في القصر العيني –حينها- يهتم بكتابة إبداعاته القصصية حتى وصل لأن يكون مسئول القسم الأدبي بمجلة روزاليوسف، سرعان ما بدأ انتقاده لرجال الثورة وسياسة "عبد الناصر"، الأمر الذي أدى به عام 1954 إلى السجن، مما جعله يعتبر نفسه في النهاية لم ينل حريته التي تمكنه من قول كل شيء.. بل بعضا من كل شيء؛ فنراه يتكلم عن هذه الحرية المفقودة ويقول:
    "إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها".

    وعن هذه النفس الإنسانية المتوقدة داخل يوسف إدريس يقول د. "جابر عصفور": "كان "يوسف إدريس" واعياً بالأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تحول بين المبدعين وممارسة جسارتهم الإبداعية إلى المدى الذي يعصف بالمحرمات التي كادت تشمل كل شيء، والممنوعات التي يتسع مداها بالقدر الذي يتسع به مدى الاستبداد والتسلط مقروناً بالتعصب والتطرف على كل مستوى من المستويات. وأغلب الظن أن "يوسف إدريس" كان واعياً بمعنى من المعاني بالجذور القديمة والأصول الراسخة للقمع في تراثنا، تلك الجذور والأصول التي أودت بحياة الكثيرين من المبدعين على امتداد العصور".

    القصة بين الواقعية والعامية:

    تميزت القصة عند "يوسف إدريس" بالواقعية، حيث أخذ يصور الحياة اليومية ولاسيما للمهمشين من طبقات المجتمع، كما أنه جنح إلى استخدام العامية في قصصه، وإلى استخدام لغة سهلة بسيطة، وكان يرى أن الفصحى لا يمكن أن تعبر عن توجهات الشعب وطموحاته، كما أن الحوار يعد ركنا هاما من أركان القصة عنده، ويمثل جزءا من التطور الدرامي للشخصيات، والتي غالبا ما كانت من البسطاء الذين يصارعون من أجل الصمود أمام مشاق الحياة، ولعل في الظروف التي كان يعيشها الشعب المصري حينها، وضغط الفقر والحرمان من أبسط حقوقه الإنسانية ما يفسر اتجاه كاتبنا نحو هذا النوع من الأبطال في قصصه ومن الأسلوب الذي اتخذه للتعبير عنهم من خلال الحوار والذي جاء لتقريب ما يدور داخل شخصياته من تصعيد نفسي وتصعيد للأحداث.

    عمد "يوسف" إلى التكثيف والتركيز في قصصه القصيرة حتى كان يقول عن تعمده هذا المنحى: "إن الهدف الذي أسعى إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين كلمة.. أي في جملة واحدة تقريبا- الكمية القصوى الممكنة من الإحساس، باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات". وعليه فقد كان "يوسف إدريس" يعتبر الإيجاز في القصة القصيرة من أهم الخصائص الأسلوبية التي على الكاتب أن يناضل من أجل تحقيقها، وفي ذلك يقول: "فالقصة القصيرة أكثر الأشكال الأدبية إيجازا فعبارة "أهلا حمادة" تشبه القنبلة الذرية في صغرها وفعاليتها ومع ذلك فهذه القنبلة يمكن تصنيعها-فقط-على أيدي أناس ذوي موهبة"

    "يوسف" و"نجيب".. وجائزة نوبل

    رغم أن "يوسف" إدريس حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 66، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 91، إلا أن كثيرا من اللغط والأحاديث دارت حول أنه تحسر لأنه لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب... وسوف نقترب من هذا الأمر بحذر شديد، فالحقيقة تؤكد أن هذا الرجل بصرف النظر عن حصوله عليها من عدمه وبصرف النظر عما تردد حول أنه عرض عليه جائزة نوبل مناصفة مع كاتب يهودي فرفض.. فسواء كانت هذه الواقعة حقيقية أم لا، فالمؤكد والثابت أنه قد استطاع أن يصل بأدبه للعالمية حيث ترجمت أعماله لكثير من اللغات، ونالت استحسانا عالميا..

    أما عن "نجيب محفوظ" فالثابت أيضا في أكثر من تصريح له أنه شهد ليوسف بالتفرد في الإبداع وأنه طالما تكلم عن "يوسف إدريس" وقال:"هو ملك القصة القصيرة".

    ومن الذي تم جمعه من الأقوال المتناثرة ليوسف حول هذه الجائزة نذكر لكم قوله:
    "تعال إلي جائزة نوبل مثلاً. فهي ترى في أية كتابة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية أو يهودية إسرائيلية أو روسية منشقة أعمالاً عظيمة تستحق التقدير العالمي.. أمَّا الكتابة العربية فلا".

    وقوله:
    "كذلك الإلحاح علي ضرورة أن ينال أديب عربي جائزة نوبل. فإنه يعني أننا نحتاج إلي اعتراف الغرب بنا. وهذه كارثة. إن الدول العربية تستطيع أن تنشئ جائزة أكبر من جائزة نوبل. وتهديها سنوياً لأكبر أديب في العالم سواء كان عربياً أو لم يكن".

    وقوله:
    "إنني أنا يوسف إدريس اعتقد أن الأدب العربي هو الحركة الأدبية الأولي في العالم قبل أدب أمريكا اللاتينية. هناك كتّاب عظام في أمريكا اللاتينية أما الحركة الأدبية فهي حركة الأدب العربي. إنها أعظم حركة في العالم الآن. أقولها بمنتهي الإحساس بالمسئولية من خلال قراءتي ورحلاتي واشتراكي في ندوات متخصصة عالمية. المشكلة لدي البعض أن الغرب لا يعترف لنا بذلك. حسنا. ولكن البعض الآخر يساعد الغرب علي ذلك".

    ربما حزن "يوسف إدريس" على أنه لم يحصل على هذه الجائزة، وربما لم يحزن لذلك كما تشهد أقواله وأعماله بأنه ليس في حاجة لأن يأخذ اعترافا غربيا قد يشوبه شيء من الخلط بين الفكر الأدبي والاتجاهات السياسية.. وعلى أية حال فإننا لا نعتقد أنه حزن لأن "نجيب محفوظ" هو الذي حصل عليها كما يدعي البعض، وإن كان حسم هذه الأمور التي تتعلق بالنوايا والمشاعر أمر صعب، والخوض فيه بمنطق الإثبات أو النفي يكاد يكون أمرا غير محسوم، إلا أننا نفضل أن نحسن الظن بالآخرين وخاصة إذا كان هذا الآخر رجل بقامة وإنسانية "يوسف إدريس".. في حين أن الذي حصل عليها هو أديب مبدع يستحقها مثل "نجيب محفوظ".. ولنقف تقديرا لكليهما ونقول "رحم الله الأديبين الكبيرين"..

    "يوسف".. والسينما:

    أخرجت السينما المصرية عن أعماله الإبداعية ( 11) فيلماً ومن هذه الأفلام:

    لا وقت للحب عام 1963، عن رواية "يوسف إدريس" (قصة حب) الصادرة عام 1957.

    الحرام عام 1965، عن روايته (الحرام) الصادرة عام 1959.

    العيب عام 1967، عن روايته (العيب) الصادرة عام 1962.

    حادثة شرف عام 1971 ، عن قصته (حادثة شرف) من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه.

    النداهة عام 1975، عن قصته (النداهة) من مجموعته التي تحمل العنوان نفسه.

    ورق سيلوفان عام 1975، عن قصته (ورق سيلوفان) من مجموعته (بيت من لحم) الصادرة في العام 1971.

    أهم أعمال "يوسف إدريس" الإبداعية:

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    الأعمال المسرحية:
    ملك القطن
    جمهورية فرحات
    اللحظة الحرجة
    الجنس الثالث
    المخططين
    البهلوان

    القصة القصيرة:
    بيت من لحم
    لغة الآي أي
    العتب على النظر
    أقلتها
    قاع المدينة
    النداهة
    رجال وثيران
    حادثة شرف
    آخر الدنيا
    أرخص ليالي

    وفي الرواية:
    العسكري الأسود
    العيب
    الحرام
    البيضاء

    بقي أن نشير إلى أنه أتجه للصحافة في سنوات عمره الأخيرة ليكتب المقال بشكل منتظم في جريدة الأهرام والذي جاء مطبوعا بفكره وشخصيته وآرائه الحرة الجريئة في العديد من قضايانا الثقافية والاجتماعية والسياسية، حتى فارق الحياة في 1 أغسطس1991.

    فما الذي أعجبك من أعمال هذا
    الرجل؟ وهل يستحق لقب ملك القصة القصيرة؟




    نمــــــــــــــــــوذج من أعماله

    بيت من لحم..

    الخاتم بجوار المصباح، الصمت، الصمت يحل فتعمى الآذان، في الصمت تتسلل الأصبع، يضع الخاتم.

    في صمت أيضًا يطفأ المصباح، والظلام يعم في الظلام أيضًا تعمى العيون، الأرملة وبناتها الثلاث، والبيت حجرة والبداية صمت.

    الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة، في الخامسة والثلاثين، بناتها أيضًا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن في السادسة عشرة وكبراهن في العشرين، قبيحات ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.

    الحجرة، رغم ضيقها تسعهن في النهار، رغم فقرها الشديد مرتبة أنيقة، يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الإناث الأربع، في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها الأنفاس حارة مؤرقة، أحيانًا عميقة الشهيق.

    الصمت خيم منذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل، انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وأبرزها الصمت، صمت طويل لا يفرغ، إذ كان في الحقيقة صمت انتظار، فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لا يجيئون ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع موجود، فلكل فولة كيال، ولكل بنت عدلها، فإذا كان الفقر هناك، فهناك دائمًا من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك، فهناك دائمًا الأقبح، والأماني تُنال أحيانًا بطول البال.

    صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال، والتلاوة لقارئ، والقارئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير، عصر الجمعة يجيء بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع، وحين ينتهي يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضي، بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد.

    دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت، دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل، دائمًا هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر، أبدًا لا يتطلعن.

    يدوم الصمت حتى يحدث شيء، يجيء عصر الجمعة ولا يجيء القارئ، فلأي اتفاق مهما طال نهاية، وقد انتهى الاتفاق.

    وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت، ولكن أيضًا الرجل الوحيد الذي كان ولو في الأسبوع مرة يدق الباب، بل أشياء أخرى يدركن، فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدًا نظيفة، وصندله دائمًا مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون، وصوته قوي عميق رنان.

    والاقتراح يبدأ لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الآن؟ ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن الانتظار ليس بالجديد، وقرب المغرب يأتي، ويقرأ وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ، لماذا لا تتزوج إحدانا رجلاً يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب لم يدخل دنيا، وله شارب أخضر، ولكنه شاب وبالكلام يجر الكلام، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.

    البنات يقترحن والأم تنظر في وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح، ولكن الوجوه تزور مقترحة -فقط مقترحة- قائلة بغير كلام أنصوم ونفطر على أعمى؟ هن ما زلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون مسكينات لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه.
    - تزوجيه أنت يا أماه، تزوجيه
    - أنا؟ يا عيب الشوم! والناس؟
    - يقولون ما يقولون، قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال
    - أتزوج قبلكن؟ مستحيل.
    -أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك؟ تزوجيه، تزوجيه يا أماه.
    وتزوجته، زاد عدد الأنفس واحدًا، وزاد الرزق قليلًا، ونشأت مشكلة أكبر
    الليلة الأولى انقضت وهُما في فراشهما، هذا صحيح، ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب، ولو صدفة، فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما، كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس، البنات كبيرات، عارفات ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار، ولكن بالنهار لم تعد ثَمَّة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن ولم يعدن، إلا قرب الغروب، مترددات خجلات يقدمن رِجلاً ويؤخرن رِجلاً، حتى يزددن قربًا، وحينذاك يدهشهن، يربكهن، يجعلهن يسرعن ضاحكات، قهقهات رجُل تتخللها سخسخات امرأة، أمهن لا بد تضحك، الرجُل الذي ما سمعنه إلا مؤدبًا خاشعًا، ها هو ذا يضحك، بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة أنار.. ها هو ذا أمامهن كلمبة الكهرباء مضيء ها هي ذي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك، تلك التي كانت مستكنة في قاع المهجر.

    الصمت تلاشى واختفى تمامًا، على العَشاء وقبل العَشاء وبعد العَشاء نكت تترى وأحاديث غنَّاء، صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوت عال أجش بالسعادة يلعلع. خيرًا فعلتِ يا أماه، وغدًا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طُعم الرجال، نعم يا بنات، غدًا يجيء الرجال ويهل العرسان، ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها ليس الرجال أو العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان، هذا الشاب القوي المتدفق قوة وصحة وحياة، ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.

    الصمت تلاشى وكأن إلى غير رجعة، ضجيج الحياة دب، الزوج زوجها وحلالها وعلى سُنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهي لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار، حتى والليل يجيء وهم جميعًا معًا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن يحبسن الحركة والسعال، تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات، كان نهارها "غسيل" في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يئوب إلى الحجرة ظهرًا، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأ يئوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى، واستعداد لليل قادم، وذات مرة بعد ما شبعا من الليل وشبع الليل منهما، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن؟ إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا، ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟

    كان ممكنًا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة، كان ممكنًا أن تجن كان ممكنا أن يقتله أحد، فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى، ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها، سكتت بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس، وعيون راحت تتسمع وهمها الأول أن تعرف الفاعلة إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى، أن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق، ولكنها تتسمع الأنفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة، كأنها محمومة ساخنة بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقًا واحتباسًا، إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة متكومة وكومة أخرى، كلها جائعة كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس ليس أنفاسًا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو أكثر.

    غرقت في حلالها الثاني ونسيت حلالها الأول، بناتها، والصبر أصبح علقمًا، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر، فجأة ملسوعة ها هي ذي كمن استيقظ مرعوبًا على نداء خفي، البنات جائعات، الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم، أبدًا ليس مثل الجوع حرام، إنها تعرفه، عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه، جائعات وهي التي كانت تخرج اللقمة من فهما لتطعمهن، هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن، هي الأم، أنسيت؟ وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت، الأم صمتت، ومن لحظتها لم يغادرها الصمت.

    وعلى الإفطار كانت، كما قدرت تمامًا الوسطى صامتة وعلى الدوام صامتة، والعشاء يجيء، والشاب سعيدًا وكفيفًا ومستمعًا ينكت لا يزال، ويغني ويضحك ولا يشاركه إلا الصغرى والكبرى فقط، ويطول الصبر ويتحول علقمه إلى مرض، ولا أحد يطل وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في إصبعها وتبدي الإعجاب به، ويدق قلب الأم دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم، لمجرد يوم واحد لا غير، وفي صمت تسحبه من إصبعها، وفي صمت تضعه الكبرى في إصبعها المقابل، وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق، والكفيف الشاب يصخب ويغني ويضحك، والصغرى فقط تشاركه ولكن الصغرى تصبح بالصبر والهم وقلة البخت أكبر، وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم، وفي صمت تنال الدور والخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمى الآذان، وفي الصمت تتسلل الإصبع صاحبة الدور وتضع الخاتم في صمت أيضًا، ويطفئ المصباح والظلام يعم، وفي الظلام تعمي العيون، ولا يبقى صاخبًا منكتًا مغنيًا، إلا الكفيف الشاب.

    فوراء صخبة وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرًا، إنه هو الآخر يريد أن يعرف، عن يقين يعرف، كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحدة، فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى،
    الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن الإصبع التي تطبق عليه كل مرة تختلف، إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت؟ لماذا لا ينطق؟

    ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه، ومن لحظتها لاذ بالصمت تمامًا وأبى أن يغادره، بل هو الذي أصبح خائفًا أن يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت، ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله، والويل له لو انهار بناء الصمت، الصمت المختلف الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل الصمت الإداري هذه المرة، لا الفقر، لا القبح، لا الصبر ولا اليأس سببه، إنما هو أعمق أنواع الصمت، فهذا الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الاتفاق، ذلك الذي يتم بلا أي اتفاق.

    الأرملة وبناتها الثلاث والبيت حجرة والصمت الجديد والقارئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجته وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شك لا يمكن أن يصبح يقينًا إلا بنعمة البصر، وما دام محرومًا منه فسيظل محرومًا من اليقين، إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج، أم على الأعمى حرج.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2
    مقال رائع عن الدكتور / يوسف غدريس
    لقد كان فوق ذلك يحارب من اجل مبادئه

  3. #3

المواضيع المتشابهه

  1. ومضات من مذكرات أ. عبد الله بن إدريس
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-18-2017, 09:54 AM
  2. رائعة الإمام محمد بن إدريس
    بواسطة د. فايز أبو شمالة في المنتدى من روائع الشعر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-28-2014, 03:39 AM
  3. الأستاذ إدريس ال قبع
    بواسطة سلام مراد في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-02-2014, 04:21 PM
  4. الراحل .الأديب..يوسف عبدالأحد
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-05-2014, 05:48 AM
  5. الأعمال الكاملة - يوسف إدريس
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-15-2014, 03:24 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •