قصّة : الخيمة العاشقة.
بقلم : محمّد عيسى المؤدّب.
كان الشّارع موحشا عندما تسللت من الحانة و قد زادته ليالي ديسمبر انكماشا و شحوبا ، تلاشى الضّجيج و رحل الباعة الجوّالون إلى الأزقّة القديمة و أغلق حمّام النّساء أبوابه و توارت الصّبايا خلف الجدران.
ليل المدينة كئيب مثل ليل المقابر ، راشح بالشّقوق و الأضواء المتكسّرة و أنا مثل ليل المدينة منهك ، متخشّب ، أسير في تفاهة الشّارع متشرّدا ، محفوفا بالرّيبة و الجدران الباردة...
أجلت بصري في آخر الشّارع فلم أر إلاّ أشياء كالسّراب تخرّب أنفاسي و تسجنني داخل هوّة سحيقة يستحمّ فيها القلق.
كدت أرمي كومة الصّحف و الأوراق في إحدى الحفر ، ما حاجتي إليها في نذالة الرّصيف؟ أحسّ أنّها تضايقني و تعمّق فيّ شعورا بالعزلة المقرفة ، فكّرت فعلا في التخلّص منها لكن سرعان ما عدلت عن ذلك و طفقت ألعن نادل الحانة ، لعنت تسرّعه و تهوّره و شتمته في أعماقي..البائس ، منعني من مواصلة الشّرب ، جرى بين الطّاولات و لملم القوارير و الصّحون و قشور الفول و أعقاب السّجائر و الرّسوم الباكية ، نظّف كلّ شئ و أهداني تحيّة جامدة ، مسمومة ، اللّعنة ، كنت سأشرب و أتلوّى و أصرخ و أقبّل جبين أمي و أطارد سحر الغروب في الصّحراء و أحضن وجه هندة في شرودي و نبضي المتخثّر. هل يدري العالم ؟ هل يعلم النّاس ؟ أراقص قوارير الخمرة كلّ ليلة و لا يؤنسني إلا صخب السّكارى.... أشرب و أغمض عينيّ و تنزلق قدماي في شتّى الاتّجاهات و يحدث الكرسيّ جلبة متعكّرة و يحتدم صدري بالأنفاس....
كنتا عاجزا عن النّسيان ، أتذكّر يوم زوّجوا هندة و أحرقوا خيمتنا العاشقة... جسدا شاحبا تزوّجت هندة و بكتني داخل قضبانها ، أتذكّر فيتيبّس جسدي و أستسلم لصرخاتي المكبوتة...
استدرت إلى الخلف لمّا تناهى إلى مسمع جسدي وقع خطوات بدا لي وقعها مريبا ، كنت أخشى أن يداهمني أحد السّكارى او اللصوص ، من يدري ؟ ليل المدينة كابوس ملفّع بالمفاجآت...بحلقت في الأركان المظلمة ، تلكّأت عيناي ، تمرّغتا في الفجوات ، انكتم صدى تلك الخطوات ، ذاب و اختفى تماما ، أسندت جسدي على إحدى السيارات خشية السّقوط . كنت أرتجف و أنا أحضن الحديد الأملس و أحمي جسدا ماتت خلاياه... داهمتني نوبة سعال ، انتفضت ، عصرني ألم مبرح في بطني فضغطت على أسناني ، ضغطت بشدّة و مددت يدي اليمنى إلى بطني ، اكتشفت أنّها منتفخة بشكل مقرف ، نطّت أمامي قطّة ، لحست بنطلوني الأسود ثم" تمطّطت و انزلقت تحت إحدى العجلات... شهقت بمشقّة و تبعثرت أنفاسي و أنا أتقيّأ ، تقيّأت أشياء كثيرة و اشتهت القطّة ما تقيّأت..
بعد ردح من الزّمن واصلت سيري و قدماي محفوفتان بالقطّة العاشقة ، انكمشت بجوار الحائط وتجلّدت أمام أيّ انهيار مفاجئ ، كان عليّ أن أبحث على سيّارة أجرة لأعود إلى شقّتي و أحجمت طبعا عن التوغّل أكثر في الأزقّة ، متداعية هيّ ، تنضح بعفونة النفايات و ممراتها تضيق و تتّسع ، تتلوى و تتمدّد الأشباح ، تلهث في ظلامها و تتقاذف كتلا ناريّة.
خيّل إليّ أنّ تلك الخطوات ما تزال تلاحقني و تتحيّن فرصة الانقضاض عليّ..آه ، ماذا يحدث لو يفاجئني أحد الأوباش؟ سأنتفض بين يديه مثل سمكة مقهورة ثمّ قطعا سأتجلّد و أقاوم فظاعته. لا شكّ أنّه سيفتّش جيوبي و يبعثر كومة الصّحف و الأوراق ثمّ يلعن حظّه العاثر و يندم على حماقته ، لن يجد عندي الثّروة المشتهاة و ستحقد عليّ أحلامه..قد يردّد : رجل بائس ، اللّعنة ، ماذا شجّعني على مداهمته؟...الصّحف و الأوراق :..حينئذ سأنسى أنّه صفعني و بصق على وجهي و أروي له حكايا جدّتي و ليالي الجنوب و الخيمة العاشقة ، سأحدّثه عن قصّتي مع هندة و ستتشنّج يداه و هو يصغي إليّ في تأوّه ثمّ يشاركني البكاء و الصّراخ.
تخيّلت كلّ ذلك و أنا منغمس في ارتباك فجّ ، تعلو وجهي الغضون و التجاعيد و في داخلي ينتفض إحساس غريب ، يتهافت عليّ ويشاغبني...فكّرت في أن ألغي رغبتي الجامحة في الأكل ، أكلة منتصف اللّيل تثيرني ، لكنّ الهواجس خنقت حاجتي إلى الأكل... عندما ينتصف اللّيل أرى وجهي ، أراه في خرائب القطط و الفئران و سيول البول و الشّيخ النّائم على الرّصيف و الجرائد الهامدة و الشّهقات السريّة، أراه أيضا في وجه تلك المومس التي تدعوني كلّ ليلة إلى مرافقتها..عيناها تتغنّجان، تلمعان بحدّة و شفتاها تتلفّعان بصخب اللذة ، كلّ شئ فيها كان يلهث و يصرخ :
- خذني ، دثّرني ، انتشلني من الصّقيع و دعني أبيت عندك... سأبهج كلّ رقعة في جسدك و أحدّثك عن حيل النّساء و أعلمك أيضا كيف يعشقنك و يحتمين بحضنك...
منهارة كانت تلحّ عليّ ، لم أشأ أن أصفعها أو أبصق على وجهها ، هيّ كئيبة و متشرّدة مثلي لكنّها على أيّ حال لم تعرف ارتعاشة تلك الخيمة العاشقة... أنهكها الليل ، نهب من مقلتيها أسرار الأنثى و غرف منها حلاوة الامتناع ...البائسة ، هل اكتشفت في خرائبي جن"تها فعشقتني ؟.. المرأة لا يعرف لها إحساس أو قرار ، قد تعشق رجلا دنيئا و تهرب من همسات رجل يحبّها ، لكن اللّعينة ، أين اختفت الليلة؟ خفق قلبي خفقة عميقة و حاولت أن أحافظ على توازني . أليست هيّ صاحبة الخطوات المريبة ؟ ربّما يئست من إراقة أسرارها فرامت أن تلعب معي لعبة " الغمّيضة".. ستلاحقني و تقتفي أثري حتّى تكتشف شقّتي و ربّما تظلّ طوال الليل تشاكسني بحماقاتها ، قد تطرق الباب ثمّ تختبئ أو تفرّ و أضطرّ عندئذ إلى ملاحقتها ، يا لها من إمرأة شقيّة !...
أدركت محطّة برشلونة ، ساحت نظراتي في أرجائها ...لا أحد ، لا أحد غير القطط التي تنهش المزابل أو تقفز في أثر بعض الحشرات ...راقبت الحديقة ، قلّبت زواياها ، بحثت عن ذلك الشّيخ المشرّد، كان هناك ، قرب نافورة الماء يغطّ في نوم عميق ، أحسست بوخزات البرد تتسرّب إلى مفاصلي ، تدثّرت جيّدا بمعطفي ثمّ انزويت في أحد الأركان و أنا أترصّد سيّارة أجرة قد تأتي و قد لا تأتي.
أغمضت عينيّ و رحت أدندن بأغنية طفوليّة و من حيث لا أدري جاءني صوت هندة العذب و ترقرق في أذني...تراءت لي أيضا خصلات شعرها و هي تلاعب خدّها الأيمن ، يحمرّ خدّها ، يتأوّه في حرارته و خجله ، تسرع اليد اليسرى ، يدي و تنتشل الخصلات المتناثرة ثم" تسوّيها في هدوء...
كنا هناك في خيمتنا العاشقة ، ألصق خدّي بخدّها و أضمها بعنف و أستبقي يدها في يدي...
كنّا هناك ، لا أحد يكتشف مخبأنا في هدأة الليل ، تنسانا الأصوات الغليظة و يخفت نباح الكلاب و ثغاء الخرفان...
أبي يجلس في حوش دارنا ، يدخّن النّارجيلة و يترشّف الشّاي الأخضر و يدقق النّظر في قدمي أمّي المقرّحتين و يؤجّل البحث عنّي في متاهة الصّحراء...أمّي تعدّ الخبز ثمّ تهرّبه من فوضى الأطفال و تصبّ الزّيت في الإناء الفخّاري و تضع على الطّاولة زيتا و زيتونا و تمرا و لبنا و تنسى أن تدعوني أنا الذي يحفظ العينين الخضراوين و الشّفتين الرّقيقتين و العنق الحليبي و الصّدر المرتعش.
فجأة ، تشنّج غليان الدمّ في شراييني عندما استمعت إلى وقع تلك الخطوات المشبوهة ، أصخت السّمع ، كتمت أنفاسي ، نظرت يمينا و يسارا ، تشوّشت عيناي ، تعكّرتا...من يطاردنيّ تساءلت و أنا أستعدّ للرّكض..بعد لحظات وقف قبالتي شبح ، بحلقت في وقفته المسترابة ..يا إلهي إنّه شبح إمرأة فارعة القدّ و ملفوفة بغطاء صوفي...لم أر من وجهها الملثّم إلا عينيها المتوتّرتين..ازدادت خفقات قلبي ضراوة ، ساورني القلق ، وقفت جامدا و أيقنت أنّ الشّبح الماثل أمامي ليس تلك المومس ، المومس بلا شكّ بدينة و قصيرة القامة....خرّبتني الظّنون و تذكّرت حكايا جدّتي ، حكايا الجنّ و العفاريت التي تخرج في آخر الليل و تغسل الطرقات من أخطاء النّهار....
المرأة ، هل نسلت من حلم ثخين؟ ظلّت صامتة ، جامدة ، نظراتها المتوتّرة أيضا تفتك بأعصابي و ترمي بها في دهاليز مضرّجة بالثعابين...تملّكني الذّعر، تراجعت خطواتي إلى الخلف و هممت بالفرار و قد أحسست إنني محاصر و مهدد...سحبت سيجارة ،أشعلتها بحركة قلقة و لا أدري كيف استجمعت قواي و عزمت على مداهمة المرأة الغريبة ، قرّرت أن أنهي لحظات التوتّر و الصّداع بحركة سريعة و حاسمة...الوجه أوّلا، عليّ أن أنتزع اللّثام أو أمزّقه ، عندئذ ستنكشف و تتكلّم...ربّما تصرّح برغبتها في مصاحبتي إلى الشقّة، لن أمانع حتى و إن كانت قبيحة ، برفقتها سأنسى عذاب ليلتي الرّخيصة هذه...
حين جريت باتّجاهها تعثّرت قدمي اليسرى في إحدى الكتل الحديديّة ، ضغطت على أسناني ، قاومت الألم ووقفت...ربّما حدست المرأة نواياي فجرت و توغّلت في زقاق ضيّق، مظلم ، ركضت وراءها بإصرار و كنت مدفوعا إلى مطاردتها ، إحساس خفيّ ، غريب اجتاح مسام جسدي و جرّني إلى كشف أسرار تلك المرأة...ركضت لاهثا، أفزعتني خرائب الصراصير و الأغصان المتدلّية إلا أنّي حافظت على تماسك أعصابي..كنت كمن يركض في دغل آهل بالأشباح و جماجم الموتى...كدت أصاب بالجنون لمّ اختفى الشّبح تماما...تفرّست في الممرات و الأبواب المغلقة ، تناثرت نظراتي في كلّ صوب ، لا شئ غير الصّمت، ربّما هوّ ذلك الصّمت الذي يسبق الانفجار..
عاودتني الهواجس فتصدّعت أنفاسي و تذكّرت جدّتي من جديد...هل تكون جنيّة حقّا؟..
بغتة انفتح أحد الأبواب و خرج منه رجل بدين ، ذو لحية كثّة ، أصابع يده اليمنى تتلاعب بنصل سكّين..فيم يفكّر هذا الوغد؟...تساءلت ، ليلتي داعرة حقّا و سأفنى في منعطفاتها الموبوءة..توعّدتني نظراته و حركات يده و تلكّأت عيناه في وقفتي الذاهلة ثمّ صرخ باتّجاهي :
- هيه ، أنت ، ألا تسمع؟ اذهب ، ارحل من هنا قبل أن تذبح كالخرفان...هيّا اسرع، ماذا تنتظر يا كلب...؟
كادت تصدر عنّي صرخة بفعل الخوف ، جريت و صارعت ضراوة الزّقاق ، خيّل إليّ أ،ني استمعت إلى صدى صرخات مكبوتة ، مخنوقة ،حانت منّي التفاتة إلى الخلف فلم أر إلا الجدران المنسلخة و الممرات الممزّقة.
عدت إلى محطّة برشلونة ثمّ اتّجهت إلى باب الجديد و لا أذكر في لحظات التّيه و الاختناق كيف وصلت إلى شقّتي ، أحكمت إغلاق مزلاج الباب بحركة عصبيّة ، أشعلت الضّوء ، بدا شاحبا ، ذاهلا مثلي ، نزعت ثيابي ثمّ رميتها في إحدى الزّوايا ، جلست على السّرير ، شغّلت الراديو و سرعان ما أخرسته..باغتتني صورة هندة المعلّقة على الجدار ، تطلّعت إلى شعرها المتلاعب على جبينها و عينيها الخضراوين...لاحت لي كئيبة، شاحبة الوجه...هل كانت تئنّ و تتلوّى و تبكي ؟
جاءني صوتها و هو يكابد انهيارا داهما :
- سيزوّجونني يا نور...غصبا سيهدرون دمي، إنّهم وحوش ...وحوش.
يومها اختفت هندة و اختفت معها الخيمة العاشقة و تشرّد الشّاب النّحيف الأسمر في شوارع المدينة.
بكيت ، صرخت وسط صخب السّكارى و نمت في الطرقات و الحدائق العموميّة و هدّني الجوع... بكيت و صرخت و شتمت العالم ، كلّ العالم و لم يسمعني أحد.
هل صدّقت ؟ استفقت من إغفاءتي مذعورا على صدى ارتطام قويّ أمام باب الشقّة ، تخبّلت قدماي و أنا أجري و ألهث ...لمّا فتحت الباب كدت أتراجع إلى الخلف و أفرّ،ضغطت على فمي ، غامت الدّنيا أمام عيني و أيقنت أنّني وقعت في ورطة بشعة.
هل صدّقت ؟ ألقيت نظرة مخرّبة على جثّة المرأة الممدّدة أمامي، إمرأة منتفشة الشّعر، ممزّقة الثياب و مضرّجة بالدماء...ارتجفت و أنا أتطلّع إلى العضّات الوحشيّة في العنق ، تصدّع فكّاي من فرط الصّدمة...إنّها يا للغرابة تلك المرأة التي كانت تطاردني ، هل اغتصبوها ثمّ تلهّفت عليها السكاكين في جحيم الأزقّة ؟
ارتعشت يداي و أنا أزيح اللّثام عن وجهها...صرخت ، تلاشت أنفاسي عندما طالعتني ملامح الوجه المشوّه...أصيبت ذاكرتي بشرخ عميق و أحسست بخدر يجتاحني...أحطت الوجه الجامد بذراعيّ، قبّلت الجبين ، سوّيت خصلات الشّعر المتناثرة ، لامست العنق الحليبيّ بأطراف أصابعي ، تشمّمت رائحته، انغمس وجهي في الصّدر المكسو بالدّماء و أنا أشهق و أبكي و أنتفض.
ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ هل صدّقت ؟...كيف استطاعت هندة أن تهرب من الجنوب؟ كيف اكتشفت شقّتي؟ و لماذا لاحقتني وهرّبت أسرارها مني بعناد حتّى قتلوها؟...
هل درى العالم بم حدث لي؟ تمرّغت على زجاج مهشّم و انهالت عليّ الأسئلة بسياطها و ماتت خلايا أعصابي في أخطبوط الأزقّة الدّاعرة...وربّما ردّد النّاس حكاية الخيمة العاشقة و تحدّثوا عن جنون شابّ نحيل أسمر.