منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: جلباب الصائمة

العرض المتطور

  1. #1
    محاضر ومسؤول دراسات عليا في جامعة القاضي عياض، المغرب
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,497

    Post جلباب الصائمة

    أصبحتْ ليلى ملازمةً فراشَها، تدفعُ عن إرادتها كلَّ رغبة في كلِّ شيءٍ، عيناها ثابتتان معلَّقتان بسقف حجرتها،
    وعقلُها غارق في تأمُّلٍ بعيدٍ فرج لها عن السقف، ثم عرجَ بها إلى مكان غير المكان، وزمانٍ غير الزمان،
    استلذَّتْ هذا العروج الشبيه بنومٍ جديدٍ لا يقلُّ سكنًا عن نوم الليل،
    ويسكبُ فيه صحو النهار من دفءِ اليَقَظَة، وضياء البصيرة، ونشاط الهِمَّة - سكنًا آخرَ.
    سرحتْ ليلى تجوبُ كلَّ موطنٍ وكلَّ مشهدٍ في عالم تفكيرها ذلك الصباح، وكلَّما تحرَّكتْ للقيام من فراشها،
    وجدتْ نفسَها مشدودة البدنِ إلى ما يشغلُ عقْلَها، كالراسفة في قيدٍ ثقيل.
    كانت سلوى - رفيقة دَرْبها - قد تزيَّنتْ مستعدة للخروج.
    نادتْ ليلى: هيَّا عزيزتي، لقد تأخَّرنا.لم يجبْها أحدٌ، أعادتِ النداء، انتظرتْ قليلاً،
    ثم أطلَّتْ ودخلتْ: ما بكِ يا ليلى؟ كأنِّي بكِ لا تهتمين ..
    اليوم أول يومٍ من شهر شعبان عزيزتي، يجبُ أن نجدَ خيَّاطة جديدة أكثر مهارة، وأشدَّ إتقانًا لنُعِدَّ جلباب رمضان ..
    هيَّا بنا.أخذتْ ليلى مِن يدها وهي تحسب أنَّ ما بها مجرَّد خمول:
    هيَّا، قومي عزيزتي.قامتْ ليلى، لبستْ على عجلٍ، لم تستعد للخروج استعدادَها المألْوف،
    ثم خرجتْ تجرُّ خُطى أثقلَ من الصخْر، صديقتها تدعوها إلى الإسراع، وعقْلُها يدعوها إلى الرجوع،
    لكأنَّها فارقتِ الشرب الذي يسقيها ماءَ الحياة، والرَّوي الذي يسكبُ في كيانها أنفاسَ البقاء.
    أحسَّتْ سلوى أنَّ ليلى إنَّما تصطنع الرغبة في مرافقتها، وأنَّ ما معها منها مجرَّد بدنها، وتساءلتْ في صمْتٍ:
    عجبًا! أحقًّا هذه ليلى التي عَرَفتُها، إنها أخرى لا محالة!
    مرَّتَا بحديقة على الطريق، أبصرتْ سلوى مقعدًا يسعهما، فأخذتْ ليلى إليه، ثم جلستا تتحاوران:
    ♦ معذرة إليك سلوى، لم أردْ إفسادَ نشاطك اليوم، ولكن...
    ♦ ليلى، أرجوك لا تعتذري عن شيءٍ؛ فما بيني وبينك أكبر من أنْ ينالَ منه طارئ جلَّ أو دَقَّ،
    لكنْ قُولي لي ما بك؟ أفْضِي إلى أُخْتك بما تَجدين.
    ♦ ما أدري، منذ أن استيقظتُ وأنا أشعرُ بمفارقة نفسي، أحسُّ كأني ليلى غير ليلى التي أعرفُ وتعرفين!
    كأنَّ داعٍ يدعوني من بعيد إلى انفصال غريب، فإذا وجَّهْتُ فكري تلقاءَه،
    وجدتُ رُوحًا لطيف السحب، أشبه برُوح السراح من أسْرٍ طالَ ..
    كأنِّي غريبة مشردة بحاجة إلى انعتاق!
    كانتْ سلوى تُصْغِي في تأمُّل، تحرصُ على فَهْم كلِّ كلمة من حديث ليلى الجديد؛
    فإنَّ حديثًا من هذا القَبيل لم يجمعْهما قطُّ من قَبْلُ، وما حملتا حديثهما إلى بعضهما قطُّ إلا على الجد.
    أتدرين يا سلوى، أمضيتُ كلَّ ما دار بيننا بعد المحاضرة من حديث أمس، ولبث عقْلي عند هذه العبارة: جلباب رمضان ..
    لم أفتأ أتأمَّلها، أيصحُّ فعْلاً هذا التركيب؟!
    سألتْها سلوى في استغراب: ماذا تقصدين؟!
    تابعتْ ليلى: كيف نُجْرِي نحن الطالبات على ألسنتنا تراكيبَ لا معنى لها،
    أو معانيها غريبة لا يحتملها ضابط العقْل؟!
    أليس لنا عنفوانٌ ثقافيٌّ
    نستعلي به عن الركاكة الفكريَّة في استعمال مثل هذه الإطلاقات والتفاهة في بناء التصور والسلوك عليها؟!
    زادَ استغرابُ سلوى لما تسمعُ، أدركتْ سرَّ ذهول ليلى ورغبتها في العُزْلة هذا الصباح،
    لكنَّها شعرتْ أكثر بالرغبة في الإصغاء؛ فأوْمَأتْ برأْسها إلى ليلى أنِ استرسلي،
    وجدتْ نفسَها كأنَّها في فصلٍ آخرَ تسمعُ محاضرةً أخرى خارج الجامعة.
    ثم تابعتْ ليلى: إنَّ ثَمَّة داعيًا لا محالة لهذا السلوك، هو تقديسُ رمضانَ، وتعظيم شعيرة الصيام،
    لكنَّنا لم نتساءلْ قطُّ عن مدى اقتناعنا بهذا السلوك، ولم ننظرْ إن كنَّا نتجاهلُ نوعَ استخفاف فيه.
    وهل نحقق التطابق الحقيقي بين محل المقدَّس وفِعْل التقديس؟!
    وإعداد جلباب رمضان ثم لِبْسُه أثناء الصيام، هل نحسبُه عبادة؟
    أو هو مجرَّد عادة؟ أو استجابة لنداء الموضة التي لم يدعْ أهلُه سبيلَ حِيلة يجلبُ لهم رِبحًا ماليًّا إلا سلكوه؟!
    فإذا مَضَى رمضانُ ونزعْنا هذا الجلباب عن جسدينا، هل ننزعُ معه ذلك التقديس لمقدَّس لم يزلْ؟
    أو سنضطر إلى ارتدائه من جديد خلال صيام الستِّ من شوال؟!
    ثم، ألا يستمرُّ صيامُ التطوع كلَّ العام؟أليسَ في لبسه ونزعه كلَّ مرة نوعُ غفلة، وضآلة عقْل، وسخافة تدبير؟!
    ألا ترينَ معي - يا سلوى - أن تساؤلاتٍ عِدَّة في غاية الإقلاق تلاحق عنفواننا الثقافي؟!
    لكنْ لكونها تحرجُنا نؤجِّل الجوابَ عنها إلى حين، أو ندوسها متجاهلات كارهات ما تؤول بنا إليه من الحقِّ.لكَمْ قَرَعَتْني هذا التساؤلات وصرفتْ تفكيري هذا الصباح، أشعر كأنَّ غاية وجودي اختزلتْ في إحصائها جميعًا،
    وإعداد أجوبة صريحة تحسم تجاهلي،
    وتجعل في صعيدٍ واحد درجتي الثقافيَّة المتقدِّمة وفِكري وسلوكي، وقراراتي التي أدبِّرُ بها شأنَ حياتي.
    أشعرُ أني بحاجة إلى ملاحقة هذه التساؤلات إلى أن أقطعَ دابرَها بدلاً من أن تلاحقَني.
    سألاحقُها مرة واحدة؛ لأفرغَ منها، وإلاَّ شتَّتْ بالي عمري كلَّه، وأسرتْني في قلقٍ دائمٍ واضطراب مستمر.
    حدِّثِيني يا سلوى؛ إن بي حيرة، أشعرُ أن الشقاءَ قد اجتمع في بقائها، وأن السعادة قد اجتمعتْ في زوالها.
    أطرقتْ سلوى تفكِّر، تنظر إلى ليلى مرَّة، وتطرقُ متأمِّلة مرَّة ..
    أحسَّتْ أن مسارات الانطلاق الرحبة التي عدت خلالَها لاهيةً فرحة مرحة سنواتٍ،
    قد بدأ يختزلها مسارٌ واحدٌ، كانت تراه أضيقَ المسارات ، وقد صارَ يتَّسع في ناظرها الآن ويبدو أرحبَ وأجْلَى.
    أخذت بيد ليلى، فسكنتْ منها كلُّ جارحة، وغشيها من بردِ اليقين هدوءٌ واطمئنان.
    طافتْ بعينيها في السماء كالمستشرفة ليوم جديدٍ يخلدُ ميلاد عُمْر جديدٍ.
    ثم قالت وضياء الاستبشار يصبغ محياها: أشعر كأنَّ انثيال كلماتك مُغْتسلٌ يعلوني.
    وأرى بابَ الوجود يشرعُ لي من جديدٍ، دونه مدارج وطيئة، وضيئة، لا حدَّ لمرقاها الفسيح.
    وعلى الباب داعٍ يدعوني إلى وضْع متاعي القديم قبل الولوج؛ كيما ألجَ أنْقَى وأصْفَى.
    ما أجملَ هذا اليومَ وأوفر سعادته!وأسلمتْ نفْسَها لنفَسٍ عميقٍ؛ كي يستغرقَ استنشاقُها رحيقَ الانعتاق.
    ثم سارتا مسرعتين، تطاردان هجير التيه، تستعجلان الإيواء إلى ربوة عفاف ذات رواء وظلال،
    وهمْس الرضا بحفيف نعيمها يردِّد - يستحث خطاهما -: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾
    [الأعراف: 26].
    أَسْرِي سَقَى شِعْرِي الْعُلا فَتَحَرَّرَا = وَرَقَى بِتَالِيهِ الْمُنَى فَتَجَاسَرَا

  2. #2

    رد: جلباب الصائمة

    وهمْس الرضا بحفيف نعيمها يردِّد - يستحث خطاهما -: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾


    السلام عليكم
    حقيقة دكتور انت عالجت امرا في غاية الاهمية وقدمته بنظرة واقعية وشبه رمزية...
    فلماذا نحن في رمضان غير مانكون عليه خارجه؟وذو الوجهين لايكون وجيها يوم القيامة..
    فماذا يعني هذا؟
    رعاك الله وادامك لنا ذخرا وتثبيت
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4

    رد: جلباب الصائمة

    السلام عليكم
    كما نترقب عبر رمضان كيف يختلف الناس وسلوكهم حصرا وفنانين يحتشمون فيه ويقدمون اغان دينية اما مابعد ذلك فالله اعلم
    شكرا لك دكتور لهذا النص الثمين
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

المواضيع المتشابهه

  1. احذري أختي الصائمة من هذه المخالفات في رمضان
    بواسطة الحلم القاتل في المنتدى فرسان التجارب الدعوية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-19-2018, 04:12 PM
  2. جلباب المرأة المسلمة في الكتاب و السنة
    بواسطة راما في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-26-2014, 04:22 PM
  3. جلباب صائمة/رؤية نقدية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-05-2011, 08:45 PM
  4. الآلام السائلة
    بواسطة عبدالغفور الخطيب في المنتدى فرسان الخواطر
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 06-23-2009, 05:04 AM
  5. لا تسمح لأطفالك باللعب في حلبات وأقفاص الكرات
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان الأم والطفل.
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 05-03-2009, 07:15 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •