لا شك في أن كتابة (أدب ساخر) يمثّل نوعاً في جنس النثر، وفي أشكال الأدب بالعام، إذا امتلك الشروط اللازمة، وإذا امتلك كاتبه الأدوات.
ففنّ السخرية هو أصعب فنون الكتابة على الإطلاق، إذ المطلوب من الكاتب أن يقنع القارئ «بالإضافة إلى جميع البنود المعروفة في الكتابة»، بأنّ دمه خفيف، والحذر من الاستسهال، فالجملة الساخرة الأفضل، هي الجملة التي يُبذل فيها جهد أكبر.
ولعلني ما تعجّلت، عندما ذكرت الاسم الحقيقي لـ (فارس فارس) اسم مستعار، كان يختفي وراءه غسّان كنفاني في كتاباته النقدية الساخرة.
فلماذا كتب غسّان كنفاني «هذا النوع والشكل» من الكتابة.؟
أستعير الجواب من الأستاذ محمد دكروب الذي يقول:
(تحت قناع «الاسم المستعار» كان غسّان كنفاني يتحرر إلى حدّ كبير من صفة كونه المناضل الفلسطيني، الحزبي الملتزم والمسؤول، ينتقد ويسخر ويفضح ويكشف الزيف «في الفن وفي الموقف» بما لم يكن ليتيح لنفسه أن يكتبه تحت خيمة اسمه المعروف، فتظنه انزلق على هواه الفردي المحض).
وإذا تابعنا ما يكتبه «فارس فارس»، نرى أنه يلتزم بأعلى درجات الأمانة للخطّ النضالي الفكري السياسي، والفني خصوصاً، وأن تلك الكتابات الساخرة تكشف عن اطلاع واسع عميق، ومتابعة متواصلة ودقيقة إلى حد كبير لآخر تيّارات الفكر والفن والصرعات التجديدية التي حفل بها زمان الستينيات في بلادنا العربية وفي العالم.
فالسخرية في كتابات فارس فارس هي في عمقها وغاياتها، فنّ جاد جداً، شأن أيّ سخرية أصيلة تحترم ذاتها وتحترم كونها فنّاً هادفاً بالأساس، سواءً في أدبنا العربي، أم في آداب الأقوام الأخرى.
يقول غسان كنفاني..
(الأدب الساخر ليس تسلية، وليس قتلاً للوقت، ولكنّه درجة عالية من النقد.)، بمعنى أن السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، لكنها تشبه نوعاً خاصّاً من التحليل العميق، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكريّة، فإنه يضحي مهرّجاً.
ومن هذه المسلمات كان غسان كنفاني في كتاباته الساخرة خبيراً لا يجارى في إثارة الضحك المفجع، يكشف ويفضح ويعرّي «فقر الدم» الأدبي أو الفكري، وكان في هذا كله «وهذه ميزة» جادّاً جداً.
وعندما سئل عن جدوى الكتابة الساخرة في زمن الهزائم، قال: (الكتابة الساخرة قد تكون ضرورية أكثر في زمان الهزيمة، فهي بالمحصلة سلاح لكشف وفضح وتمزيق الأقنعة).
وقد صدر كتاب «بعد عامين من هزيمة حزيران» يحمل عنواناً غريباً عجيباً، (الأدلّة النقلية والحسّية على جريان الشمس وسكون الأرض، وإمكان الصعود إلى الكواكب).! مؤلفهُ موسوعي ألمعي، وهّابي، يحتلّ منصب رئيس إحدى الجامعات في دولة عربية، وقد عمل هذا البروفيسور على تقديم (براهينه العلميّة) من أبيات متناثرة من شعر «عنترة»، ليثبت بشكل دامغ أن الأرض راسية لا تتحرك ولا تدور!
وقد وقع هذا الكتاب بين يدي غسّان، فكتب: (الكتاب الذي اشتريته مؤخراً كان ناقصاً هدية «عالبيعة»، فقد كان من المفروض أن تعطى معه مجّاناً سلّة مهملات، كإشارة إلى مصيره، أو على الأقل كان من المفروض أن تربط إليه عصا خيزران، وذلك كي ينهال القارئ على نفسه ضرباً بعد الانتهاء من قراءته، من باب الندم والنقد الذاتي، إن ملخّص الكتاب «كما لا شك تخّمن» هو أن صاحبنا البروفيسور «س» أخذ على عاتقه أن يبرهن لك ولي وللجدعان، أن الأرض ثابتة راسخة لا تتحرك قيد شعرة، وأن الشمس «أيّها الشاطر» هي التي تركض وتدور حول الأرض.) «الصيّاد 7/4/1972»
إذا كان عبث (الظلاميين) يزيّف حتى الثوابت الكونيّة، فماذا يُمكننا أن ننتظر بعد.!!