الإسلام والجمهورية والعالم
يعتبر الباحث والكاتب الصحفي ألان غريش أبرز الكتاب المنصفين للإسلام والإسلاميين، على الرغم من إعلانه أنه ملحد وعقلاني.
ولا ريب أن ولادته في مصر وقضاء طفولته بها ساهم في الحد من عقدة الرفض النفسي والتاريخي غير المنطقي الذي يهيمن على كثير من الكتاب المختصين أو أدعياء الاختصاص الذين يكتبون عن قضايا الإسلام السياسي كما يحلو لهم دائما أن يصفوا الصحوة الإسلامية على تعدد مشاربها ومدارسها وفصائلها. وكتاب "الإسلام والجمهورية والعالم"، من أحسن النماذج على درجات الإنصاف التي التزم بها الكاتب، وهو جماع مقالات وأبحاث نشرها ألان غريش في عدة صحف ودوريات ومجلات تبلغ عشرة أبحاث موضوعها الرئيسي هو الإسلام والإسلامية في فرنسا والعالم. وبالإضافة إلى المقدمة والخلاصة، عزز المؤلف كتابه بملاحق ثلاثة وبيبلوغرافيا ومعجم. ويبدأ الكتاب ببحث حول "سؤال حرب الحضارات"، يتبعه تعريف "بالإسلام والمسلمين"، ثم بحث عن "نشأة خوف"، فتعريف ب"مسلمي فرنسا"، ثم "غوص صغير في العلمانية"، في حين أطلق على البحث السادس عنوان "صفارات إنذار فرنسية"، وعلى البحث السابع عنوان "في الحجاب وتفاوت الجنسين والعلمانية". البحث الثامن تحدث فيه المؤلف عن "لجنة فوق كل الشبهات"، والتاسع "في اضطهاد المرأة المسلمة"، والعاشر في الغفلة الاستعمارية".
لماذا الإسلام؟
يفرد ألان غريش مقدمة كتابه "الإسلام والجمهورية والعام" للإجابة عن سؤال ظل يلقاه منشورا في كل منتدى ومناسبة "لماذا الاهتمام بالإسلام؟ لماذا تشغل بالك بالإسلام والمسلمين مع أنك ملحد وعلماني؟"
يعترف ألان غريش أن هذه السؤال حاصره وفاجأه في عز أزمة قضية الحجاب بفرنسا، وأنه لم يتوقف يوما للإجابة عنه، لأن هذا الاهتمام كان يبدو له شيئا بديهيا لارتباطه باختصاصه في الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
للإجابة المفصلة، يذكر ألان غريش أنه ولد في القاهرة غداة الحدث الذي قلب الموازين في المشرق العربي، وهو إنشاء دولة إسرائيل، وهي سنة مولده، والسنوات الأولى من حكم جمال عبد الناصر، خاصة تأميم قناة السويس عام 1956، والعدوان الثلاثي على مصر من قبل فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. وبعبارات جميلة يقول "أنا الذي كنت أتكلم الفرنسية أحسن من العربية، لم أفهم لماذا أغارت الطائرات الفرنسية على مصر وقذفتها بالقنابل. لقد بكيت يوم علمت أن ميناء بورسعيد احتله المحتلون، وابتهجت عندما انهزم المعتدون. لم أكتشف إلا فيما بعد أن جل الصحف الفرنسية الناطقة باسم السياسيين الفرنسيين صفقت لتلك العمليات ضد جمال عبد الناصر الذي كان يسميه الزعيم الاشتراكي غيه موليه "هتلر الصغير". كنت أجمع الطوابع البريدية الممجدة للمقاومة والمقاومين المصريين ضد الغزاة منذ الزمن الأول إلى اليوم".
نشأ ألان غريش من أب قبطي كاثوليكي وأم يهودية، ففقد الإيمان مبكرا، على حد قوله، دون أزمة في الوعي "ومنذئذ لم يؤرقني الموضوع إطلاقا". يروي غريش عن طفولته بمصر وما تركته من آثار في نفسه قبل أن ينتقل إلى فرنسا، لكن ذلك كله لم يحل بينه وبين الاندماج في الجمهورية الفرنسية، يقول "رغم أني حصلت على الجنسية المصرية، فلم أشعر يوما ما أني مصري، واليوم كذلك، وخلافا لكثير من الأصدقاء الذين غادروا العالم العربي في الفترة نفسها، لا أبدي أي حنين لمصر، ولا أرتعش عند سماع أغاني أم كلثوم، ولا أدخن النرجيلة، ولا أتهافت على متابعة الأفلام والروايات العربية. أشعر أني فرنسي محظوظ.. فأنا مثال للاندماج، إذ لا يجري في عروقي "الدم الفرنسي" لكني مقتنع تمام الاقتناع بالنموذج الجمهوري".
يؤكد الكاتب أكثر من مرة على أنه لا يتعاطف مع الإسلام والمسلمين وليس مدافعا عنهم، "أعيد القول مرة أخرى، أنا ملحد، وأنحاز إلى العقلانية، ولا أومن بأي وحي. رغم حب الاستطلاع الذي يغمرني تجاه الأديان ونصوصها المقدسة، وأساطيرها المؤسسة، فإن ما يشدني إليها اليوم ليس ما تقوله، ولا ما سطرته طوال تاريخها من محاسن ومساوئ على حد سواء، بقدر ما يشدني سلوك المؤمنين".
سدنة النار
تنفرد الطبعة الثانية لهذا الكتاب بتقديم جديد للكاتب بعنوان "عندما تنتظم حرب الحضارات"، يتساءل فيه الكتاب منذ الجملة الأولى عن "إمكان الحديث عن الإسلام بموضوعية؟" ويجيب أنه "بالنظر إلى غلاف أي من الأسبوعيات، وإلى النظر في التلفزيون الفرنسي، فإن الشك يأخذ بتلابيبك، والإنتاج يغرق المكتبات حيث الجودة، وهي القليلة، تعرض إلى جانب الضعف، وهو الأكثر". ثم يعرب عن استغرابه من كثرة ظهور خبراء أدعياء يزعمون التخصص في الإسلامية فتبوؤهم وسائل الإعلام مكانا عليا منذ تفجيرات 11 سبتمبر 2001. ويرى ألان غريش أن هؤلاء الخبراء المزيفين يقومون بمهمة الترويج لفكرة حرب الحضارات، ويدقون لها طبول الحرب ويصبون الزيت على نارها. وعلى الجانب الآخر، يعلو صراخ القاعدة وأتباعها، فلا يرون في الغرب إلا الكفر والعدوان، فيعلنون الجهاد ضد الصليبيين واليهود، وبذلك يكتمل بناء جدار يعيق الرؤية الصحيحة في كل من الغرب والعالم الإسلامي.
في هذا السياق، يرى ألان غريش أنه لا يوجد "إسلام واحد" ولا "غرب واحد"، ويشهد على ذلك المواقف المختلفة والمتناقضة عند الغربيين وعند المسلمين في أزمة الرسوم المسيئة لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. وهذا التنوع هو الذي ينبغي أن يفهم حتى يدرك الناس أن الحضارة الإسلامية ليست شيئا واحدا من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه، وإنما هي صور وأشكال متعددة وغنية من التعبير عن الانتماء إلى الإسلام دينا والتفاعل به مع الثقافات والعادات والأعراف والطبائع والأمزجة والأنظمة السياسية والاجتماعية التي رحبت به واعتنقته فلم تفارقه إلى يوم الناس هذا.
في فصل خاص عن "سؤال حرب الحضارات"، يقدم الكاتب معطيات وافية على وقوف اللوبي المسيحي الإنجيلي الأمريكي وراء افتعال الحرب وإشعالها، فيقول مثلا "إن الجنرال ويليام غ جيري بويكين، أحد قدامى وحدة التدخل لمحاربة الإرهاب بالقوات الأمريكية الذي عين في يونيو/حزيران 2003 سكرتيرا مساعدا لوزراة الدفاع، مسيحي إنجيلي صرح بأن المتشددين الإسلاميين يكرهون الولايات المتحدة الأمريكية لأننا أمة مسيحية، ولأن جذورنا وأسسنا يهودية مسيحية". كما أنه قال في مناسبة أخرى "نحن جيش الرب، نحن في بيت الرب، ومملكة الرب، أعدنا الرب للقيام بهذه المهمة". وفي حرب الصومال قال أيضا "كنت أعرف أن ربي أكبر من ربهم، وأن ربي هو الرب الحق، وربهم رب باطل".
على الجبهة الثقافية يرى غريش أن رأس الحربة والتنظير هو بكل تأكيد برنارد لويس الأكاديمي البريطاني المستقر في الولايات المتحدة منذ 1974، "فهو الذي ساهم بعمل كبير في تغذية فكرة حرب الحضارات بين الإسلام والغرب، وذلك لتقدمه على غيره بمعرفة كافية بالإسلام وتاريخه. ويؤازره في المهمة مفكرون وكتاب وإعلاميون مبثوثون في القارات الخمس، يصفهم ألان غريش بأنهم سدنة النار يحافظون على حرارتها، وكلما أوشكت على الانطفاء أوقدوها.
يسترسل الكاتب في استعراض أفكار برنارد لويس والرد عليها وبيان سفاهتها، ويقوم بتصحيح كثير من الأفكار الخاطئة عن الإسلام بالتعريف به عقيدة وشريعة وتاريخا وشعوبا وقبائل وثقافات متنوعة.
صفارات الإنذار
يتحدث غريش عن الحالة الفرنسية مع "الإسلام الفرنسي" بإسهاب وإحاطة، ويفضح أساليب المحرضين على مسلمي فرنسا بسبب الجشع الانتخابي ودغدغة العاطفة الشعبية واستدعاء الصور التاريخية التي تجعل من الإسلام تهديدا خطيرا للعلمانية. ويعتبر الكاتب أن هناك من يقوم بعمل صفارات الإنذار وتضخيم المخاوف وتحويلها إلى رعب قاتل لوجود الإسلام والمسلمين بفرنسا.
ويستغرب المؤلف من قدرة الإعلاميين والسياسيين الفرنسيين على توجيه الرأي العام نحو الأقلية المسلمة واعتبار المسلمين مجرد ضيوف في البلد على الرغم من ظهور أجيال فرنسية لأبناء المهاجرين وأبناء الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام، ثم يشير الكاتب إلى سياسيين فرنسيين لهم وزن وثقل في الحياة السياسية للفرنسيين ويسأل أولئك الإعلاميين والسياسيين "هل تجرؤون على اعتبار نيكولا ساركوزي أو إدوار بالاديور بمثابة مهاجرين من الجيل الثالث؟"
يتوقف الكاتب ليكشف عن مخاوف دينية في اليمين الفرنسي من الإقبال الجماعي للفرنسيين على الإسلام، ويقدم مثلا على ذلك من خلال ما كتبه أحد الناطقين الرسميين باسم الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية ألان بوزانسون، مدير معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، إذ قال في مقال له بعنوان "إغراء الإسلام في فرنسا المعاصرة" هل يأتي يوم يتحول فيه الفرنسيون الكاثوليك إلى الإسلام دون أن يشعروا بذلك؟". التحذير ذاته صدر عن كاتب يميني كاثوليكي على صفحات لوفيغارو، ويتعلق الأمر بإيفان ريفول الذي كتب "في السنوات القليلة المقبلة، من المرجح أن يصبح عدد المسلمين من شمال أفريقيا بين 15 مليون و20 مليون بفرنسا، فهل تشهد فرنسا تحولا في تاريخ الألفية الحالية؟ إن قادتها لا يبدون أي قلق تجاه ذلك".
آفتا التضخيم والتعميم
يميز ألان غريش جيدا بين فصائل الحركات الإسلامية، وهو ما لا يقوم به أدعياء الإسلامية جهلا أو عمدا. ويقدم تعريفا وافيا بالإسلاميين وموقع الحركات الجهادية بينها ووزنها الحقيقي وموقف الحكومات والحركات الإسلامية منها، فيقول معيبا على القوم آفتي التضخيم والتعميم "إن السؤال الذي يفرض نفسه هو معرفة مدى تمثيلية هذه الحركات الصغيرة مجمل المشهد السياسي للإسلاميين، وهل تشكل للغرب تهديدا استراتيجيا كما كان الحال أيام النازية والشيوعية. إن هذه المجموعات تمثل أقلية بين المسلمين، ولا تكافحها الدول الإسلامية فحسب، ولكن تكافحها أيضا كثير من الجماعات الإسلامية. وعلى العكس من حال المنظمات الشيوعية، فهي عاجزة عن استمالة فئة عريضة من الآراء الغربية. ومن جهة أخرى لا تعتمد على دعم حكومي كما كان الحال مع النازية في عهد ألمانيا الهتليرية، أو مع الشيوعية في عهد الاتحاد السوفييتي والصين". ويعزز المؤلف هذا الأمر بإحصائيات رسمية أمريكية عن عدد العمليات الإرهابية كما جاءت في التقرير السنوي للإدارة الأمريكية، إذ في سنة 2003 كان عدد العمليات 208، في حين كان العدد سنة 2002 هو 205، أي بانخفاض قدره 45 بالمائة مقارنة مع سنة 2001 حيث بلغت 364. أما عدد القتلى فكان هو 625 في مقابل 725. "ومع ذلك فإن كل عمل من أعمال القاعدة يعزز مشاعر الخوف بين سكان الغرب، ويدفع الإدارة الأمريكية إلى تشديد خطابها الحربي. إن الحال أشبه ما يكون بمشهد في الأوبرا: بوش وبن لادن يتبادلان الأدوار".
وحدة ضد الظلم
ينهي ألان غريش كتابه بالإشارة إلى أن تقديم المسلمين الفرنسيين على أنهم عدو للعلمانية وللجمهورية افتراء وكذب، وأن المشاكل الحقيقية التي ينبغي التصدي لها ليست في الوجود الإسلامي بفرنسا، ولكنها في الظلم الاقتصادي والاجتماعي الليبرالي المتوحش الذي يسعى إلى شغل الانتباه بمعارك وهمية. ففرنسا شارك في بنائها والدفاع عنها مهاجرون قدموا إليها من شتى أركان الدنيا، فكيف تضيق اليوم بمواطنيها المسلمين، وكيف يعقل أن يكونوا مصدر تهديد لعلمانيتها وجمهوريتها؟
/
منقول للفائدة
وعن
عبدالصمد حسن زيبار