تجار الكلمة
ما قيمة الكلمة عندما تباع في سوق لا يٌراع فيها حرمتها و لا أخلاقها ؟
في سوق الجدل حيث البضاعة الوحيدة المتوفرة للبيع هي الكلام..
كلام بكل أشكاله يرضي جميع الأذواق ، و يتناسب مع كل الميول ، فقط أدخل هذا السوق لترى ما يروق لك من أصناف الكلام ذات القوالب الجاهزة للبيع...كلام في السياسة لا يعقل صاحبه ماذا يقول..كلام في الشعر تتوه معه العقول ..كلام في الفلسفة تخرج الإنسان من دائرة النور...كلام مزخرف لصيد القلوب..كلام في الحوار لتحطيم جسر التواصل و التفاهم..كلام في الشتم و التحقير لنصب مشنقة الإعدام على أبرياء الحروف..كلام في مراسم المناسبات لخداع البصر و تضليل الحقيقة و كلام جميل نادر يصيب كبد الحقيقة و يشفي صدرها ..
وقد ازداد الأمر تعقيدا مع غياب شمس الحقيقة عن قلوب الناس و دخولهم في عصر الثورة الالكترونية ، و التي كانت إحدى أدواتها الانترنيت ، ذلك العالم غير المرئي فكانت المساحة أكبر لترويج الكلام ، فرفعوا علم الكتابة شعارا ، وقرروا أن يقودوا معارك البطولة المتأزمة باستخدام الكلام فوقعوا في مهالك الحرف ، وأخذوا يعرجون في أودية النفاق يبحثون عن زوايا مظلمة لنشر بضاعتهم ، و ألبسوا الحقيقة قناعا مختلفا مطرزا بكلمات الوهم والخداع و الكذب ..أرادوا من خلال هذا أن يعوضوا عن النقص الذي غزا مساحات النفس عندهم ، فتصحرت قلوبهم ، و جفت موارد الخير فيها ، وتحولت خضرتها إلى زرع يابس ينتظر موعد الرحيل.
الكلمة سلاح ذو حدين نطلقها نحو الهدف ضمن ما يحدد حاملها اتجاهها ، فيجعلها إما لواءا ينصّبها على قمم العزة الكرامة والشرف عندما يراعي أخلاقيات الكلمة وشرفها ، أو ينحدر بها فيجعلها سمّا تقتل كل من يحتسي رحيقها ويعتنق وجهتها ، غير العار الذي سيلحق بصاحبها .
للكلمة وظيفة تنويرية تفتح في سعيها أبواب الظلمة لتصبح الطرقات سالكة للعبور إلى النور.
لكن مع تراجع قيمة الكلمة وتقدم مصالحها النفعية أصبحت بعيدة عن هدفها التنويري ، بل دخلت في دور تهميش العقول واصطياد فكرها واستعباد قوتها واغتيال وجودها ..فاستبدل الإنسان الجهاد في ساحات المعركة ببعض العبارات التي تتناسب مع ثوبه الذي أختاره أمام الناس ليظهر به ، فأخذ يرهب بها الناس ليقال أنه ثوري ... وتحول الأدب إلى ساحات لاغتيال معاني الكلمة فأصبح بعض الأدباء جزارين يريدون أن ينالوا من رقاب الناس عندما لا يستطيعوا أن يٌٌخضعوا إرادة الحق إلى أهوائهم.. فيجرحون اللغة ويدمون جلدها بسوط كلامهم الذي لا يرحم..ولا نغفل عن صائدي الكلمات والشباك التي ينصبونها بزخرف القول لاصطياد الغزلان الشاردة في غابة الكلام .. ولا ننسى أيضا حجم معاناة الكلمة من مأجوري الكتابة الذين يبيعون أقوالا كاذبة لشراء فيها ولاء الناس أو شراء عقولهم مستغنين بذالك عن الضمير .
وهكذا سلسلة من الاغتيالات يقودها الكثير من حاملي الكلمة الذين جعلوا منها سوقا لبيع بضائعهم الرخيصة فأبحرت مراكب الكلمة بعيدا عن شاطئها فما عادت تؤثر في العقول فتتفاعل معها فيحصل التأثير المنعكس إيجابا على الفرد ومجتمعه.
إنها ، للأسف ، ظلال لكلمات مستهلكة نفذت صلاحيتها ولم تعد صالحة للاستخدام الإنساني.
مع التحيات
رنا خطيب
24/9/2010