منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 4 من 4

العرض المتطور

  1. #1

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جدا (5)

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جدا (5)
    مرايا وحكايا لفاروق مواسي
    الكتابة الإبداعية في ضوء الوعي النقدي
    د. يوسف حطيني
    في مطالعة مجموعة القصص القصيرة جداً، المعنونة "مرايا وحكايا" للدكتور فاروق مواسي يقف المرء أمام مجموعة تتمتع بوعي نقدي كامل، يرفده حسّ إبداعي تمخّض عن كثير من الشعر والقص، مما يجعل المرء يحوم حول الحمى، ويخشى أن يقع فيه. فالناقد يخبرنا منذ استهلاله الأولي أنه يدرك تماماً ما يقوم به في تجربة القصة القصيرة جداً التي خبرها تنظيراً وإبداعاً، فيقول لنا في جزء من هذا الاستهلال:
    "سأكثف ما وسعتني الحيلة حتى أجانب السطح، ولن أستطرد وصفًا، وقد أستبدل عنصرًا قصصيًا بآخر، فأستغني عن الزمان أو المكان أو السرد الوصفي، لكني سأرافق المفارقة وأهتز معها.. أو أعمد إلى الدفقة الختامية[1]"
    إنه يدرك دور التكثيف، ويجعل له الصدارة والقدرة على التأثير في عناصر القص الأخرى، التي يسعى من خلال حكايتها إلى إنتاج مفارقة تُحدث لحظة تنوير غير متوقعة، أو إنتاج لحظة تنوير تنتج مفارقة مدهشة.
    وإذ يشمخ القاص في داخل فلسطينه، دون أن يسجن ذاته داخل فلسطينيته، يحوّل يوميات الفلسطينيين إلى حكايات تحتمل التأويل والدلالة وتحيل على فضح إجراءات الاحتلال الذي يحاول أن يسرق من الإنسان الفلسطيني حياته وذاكرته وتراثه، فيجد القاصَّ وشخصياتِ قصصه بالمرصاد. في قصة بعنوان "رُشاش" يفيد القاص من حالة التوازي البصرية بين رشاش اللعب في يد الطفل، ورشاش القتل في يد الجندي، ليصنع حكاية، يغتصب فيها المحتلّ براءة الطفولة، ويُحِلُّ من منطق التوازي نفسه قهقهات غريبة في مجابهة الضحكات الشهيدة:
    "أراد سامي أن يلعب بدميته – بالمسدس المائي الذي اشتراه يوم العيد، فأخذ يرش هذا الصديق وذاك، وهو يضحك، ويضحك.....
    ولكن، و بعد لحظات أُطلِق عليه رُشاش، وكان أسرع... وكان أحمر!
    احتضن مسدسه المائي، وهو يهوي على الأرض.... ووضعه على صدره، وأغمض عينيه وهو يسمع قهقهات غريبة[2]".
    وفي قصة "حجر" يعمد القاص، عَبْـرَ حكاية شائقة، إلى تأثيث ذاكرة القارئ من خلال تمسك الفلسطيني بالحجر، بالمعنى البنائي الحضاري لهذه المفردة، فالحجر في ذاكرة الشخصية القصصية الرئيسية، والشخصية القصصية العارضة، هو رمز التشييد: تشييد البناء والذاكرة؛ لذلك كان لا بدّ من الاحتفاظ به، حتى يعود البيت/الحقّ إلى أصحابه:
    "منذ أن عثرت سامية على الحجر بين ركام بيت في عكا – أخذت تصحبه في كل مسرحية تقدمها، فهو الرخامي الأملس، ويحمل اسم الطبيب فخري الشقيري وساعات استقباله المرضى ....
    تحمله تعويذة أو رفيق طريق أو شاهدًا حيًا، والمصورون يصورون لتتجسم في هذا الحجر عكا.
    ولكنها في عرضها الأخير سمعت بكاء وتأوهات في أثناء مونولوجها المسرحي....
    كانت امرأة بين جمهور المسرح، جاءت واحتضنت الحجر كما تحتضن وليدها، وبكت وبكت، وهي تقول: هذا من منزلنا نا نا نا...
    قدمت الممثلة الحجر لصاحبته، وقالت لها:
    لقد حملته لك وديعة، فتسلَّمي[3] !"
    ويستمرّ القاص في خوض الصراع الحضاري، الذي هو أحد أهم أوجه الصراع، في قصص أخرى، من بينها قصة "تيمائيل" التي تحذّر الفلسطينينيين من سرقة تراثهم على يد شذاذ الآفاق، وترسل رسالة للعالم مفادها أن هؤلاء المحتلون لا تراث لهم ولا حضارة، ولا يمكن لحضارة البطش إلا ان تكون زائفة زائلة. يقول د. فاروق في قصة "تيمائيل":
    "زرت أطلال عين غزال، وجدت قبرًا يقوم على نشز من الأرض...
    قال لي المرشد: هذا مقام الشيخ شحادة رحمه الله. وهذه اللافتة وضعها مجهولون وعليها: "هنا يرقد الرابي عوفر بن تسفي".
    عدت إلى بلدي، وتوجهت حالاً إلى مقام الشيخ تـيّـِم الذي يقوم في مركز البلدة. رأيت بعض الناس يقيمون النذور ويعلقون البيارق، ويقرؤون الفاتحة.
    قلت للجيران الذين يرعَون المقام:
    انتبهوا - الله يخليكم - لئلا تجدوا لافتة غريبة، وعليها:
    " هنا يرقد الرابي تيمائيل[4] " ...
    ويبدو تأثيث المكان، وإن كان مجرد خيار في القصة القصيرة جداً، ذا أهمية بالغة في وجدان القاص، أو لنقل إنه خيار نفسي يفزع إليه من غربة يعيشها في وطنه، فيقرأ المرء في سطوره عن فلسطين وعن أطلال عين غزال وعن حيفا ويافا، ويشم رائحة الحجر والشجر والتراب، فهو إذ يذكر حيفا يحضر الشعر، وترتقي الحكاية، في شكل حوار بين العاشق والمعشوقة في قصة حملت عنوان المعشوقة ذاتها/ "حيفا"، بينما يعلن السارد الحزين عشقاً آخر:
    "حيفا تغسل قدميها كلّ يومٍ في البحر، يناغيها البحر ويقول لها:
    يا حبيبتي، أما زلت تنتظرين؟
    تجيب حيفا وهو يداعب خصلات شعرها :
    " أنا أنتظر... وانتظر...."
    فيصفق الموج...
    وتتهادى أشجار الكرمل ....
    وأحزن أنا[5]"
    ومن حيفا إلى يافا تتكرَّرُ حكاية العشق، ولا يتكرر شكله، فالسارد حريص على تنويع شكل الحكاية، دون أن يمس جوهر العشق الصوفي؛ إذ تمتزج في قصة "يافا" رائحة خبز أبو العافية برائحة البحر والزعتر، وتمتزج سلال البرتقال بكلمات غسان كنفاني في عائد إلى حيفا، وكأن إيقاع العودة: (تدقّ.. تدقّ.. تدقّ) إيقاعٌ ينتقل من رواية كنفاني، إلى قصة د. فاروق، إلى القارئ الذي سيحملها إلى جيل جديد، يقرع جدران خزّان الذلّ بلا هوادة. يقول د. فاروق في قصة "حيفا":
    "بالقرب من ساحة الساعة نشم رائحة خبز أبو العافية....
    وهذا الرصيف تجول فيه محررو صحف كانت تصدر بالعربية....
    ثمار البحر كانت على طاولات البائعين.... هنا خطبوا بالعربية الفصيحة، وتغزلوا بالعربية، وصلَّوا بها... في هذا الشارع قبل أن يصبح اسمه (ييفت).
    اشتريت منقوشة زعتر.
    كانت تمر أمامي - وأنا آكل - جماعات تتاجر، وأخرى تلعب، وجماعات تضاجع، وتسكر....
    رأيتهم!
    وكانت جماعة أخرى تحمل سلال البرتقال والليمون......
    والساعة تدق.. وتدق... وتدق[6]...."
    إنها تفاصيل حكاية المكان، تلك التفاصيل التي تكوّن كلمة اسمها الوطن تتلألأ حروفها الستة في تشكيل طباعي أنيق، تضوع منه رائحة عطر، يخشى أن تضيع في زحمة البعد عنها. يقول د. فاروق في قصة "وطن":
    "أحب بلاده بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة.
    قرأ الأحرف فـ لـ سـ ـط ـيـ ـن على تضاريس شكلت هذه الحروف.
    ابتسم وهو يتنسم عطرها.
    حين ابتعد عنها تاه في وحدته، فألف سورة جديدة هي "سورة الوطن".
    وقد أطلق عليها اسم حبيبته[7]".
    ها هنا، في حضرة الوطن، يصبح التأثيث لازمة لا غنى عنها، بغض النظر عن إمكانات التلاعب بالنظام الحكائي، لأنّ توجيه الحكاية مترعٌ بالقصدية الوطنية، فثمة مدن وقرى وثمة أحجار وأشجار، وما قصة "رأيتـــها" إلا دليل ناجز على ارتباط الشخصية القصصية (والقاص أيضاً) بالأرض، فالشجرة تحيل على الاخضرار والربيع والتجدد، وما لا يحصى من الدلالات، لذلك كان من الطبيعي ـ حكائياً ـ أن ترنو الشجرة إلى أصحابها، وأن تبسق من جديد، على الرغم من كلّ محاولات الاقتلاع، تعبيراً عن حكاية عشق سرمدية:
    "رأيتها في اللد.
    هي مميزة مع أني لا أعرف اسمها أو نوعها أو فصيلتها، لكني كنت كلما مررت بها في أثناء زياراتي للمدينة أكحل عيني بمرآها، فأشعر بغبطة لا أعرف سببها.
    زرت المكان قبل نصف قرن - وأنا يافع - فألفيت لها أوراقاً عجيبة...
    ثم علمت أنهم غيروا معالم المكان واقتلعوها.
    لما زرت المدينة قبل ربع قرن مررت بصديقتي فإذا بها تبسُـقُ وتتجددُ،
    ورأيت الأوراق ترنو إليّ.....
    ثم غيروا معالم المكان واقتلعوها.
    ولما زرت المدينة يوم أمس كانت الشجرة تبسُقُ، وكانت تبادلني النظر.
    وألفيت نفسي بعد نصف قرن أكحّل عيني بمرآها.
    وأشعر بغبطة أعرف سببها[8]"
    ومن رائحة البحر إلى رائحة خبز أبو عافية إلى رائحة الحبيبة يتم تأثيث المكان بالروائح، بطريقة ذكية، لم نشهد لها شبيهاً منذ التأثيث بالراوئح الذي أتقنه المرحوم الروائي غالب هلسا أيّما إتقان.. ها هنا، مع الدكتور فاروق، تفوح الروائح العطرة، حتى إنّ الروائح النتنة تحضر في قصة "روائح" إذ يشتغل مخيال الكاتب على إنجاز رائحة للخيانة، تفضح كلّ خائن للوطن، مهما حاول إخفاء تلك الرائحة، وأياً كان نوع المطيّب الذي يستخدمه، وسواءٌ أكان هذا المطيب مادياً أم معنوياً، ليقدّم نصاً تعوزه الحكائية، ولا تعوزه الإثارة:
    "يحدث في آتي الزمان، أن كل موبقة سيفعلها الإنسان، ستكون لها رائحة لا تخفيها، وأننا سنسير بين الناس فيها...
    كم هو جميل ألا تكون...
    كم هو جميل أن تكون...
    تكون؟ لا تكون؟
    ترى، كيف ستكون رائحة من يخون وطنه؟ هل تزول حتى بعد أن تُسكب العطور والفوائح الذكية، وتتوالى عمليات التلميع؟ ويحج إلى بيت الله الحرام[9]"؟
    ثمة في النص السابق جرأة لافتة، تميّز بين المقدّس الديني، وبين الاتجار بالدين، وقد عمل القاص في عدة قصص في هذه المجموعة، على مهاجمة الوعي الديني الزائف، وإحلال الوعي الديني الذي لا يغلق الفكر في مواجهة أسئلة الوجود، حتى لا يكون الإيمان وراثياً رجراجاً، بل راسخاً نابعاً من تفكير عميق. في قصة "شخص واحد" حكاية طريفة، تتحدث عن الآباء والأحفاد الذين لا يزكّون إيمانهم بالوعي، ولا يجابهون عدوّهم إلا بالتعاويذ والدعوات، ولا يتركون على درب الحياة آثاراً جديدة:
    "صلّى الحفيد كما صلى أبوه...
    صلى الأب كما صلى جده...
    صلى الجد كما صلى التابعون وتابع التابعين بإحسان إلى يوم الدين ...
    قطعوا طريقاً واحدة، ودعَوا نفس الدعوات:
    أن ينصرنا ويهزمهم، أن يحفظنا ويلعنهم...
    وعلى الرغم من أن الجيل تلو الجيل كان يمضي في نفس الطريق إلا أن عالم الآثار لم يجد على الرمال إلا آثار قدمين اثنتـين[10]".
    وثمة حكايات أخرى تطرح على الإنسان العربي أسئلة الوجود والوعي التي تريد ترسيخ ثقافة جديدة غير ثقافة الاستسلام، من مثل قصة "لا تغيير[11]" وقصة "هل نجا الذين صلوا[12]؟" وغيرها، وهذا ما يُظهر أنّ لدى د. فاروق إدراكاً حاضراً لدور الثقافة في صناعة الوعي، وسعياً دائباً إلى تحقيق ذلك.
    * * *
    وإذ وعدنا الكاتب منذ استهلاله النقدي البارع بأن يجعل المفارقة رفيقاً دائماً لقصصه القصيرة جداً، فإنه قد أنجز هذا الوعد من خلال مجاوراته المكانية كما لاحظنا، ومن خلال مجاوراته الزمانية كما سنلاحظ، إذ أفرد عدداً من القصص ليعالج مفهوم الزمن من زوايا متعددة، على نحو ما نجد في قصة "الساعة والعقارب" مستثمراً ببراعة الازدواجية اللغوية التي يشير إليها لفظ العقارب التي تنتقل مع تقدمها الزمني من مكان إلى آخر لتحاصر الشاعر في ديمومة معذِّبة، تشكّل حكائيتها من خلال تكرارها:
    "حين نلتقي أُلقي بالساعة بعيدًا وأنسى العقارب.
    وحين نفترق تلاحقني العقارب سريعة وخطيرة...
    وهكذا يا سادة يا كرام أعيش أنا والساعة والعقارب[13]...."
    وفي قصة "رحلة امرأة" يستثمر القاص الزمن لترسيخ مفهوم التعاقب الذي يحمل التغيير إلى حياة تلك المرأة في رحلتها، متنقلة عبر عقود حياتها:
    "تزوجت في الثلاثين.
    عذبها زوجها حتى طلقته وهي في الأربعين.
    قالوا لها في الخمسين: كان عليك أن تحتملي الضيم، فهذا أفضل من العزف على وتر منفرد.
    في الستين التقاها زوجها ذاك، وأبدى لها الندامة. فقالت له:
    لقد عشت وحدي طليقة ، طليقة....!!.
    إن في ظلالك أصداء هواي[14]!!!
    وينجح الكاتب في تقديم عدد من قصصه من خلال حكايات تعتمد في صناعة مفارقاتها على وسائل مألوفة، منها المرآة التي تعكس دائماً ما لا ينتظره القارئ، ويمكن هنا أن نشير إلى قصة "المِرآة" التي تتمرد أحياناً عن أن تكون ظلاً لمن يقف قبالتها:
    "نظرتُ إلى وجهي في المرآة ، فرأيت شخصًا استغربت صورته...
    سألته بإشارة: من أنت؟
    فأشار لي وسألني: من أنت؟
    وكلما فعلت شيئًا أمامه كرر ذلك، وكأنه يسخر مني ...
    ولكنه عندما ابتسمت ظل واجمًا[15]".
    غير أن أطرف أشكال المفارقات، وأكثرها نجاحاً، تلك التي تقوم على تبادل الوظائف غير المتوقع بين العناصر، بشكل يخالف طبيعتها، ويمكن أن نجد أمثلة لهذه المفارقات في عدد من القصص. ولعلّ قصة "جنيّ علاء الدين" تشكّل مثالاً ساطعاً على ذلك التبادل، فالجني يتوسل علاء الدين حتى يحقق له أمنية زواجه من جنّيته الأثيرة إلى قلبه، في حين أن قلب علاء الدين وعقله لم يحتملا هذا التبادل:
    "عندما فرك علاء الدين المصباح حضر الجني شاحب الوجه، وأخذ يبكي بصوت عال.
    أخذ الجني يتوسل لعلاء الدين أن يساعده في زواجه من جنية "جنَّنته" ، وأن يكون سعده المبين، بين يدي علاء الدين .
    لم يدر علاء الدين ماذا يقول وماذا يفعل.
    ولما يئس الجني جمّع نفسه في دخان، وعاد من حيث أتى[16]".
    هذه القصة تنحو منحى غرائبياً يبدو خياراً فنيّاً لعدد من القصص التي تقوم على كيفية تلقي الحدث غير المألوف من قبل عموم المتلقين، ولعلنا نشير أيضاً إلى قصة بعنوان "حكاية قديمة"؛ حيث يشكو الأب لأبنائه بغلة تنطلق من فم إبريق الوضوء، ويصر على ذلك حتى ينكره الأبناء وينكروا أفكاره، إلا أن الحكاية هي التي تنتصر في النهاية:
    "كان يتوضأ، فشكا لأولاده أن بغلة تنطلق من فم إبريق الوضوء. تعوّذ الأبناء وحوقلوا، ونظر بعضهم إلى بعض...
    حاولوا إقناعه أن البغلة حجمها كبير وفوهة الإبريق صغيرة، ولكنه أصر على قوله، فهذا ما يراه ... وها هي البغلة أمامه يراها وهم لا يرونها.
    وأقسم لهم أنه سليم العقل، وهو ما زال يحفظ ما يحفظ، ويعي أصول العادات ومنطق العبارات، وووو
    لما رأى إنكار أبنائه الحاد ركب البغلة ، و هام على وجهه[17]..."
    ويستثمر القاص في قصة "الصدق" وهي قصة يقوم عنوانها على مفارقة، نمطاً مألوفاً من أنماط القص يُعرف بـ "تكاذيب الأعراب[18]" وينسج حكاية تستند إلى تطور تفاصيل السرد حسب القدرة على الكذب، ويُلحق لحظة التنوير التي يقدمها بتعليق ختامي، يقدّم فيه حكاية كذبة أخرى لنظرة، كبرت ولم تستقرَّ حتى حملت المرأة بسببها:
    "لم أكن أدري أن الثعبان الصغير أو فرخ الحية الذي قتله أخي يكبر يومًا بعد يوم... فأخي حكّاء مبدع، فكلّما حدّث قصة الأفعى الصغيرة التي قتلها زاد من طولها إلى أن أصبحت أربعين مترًا ... ولا أدري اليوم وبعد أن تخليت عن سماع قصصه كم بلغ طول الأفعى؟!
    تعليق قصصي : تذكرت حكاية النظرة، وكيف حدَّث عنها الرواة... إلى أن أصبحت المرأة حاملاً بعدها[19]..."
    ويلجأ د. فاروق إلى التعليق الختامي مرة أخرى في قصة "ماذا قالت عن شيطان نوراني[20]؟" ليرسّخ، فيما نظنّ تقليداً نظرياً يؤسس لإمكانية استخدام الملاحظة والتعليق في نهاية القصة القصيرة جداً، لا ليطفئ لحظة التنوير، بل ليزيدها ألقاً.
    وتزخر قصص "مرايا وحكايا" بالإحالات والتناصات الثقافية التراثية والأسطورية العربية والغربية، كما تزخر بالإلماحات الثقافية إلى أدباء العصر الحديث، ويمكن أن نشير إلى "الشاطر حسن[21]" و"سيزيف[22]" و"المتنبي[23]" و"لوركا[24]" و"السياب"، ولعلنا نشير إلى إفادة القاص من قصيدة كتبها السياب بعنوان ديواني، ومنها قوله:
    يا ليتني أصبحتُ ديواني// أختالُ من صدرٍ إلى ثانِ
    قد بتُّ من حسدٍ أقولُ لهُ// يا ليتَ من تهواكَ تهواني
    إذ يكتب د. فاروق قصة طريفة عنوانها "ديوان الشعر"، يعيد فيها إنتاج الحكاية بأسلوب آخر، وتفاصيل أخرى، فيقول:
    "قرأتْ ديوان شعر انتقته في مكتبتي.
    أعادته مشكورة.
    شعرت دواوين الشعر الأخرى بعودته، فاجتمعت إليه لتسأل عن جمال هذه القارئة، وعن رحلته بين عينيها.
    أخذ الديوان يحدث بزهو وسائر الدواوين تنصت...
    لما دخلت إلى مكتبتي في ساعات الفجر الأولى ألفيت حروفًا ترقص وأوراقًا تغني[25]..."
    غير أنّ ما يؤخذ على بعض قصص المجموعة أنّها اعتمدت على المفارقة اعتماداً شبه كلّي، على حساب براعة الالتقاط، مما يجعل بعض النصوص مجرد نكتة غايتها الإضحاك الذي لا تنجح دائماً في إحداثه، وثمة أمثلة متعددة لهذا النوع من المفارقات التي تجسّد طرفة معروفة في الأوساط الشعبية، أو تستند إلى مفارقة لغوية بسيطة لم يجتهد القاص في إلباسها لبوساً حكائياً مميزاً، ولعلنا نشير هنا على سبيل الخصوص إلى قصة "تغيّر حتى اسمك"[26] وإلى قصة "هل أدعها لك؟"[27] حيث لا تتعدى تلكما القصتين حدود دلالاتهما الحرفية، وإلى قصة "أمستردام"[28] وقصة "ركيك...رقيق"[29]، إذ تقوم بعض الألعاب اللغوية البسيطة بصناعة المفارقة التي لا طائل وراءها. وحتى لا تبقى هذه الملاحظات دون استشهاد نشير إلى قصة "أين البسّة" التي تنتج حكايتها عن الفارق اللفظي بين البوسة والبسّة. تقول القصة:
    "كان مسؤولاً كبيرًا في دائرة، وقد عُرفت عنه الرزانة والجدية....
    وكانت الموظفات أشكالاً وألوانًا....
    غير أن إحداهن جذبت نظره بلباسها المثير... وشفتيها النافرتين... وعينيها الملونتين...
    وما إن سألها مداعبًا ومقتربًا وبهدوء العاشق: أين البوسة؟ حتى جنّ جنونها، وأخذت تحدث المسؤولين عنه وعن مضايقته، فهي بنت شريفة، ولها أصل وفصل، فهل جاءت هي هنا لتعمل؟ أم أنها جاءت لهذا المستوى من الرذيلة؟ وكيف يجرؤ هذا الحقير...؟
    ولما عقد مجلس الضبط لفحص المسألة ولاتخاذ القرار بشأن المدير، سألوه:
    - هل صحيح أنك قلت لها: أين البوسة؟
    - أنا ؟؟؟؟ أعوذ بالله! فأنا سألتها: أين البسة؟
    - وما زالوا حتى اليوم يبحثون عن تلك البسة[30]؟
    * * *
    كلمة أخيرة:
    هكذا بدت لنا مجموعة الأستاذ الناقد الدكتور فاروق موسي القصصية القصيرة جداً التي حملت عنوان "مرايا وحكايا": اشتغال مركّز على المفارقة التي تشكّل أساساً من أسس القصة القصيرة جداً، وتنويع ثرّ على أشكال الحكاية، مع إفادة محمودة من مخزون تراثي وإنساني تزخر به هذه المجموعة، لتكون درساً نظرياً وتطبيقياً في هذا الفن السردي الجميل.

    [1] د. فاروق مواسي: مرايا وحكايا، قصص قصيرة جداً، دار آسيا للصحافة والنشر، 2006، ص5.
    [2] المصدر نفسه، ص26.
    [3] المصدر نفسه، ص73.
    [4] المصدر نفسه، ص34.
    [5] المصدر نفسه، ص64.
    [6] المصدر نفسه، ص35.
    [7] المصدر نفسه، ص20.
    [8] المصدر نفسه، ص63.
    [9] المصدر نفسه، ص39.
    [10] المصدر نفسه، ص24.
    [11] المصدر نفسه، ص49.
    [12] المصدر نفسه، ص42.
    [13] المصدر نفسه، ص47.
    [14] المصدر نفسه،ص51.
    [15] المصدر نفسه، ص54.
    [16] المصدر نفسه، ص44.
    [17] المصدر نفسه، ص13.
    [18] لعل تكاذيب الأعراب أن تكون من أغرب الأشكال السردية وأندرها؛ إذ تقوم الحكايات على تبادل الأكاذيب التي لا يجتهد راويها في إعطائها أي شكل من أشكال المعقول والمقبول، بل على العكس من ذلك، فإنه يقوم بسرد ما هو غريب وغير منطقي، مما يسهم في مدى نجاح الأكذوبة، وهذه إحدى الأكاذيب المشهورة التي يرويها أعرابي في معرض تكاذبه مع آخر:
    " خرجتُ مرة على فرس لي، فإذا بظلمة شديدة فيممتها حتى وصلتُ إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل بفرسي عليها، حتى أنبهتها، فانجابت" تمكن العودة إلى:
    محمد أحمد جاد المولى، علي محمد البجاوي‘ محمد أبو الفضل إبراهيم: قصص العرب، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، د.ط، د.ت [أربعة أجزاء]. 3/335.
    [19] د. فاروق مواسي: مرايا وحكايا، مرجع سابق، ص71.
    [20] المصدر نفسه، ص ص30-31.
    [21] المصدر نفسه،ص37.
    [22] المصدر نفسه، ص40.
    [23] المصدر نفسه، ص32.
    [24] المصدر نفسه،ص45.
    [25] المصدر نفسه، ص48.
    [26] المصدر نفسه، ص50.
    [27] المصدر نفسه،ص43.
    [28] المصدر نفسه، ص72.
    [29] المصدر نفسه، ص65.
    [30] المصدر نفسه، ص16.

  2. #2
    طبيب وشاعر من سوريا دير الزور
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    3,402
    سنتابع معكم هذه الدراسات إن شاء الله تعالى

    أمدكم الله ببحر من العلم والأدب لا ينقطع أبداً إن شاء الله تعالى

    بوركتم
    واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه واللَّه بكل شيء عليم

  3. #3
    تشرفت بحضورك دكتور ,واهلا بك وبقراءتك.

  4. #4
    وكأنني أجد في نهايات القصص رغم إحكام فنيتها ضعفا في مواقف المرأة عموما في قصص القاص المذكور يثبت ذورية الموقف .
    مرد وجهة نظر.
    شكرا لجهدك دكتور.

المواضيع المتشابهه

  1. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (3)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-28-2013, 05:12 AM
  2. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (11)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-24-2013, 06:03 AM
  3. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (2)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:53 AM
  4. النقد التطبيقي للقصة القصيرة جدا(10)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:36 AM
  5. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (1)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 03:35 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •