الخونةُ يريدون منحَ القداسة لقانونٍ يخنقُ السياسة (!!)
والثوار إنما يمنحون القداسة لسياسة توجِّه القانونَ وتصنعُه (!!)


هناك فرق كبير بين الحالة الأيديولوجية لمن يتعاطى مع القضية الفلسطينية في إطار القانون، وذلك الذي يتعاطى معها في إطار السياسة (!!)


الأول يجد نفسه مدفوعا للتحرك والتفاعل والتقدم أو التأخر، في ضوء ما يجعله يتمكن من تحصيل الحقوق وفق ما تتيحه القوانين، فيكون نضاله محكوما بهذه المساحة الضيقة الحرجة، فلا يفعل ما قد يحرمه من بعض الحقوق التي تعترف بها القوانين، كما أنه يحرص على جعل عدوِّه يتحرك في هذه الدائرة فقط (!!)


فتصبح السياسة وتغدو المواقف السياسية خادمة للقانون وخاضعة لحيثياته، وتؤول القضية إلى "سجالات قانونية" أقرب إلى مؤتمرات "التحكيم الدولي" حول قضايا خلافية، منها إلى استخلاص الحقوق السياسية الإنسانية والتاريخية (!!)


هذا ما تكشف عنه واقعة أن "التَّسْوَوِيين"، سواء من كان منهم من عَراَّبي "أوسلو"، أو من كان منهم من عَراَّبي "وادي عربة"، يرون في الاستيطان "كارثة الكوارث"، وفي التجنيس أو التوطين "مصيبة المصائب"، لأن كلا منهما – أي الاستيطان والتجنيس والتوطين – يفرض على الأرض من وجهة نظرهم حقائق لها مردودات قانونية، لا يملك هؤلاء – أي التسوويون العرابون – أيَّ خيال سياسي يُنتِج مشروعا سياسيا قادرا على تحجيم تلك المردودات القانونية أو تكييفها لصالحه، أي لصالحه كمشروع سياسي (!!)


وهؤلاء تتشكل أيديولوجيتهم تجاه القضية من منطلق "التفاوض الأبدي" المستند إلى "استخدام القانون لتحصيل الحق السياسي"، ما يجعل الحق السياسي يدور مع القانون حيث دار، ومع مآلات التفاوض القانوني إلى حيث آلت (!!)


إننا بإزاء قانون يتحكَّم، ويفرض، ويُحَدِّد، فتنصاع له السياسة، وتتغير الحقوق السياسية وفق ما يتيحه القانون من حقوق، أي أن الحق القانوني هو البوصلة، وأيَّما حقٍّ سياسي تاريخي أو إنساني يفقدُ قيمتَه ما لم يعترف به القانون أصلا (!!)


كلُّ القضايا التي تحرَّك أصحابها والمتصدون لقيادتها في ضوء ما تتيحه معادلة "القانون هو السَّيِّد والسياسة هي التابع"، أضاعوا قضاياهم ودمروا شعوبهم، ورسَّخوا في الواقع حقوقا سياسية أقل مما ينبغي بكثير، بعد أن سمحوا للقانون بأن يعيدَ إنتاج حقوقهم السياسية في دوائر ممكناتِه ومحتَمَلاتِه فقط (!!)


أما الثاني وهو ذلك الذي يتعامل مع القضية في إطار السياسة، فإن القانون لا يعنيه على ذلك النحوِ المُبَلْبِل لمسارات القضية، ولا هو يمثل بالنسبة له أيَّ معضلة، ولا يستثيره أو يستوقفه، إلا بالقدر الذي يكون معه قادرا على التكيُّف مع ضرورات خدمة قضيته في إطار مُكَوِّناتها السياسية التي يستحضرها من حُزَم الحقوق التاريخية والإنسانية، وليس من حُزَم الحيثيات القانونية التي أنتجتها سياساتٌ أسبق هي في الأساس معتدية على حقوقه التاريخية والإنسانية (!!)


لذلك فإن من يتعاملون مع القضية من منطلق سياسي، تتشكَّلُ أيديولجيتهم في إطار "المقاومة بكلِّ أشكالها"، استنادا إلى "استخدام السياسة لخلقِ حالةٍ قانونية تنسجم معها"، ما يجعل القانون يدور مع السياسة حيث دارت، ومع مآلات المقاومة إلى حيث آلت (!!)


وفي هذه الحالة نكون بإزاء سياسة، وأمام خيال سياسي، وبين فَكَّي كماشةِ مشروعٍ سياسي، يُحَدِّد إرادتَه فينصاع له القانون، ويفرض رؤيتَه فتخضع له كلُّ مسارات التشريع لتتكيف مع متطلباته، وليس العكس (!!)


أي أن الحق السياسي هو البوصلة، وأيما حقٍّ ولدته القوانين والتشريعات القائمة يفقدُ أيَّ معنى أو قيمة ما لم تعترف به السياسة أصلا (!!)


يبدو الفرق بين الفئتين في نمط التفكير والتعاطي مع القضية واضحا، إذا أدركنا أن الفئة الأولى تشبه مجموعة من الإصلاحيين الذين يكتفون في بلدٍ نخره سوس الفساد والاستبداد والظلم والتخلُّف والفقر والتبعية، بمطالبة القانون القائم رغم أنه الوعاء الذي تمَّ تقنين كلِّ تلك المفاسد والمظالم في حاضنته، بتبني رؤيتهم الإصلاحية (!!)


لتكون النتيجة أنه حتى لو تمَّ التجاوب مع مطالبهم الإصلاحية تلك، فإن مُحَصِّلَة الفعل تكاد تكون صفرا، ولا تتجاوز إعادةَ إنتاج الحالة القائمة مع بعض رتوش الحقوق الهامشية للمتضرِر الشعبي، ومنحها الشرعية القانونية والدستورية بموجب فحوى مطالبات المطالبين بالإصلاح أنفسِهم (!!)


ما يجعل المجموع الشعبي مُقَيَّدا بتلك النتائج لمدة طويلة قادمة (!!)


أما الفئة الثانية فتشبه مجموعة من الثائرين الذين خرجوا على ذلك الواقع الآسن رافضين للقانون وللدستور القائمين، مطالبين بإنتاج حالة قانونية ودستورية جديدة تستجيب لمشروعهم السياسي الذي غدا هو الحَكَم المتحكم في الحالة ككل (!!)


وفي هذه الحالة فإن النتيجة هي تغيير جذري يستأصل الفساد والاستبداد والظلم والفقر والتبعية.. إلخ، ويؤسِس بقانون ودستور جديدين للمناخ الذي يمكن أن يولدَ فيه ويتكامل المشروع السياسي الجديد (!!)


أيها السادة:


لن نكون مبالغين ولا مجانبين للصواب إن قلنا أن القضية الفلسطينية "من جميع حيثياتها" وما آلت إليه في مختلف سياقاتها، هي أشبه بدولة يحكمها نظام من النوع الفاسد المستبد الظالم التبعي المتخلف، الذي لم تعد تنفع معه عمليات الترقيع لإصلاحه، بل هي بحاجة إلى ثورة بكلِّ معنى الكلمة، تعيد إنتاجَها على كلِّ الصعد بدءا بالصعيد الأيديولوجي والفلسفي (!!)


أي أن القضية الفلسطينية في مختلف سياقاتها: "الهوية، الفعل، الجغرافيا، التاريخ، الدلالة، الحركة، التنظيم، الترابطات السياسية، القانون، المقاومة، العلاقة بالمكون القومي، العلاقة بالمكون الإنساني، العلاقة بالمكون الأردني.. إلخ"، هي الآن في حاجة إلى ثوار يعيدون بناءها فكريا وأيديولوجيا على نحوٍ مغاير تماما لكلِّ مُكَوِّنات البناء الذي شهدته وتحركت فيه على مدى العقود الماضية (!!)


وذلك كي تبدأَ من جديد على أساسِ مشروعٍ سياسي جديد، لا يعير أيَّ اهتمام لأيِّ حالة قانونية أو فكرية أو ثقافية أو سياسية قائمة وفي أيٍّ من السياقات المذكورة سابقا، تتعارض مع مكوناته الفكرية والفلسفية، ليبدأ من خلال سيرورته الموضوعية على الأرض بالتأسيس لكلِّ الحالات القانونية المتجاوبة معه (!!)


وإلا فإننا سنضيِّعُ الوقتَ بلا طائل (!!)


لا بل إننا سوف نمنحُ هؤلاء الانبطاحيين في "رام الله" و"عمان"، ولكلِّ أذنابهم وأبواقهم من إقليميي وببغاوات الطرفين، بل ولكل الوظيفيين الإقليميين الذين يستندون في الإمعان في وظيفيتهم إلى ما يمكن للوظيفيتين الفلسطينية والأردنية أن تنجزاه على صعيد القضية الفلسطينية..


نقول.. وإلا فإننا سوف نمنح كل هؤلاء فرصة إعادة إنتاج القضية بشقيها "التغييري" و"التحريري" على نحوٍ يدخلها في متاهات جديدة بشرعية قانونية بائسة، تجعل قدراتنا على التثوير من جديد قدرة مشكوكا فيها على مدى عقدين قادمين (!!)


ألا فنقل بأعلى صوتنا:


إن القداسة للمشروع السياسي الذي يؤسِّس للتغيير والتحرير، وألا قداسة ولا اعتبار ولا أهمية لأيِّ حالة قانونية أو ثقافية أو سياسية لا تَنْتُجُ عن هذا المُقَدَّس الذي لا مقدس سواه في قضيتنا الأم (!!)


ولنبدأ على الفور ببلورة هذا المشروع، وبالعمل على تجسيده برنامجا عمليا على أرض الواقع، قبل أن نصحو من غفوتنا فجأة لنجدَ القطار وقد أصبح في محطة سرقت من عمرنا ومن عمر أجيالنا عقدين قادمين (!!)