تجليات الرؤية حول " بلا عينيك لن أبحر "
د بيومى الشيمى
" بلا عينيك لن أبحر "هو الوليد الشعري الأول الذي يخرج للنور للشاعر الصديق " عاطف الجندي " و قد رأى الوليد النور بعد معاناة كبيرة .. و قبل أن أتحدث عن هذا الوليد ، سألقى بعض الضوء على الأب الذي أمتعنا بقصائده الممتعة .
عاطف الجندي .. شاعر مثابر .. تجول بين الندوات المختلفة و الأمسيات المتباينة ، حتى يستطيع أن يستفيد من القصائد التى يسمعها و ينهل من مناقشة هذه القصائد كما كان يلقى بقصائده و يستمع إلى نقد الآخرين لها ويأخذ ما يصلح لكتاباته.
عاطف الجندى كما عرفته إنسان صافى القلب ، عاطفى النزعة ، يتأثر بالآخرين ، ترتاح النفس إليه ، و تميل إليه رغما عنها ، و هو بسيط وديع ، وعبر عما يشعر به بأسلوب بسيط جميل ، وحين تقترب منه ترى شفافيته التى جادت عليه الحياة بها ، فترى الفرحة تجتاحه حين يجود عليه الزمان و تجده مهموما ، حزن السماء حين يلم به الخطوب ..
و حين فتحت ديوانه الصغير ( بلا عينيك لن أبحر ) وجدته يحتوى على إحدى و عشرين قصيدة ، منها أربع قصائد عمودية هى مناجاة – الا ابنتى – إليك يا أبتى – أحلام العشاق ، و باقى القصائد من شعر التفعيلة .
و الديوان يتجول فى بستان من العاطفة الفياضة و لكن يختلف فيه أربعة أشجار فى النوع و هى : ( لست موسى و اعتراف و القناع و إلى مدمن ) و تتنوع قصائده بين الطول و القصر ، فتصل أطول قصائده إلى 49 سطرًا ، و هى قصيدة ( هاتفٌ من القلب ) بينما تقصر قصيدة سؤال فتصل إلى سبعة أسطر شعرية فقط .و عالم عاطف الجندى فى هذا الديوان يتنوع و يمتزج بالخيال و الواقع ، و قد يكون هذا حال الشاعر بصفة عامة ، و لكن يختص عاطف الجندى بمزجه المزج الجميل بينهما .
و سوف أتجول فى هذا الواقع الخيالى ، أو الخيال الواقعى ، و أنتقي عشوائيا منها بعض القصائد :
فى قصيدة ( للجرح رائحة الوطن 9 يبين الشاعر أن هناك حاجزا كبيرا بينه و بين محبوبته يصعب اجتيازه فيقول :
" بينى و بينك حائط ٌ
صعب التسلق ِ
حائط يزدان بالرتب الكبيرة ِ
و البنادق و السجون "
و يوضح مكونات الحائط و ما يزينه .. و هنا نجد سخرية رقيقة .. يلجأ إليها الشاعر لينفث عن مكنونات نفسه و نجد أيضا امتزاج الشخصى بالعام و الحبيبة بالوطن ، حين يتساءل إلى متى سيظل يقبع فى الخنادق ليحتمى من الغدر
" و إلى متى تأبى العشيرة ُ
باقتران الليل فى هدبيك ِ
بالفجر المتيم فى العيون ْ
و إلى متى ... "
و لكن مازال الأمل موجودا فى صدر الشاعر حين يطل شعاعه من بين الظلام فى قوله :
" ما زال نهر الحلم معطاءً "
و فى قوله .. " و أنا و أنت ِ و حلمنا
نسعى لنخترق الحصار
لتعود شمس العمر تشرق .."
و نجد الشاعر يتأرجح بين الألم و الأمل .. حيث يتحول و يقول :
" القلب أدماه التودد للأقارب
و انتظار العشب .. "
و هكذا نجد أن الشاعر قد مزج فى هذه القصيدة بين العام و الخاص ، بين الحبيبة و الوطن وبين الأمل و الألم ، و لكن نجد أن الشاعر لم يكن بالجرأة التى تمكنه من المواجهة بل يعمل على الاحتماء ، دونما موقف ، بل و يسعى للفرار فنجده يقول :
" سأظل أحفر فى الخنادق ِ
أحتمى غدر الرصاصات الجريئة ِ "
و فى مكان آخر يقول :
" لتعود شمس العمر
تشرق فى شفاه الوجد
ننعم بالفرار
و تحتفى
برجوعنا هذى السنون "
و ينهى قصيدته بتساؤل :
" هل يسكن الفرح العيون ؟ "
أما قصيدة ( سمراء ) هى قصة حب بينه و بين سمرائه 00 و يعلن الشاعر أن قصتهما قد ذاعت و انتشرت حتى أن العصفور جاء يشدو بحسن حبيبته .
و يميل الشاعر فى هذه القصيدة إلى الجمال الطبيعى ، إلى الأزهار التى تفوح عطرا فى حياته
" فلقد رأيت من الزهور ِ
شقاوة ً
النرجس المجنون يهتف للقرنفل ِ
أن يزور حبيبتى
و الأقحوان ُ
يشير فى فرح ٍ شديد ٍ
نحونا
ما عدت أقدر أن أرد الياسمين
عن الهوى "
و قد تعبر هذه المفردات عن الحالة النفسية التى تجتاح الشاعر .. و تتوغل داخله ، حتى أنه يتمنى أن يكون ملامسًا لجيد حبيبته ، ليرقب حبيبته ذات الوجه الصبوح
" يا ليتنى
قد كنت قرطا
كى أراقب َ
وجهك المسكون بالضوء النبيلْ
أو كنت عقدًا "
بل أنه يتمنى أن يكون جزءًا من هذا الجسد ، لا يخرج منه
" يا ليتنى
قد كنت وشما
فى ذراعك
يستحيل له خروج "
و حين يخرج إلى قصيدة ( لست موسى ) نجد الحس الدينى يقبع فى أعماق الشاعر .. و نرى أن الشاعر قد سار فى طريق الوهم مع دجال و أنه قد عاد إلى رشده و أفاق من غيبوبته
" يا صاحبى
مل الطريق ُ فقف بنا
هذى نهايتنا معا
ما عاد يجدى
السير نحو التيه ِ "
بل طالب دجاله أن يأخذ عدة النصب و يرحل تلك العصا التى ليست عصا موسى 00
" ارحل
خذ عصاك َ
فلست موسى "
و نجد الشاعر يصر على رحيله ، و يبين له أن ما يفعله لن يجدى
" يا صاحبى
كل الشواهد و المزارات القديمة ِ
ترتجيك لكى تسافر ْ
ارحل بذلك َ
هذه الأصنام
يوما قد تفيق "
بل ينهى الشاعر القصيدة بقوله :
" يا سيدى الدجال
هيا
لست من نرجوه فى هذى القبيلة "
بعد أن ناداه مرتين بالنداء يا صاحبى.. و لكن هذه المرة يناديه بالدجال .. و قد يكون محقا فى ندائه بكلمة سيدى .. لأنه قد ساده فترة من الوقت و قاده بزعم أن يوصله إلى غرصه .. و لكنه ليس من نرجوه هذه القبيلة .
و من أجمل ما قرأت فى هذا الديوان قصيدة ( اعتراف ) و بالرغم من عنوان القصيدة الذى يؤكد أن ما كتب تحته هو إقرار إلا أنه بدأ قصيدته بالشك حيث يقول :
" قد أعترفْ
رغم الدلائل أننى
لست الخرفْ
أنى الخرفْ "
و حين تدخل قد على الفعل المضارع فإنها تفيد الشك ، عكس دخولها على الفعل الماضى الذى يفيد التأكيد و نجد أيضًا أنه يناقض نفسه حين قال :
" لست الخرف
إنى الخرف ْ
و بأننى صوت ٌ نشاز ٌ
فى الفريق "
فالسطر الأول يؤكد كونه ليس خرفا .. و ما يليه من سطور يؤكد أنه خرف ( إنى الخرف ) و إن تفيد التوكيد .. فكيف ؟
و لكن يتضح من القصيدة أنه متردد بين الاعتراف و عدم الاعتراف .. و يبين أنه تعب أى صديقه و يخاطبه بقوله :
" يا أيها الجسد الذى
أعياه طول النوم ِ
و التلفيق و التعليق
فى صمت الجدار "
هكذا يبين لنا الشاعر سبب عدم اعترافه ، بل يجب على صديقه الاعتراف بأنه هو الخرف و أنه قد أعياه طول النوم و ما يتم حوله من تلفيق ، و يتسائل:
" هل يا ترى يوما تفيق
و ترتدى ثوب البراءة "
و يطلب من صاحبه الذى يناديه فى القصيدة بالاعتراف فيقول له :
" ما عاد يجديك َ
انتظار الحلم ِ
قد آن النهار
هيا اعترف
يا صاحبى أنت الخرف "
و فى قصيدة ( إلا ابنتى ) تتضح هنا العاطفة الأبوية التى تجتاح الوالد حين يرى أن ابنته قد تعرضت للأذى ، فيتحدث إلى تلك البعوضة الشرسة:
" إنى رأيتك تلدغين صغيرتى
يا ويح قلبى
من أليم اللوعة ِ "
هكذا قلب الأب الذى يتألم من لدغة باعوضة لابنته و يكرر نفس الكلام ليؤكد ألمه ..
و جرح قلبه لذلك
" إنى رأيتك تثقبين جبينها
و القلب يدمى
من أليم اللوعة "
و يصل الحد إلى سؤالها مستنكرًا ما فعلته مع طفلته
" أوليس عندك طفلة ٌ
تخشى بأن تلقى
مصير اللدغ ِ
مثل بنيتى ؟! "
و يسترسل فى الحديث مع هذه الحشرة و يبين مدى البشاعة التى حدثت:
" ووقفت تغتصبين نبع وريدها
الا ابنتى
لا تقربى من مهدها "
و يحذرها هى و بنات جنسها
" فحاذرى
إنى منعتك من دخول الحجرة ِ
قولى لجنسك إننى متحفز ٌ
من رام عيشًا
لا يجول بشقتى
إلا ابنتى "
و هكذا يعبر شاعرنا عن حب الشاعر لأولاده و خوفه عليهم من خلال هذه القصيدة .
أما قصيدة ( هاتف من القلب ) و هى أطول قصائد المجموعة الشعرية ، و هى قصة حالمة هاتفية رقيقة بين الشاعر و محبوبته .. و يصور مدى رقة صوتها و جميل كلماتها :
و فى أسلاك هاتفنا
يجىء البنع فياضًا
و يحمل فى ثناياه
عبيرًا ، لؤلؤًا ، شمسًا
و أقمارًا ملونة ً "
هذه هى كلماتها ، عبير حلو الشمائل ، لؤلؤًا لامعًا براقا ، شمسًا واضحة ً، بل و أقمارًا ملونة ً 00 و هنا نجد الشاعر أضاف التلوين على الأقمار بسبب فرحته بهذه المكالمة 00 بل و يزيد فيقول :
" فما أشهى
بأن يأتى زمان ٌ
كله شعر ٌ
و قلب ٌ صار أغنية ً "
و هكذا يبوح لنا الشاعر بما تم بينه و بين حبيبته و يبين لنا أنها تطمئنه .. و أن الحب جميل و لا يعذب صاحبه
" تقول العشق َ
يا رجلا ً
يعذبنى
أما يكفى بأن الحب هدهدنا
و طيرنا كعصفورين ِ
فى روض ؟
هكذا يبين لنا الشاعر أن المحبين طائران يحلقان لا يشعران إلا بذلك الحب الذى يعيشان فيه و لكنه يبين أن الحب بالرغم من ذلك يكوى صاحبه .. و أن ضعفه خوف فقط ..
" أقول الحق يا قلبى
أذوب و اكتوى نارا
و أنسج حولها شعرا
و أرسم قلبها دارا
أموت بثغرها عشقا
فما ضعفى هنا سفه ٌ
و لا موتى رأى عارا "
و مع ترحالى أصل إلى القصيدة التى آثر الشاعر أن يكون عنوانها هو عنوان ديوانه ( بلا عينيك ِ لن أبحر ) و فى هذه القصيدة يذكر الشاعر حبيبته بأيام الصبا فيقول :
" حبيبي هل رأى طفلا ً
لها بالأمس ِ بالسكر ؟!
و أشعل فى الهوى نارًا
و عانق قطعة المرمر "
و يذكرها بالذى مضى
" كما كنا هنا نلهو
و أمسك شعرك الأشقر
و أجرى خلف هرَّتك ِ
و أجذب ذيلها الأصفر "
يذكرها باللهو البرىء الذى كان بينهما ، و جريه وراءها و إمساكها من شعرها ذى اللون الأشقر ، وجريه وراء قطتها و شده لذيلها و لكن أعتقد أن الشاعر قد أتى بكلمة الأصفر فقط لاضطراره لهذا حتى تتزن قافيته .
و ما ذكره الشاعر ما هو إلا مقدمة لمطلبه الذى يتضح بعد ذلك .. يريد حنانها .. يريد دلالها معه فيقول :
" حياتى لم أزل طفلا ً
أحن إليك ِ لم أنكر ْ
و لن تجدى انفعالاتى
على قيدى لكى يكسر ْ
فإنى عاشق ضعفى
بلا عينيك ِ ، لن أبحر "
و هكذا يبين لنا الشاعر الحوار الذي حدث بينهما و يدعوها فى النهاية أن يزرعا سويًا حبهما
" تعالي نحو لجتنا
بلا عينيك ِ
لن بحر "
و هكذا سرت بين مفردات ديوان شاعرنا ، و تعرفت على ملامحها ، و استطعمت بحلاوتها و فرحت بكل ضحكة فيها .. و نهلت من درَّاتها الجميلة و لكننى أود أن أبوح ببعض المثالب البسيطة التى يستطيع عاطف الجندى أن يتجاوزها ببساطة .
أولا : عنوان القصيـــدة الأولى ( للجرح رائحة الوطن ) لا يتفق مع مضــــــمونها ، و كذلك ( سمراء ) و بالتالى فمن الأصوب أن يكون اسمها سمراء
ثانيا : هناك بعض الأخطاء الإملائية التى وقع فيها نتيجة عدم المراجعة و لكن كان يجب أن أشير إليها.
ثالثا : فى قصيدة شاعر ص 75 أرى أنه يمكن حذف السطور من 5-7 التى يقول فيها :
" و لم أرفع هنا المنصوب َ
و المجرور لم أرفع
و لم أبغى على حق ٍ ل( كان ) "
و هذا لأن الشاعر هذا دأبه دائمًا ، و لا يجب أن يصرح بهذا لأن هذا قد يعنى أن الشاعر خطَّاء و لا يسعى إلى جبر أخطائه .
و إننى أرى أن شاعرنا قد خطا خطوات لا بأس بها على درب الشعر ، و أصبح له عالمه المنسجم و المتسق و الذى يعبر عن ذاته و عن كل ما يجول بخاطره و يرسم ذلك على ورق ٍ من لهيب ، ليشعرنا بلسعات الألم ، و ما يكابده فنكاد نقاسي معه ، أو ينثره وريقات من ورد لنفرح معه ، و له .
فمرحى بعاطف الجندى و أهلا ً به ضمن الأسرة الشعرية فى مصر .. و أمنياتى بأن أرى ديوانه الثانى قريبًا