منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3

العرض المتطور

  1. #1

    بين قدسية الفكرة وهبوط الاسلوب

    بين
    قدسية الفكرة
    وهبوط الأسلوب

    وباء النقد ، كلمتان بسيطتان ، تعبران عن نفسية الإنسان العربي والمسلم ، العادي والمثقف ، على حد سواء ، وما الاستثناءات سوى خيط صغير قصير ، يمر في الشخصية العربية مرور مُذنَبِ يمر بالكون دون أن يلحظه إلا بعضا من عيون تصاب بعدها بالرمد .

    ذلك لأننا امة ما زالت تعتنق الفكرة السامية ، اعتناق الإبل لمساحات الصحراء ، لكن الإبل ، تمر بالصحراء فتترك فيها أثرا يعرفه التاريخ ، أما نحن فنعتنق الفكرة ، بحماس سلبي ، يقودنا نحو التمحور والتقوقع والتجمد على عين الفكرة وسموها ، دون أن نملك الأدوات والقدرات التي من شانها أن تصنع من الفكرة السامية واقعا متسقا بالجمال والروعة ، بل نزيد على ذلك بالتأثير السلبي على نقاوة الفكرة ، إلى حد تبدو مهلهلة بالية ، بل وممجوجة إلى حد ما .

    والسبب البين الواضح ، من خلال التجوال بين الكتب والرائي والمذياع ، وبصورة اخص ، المواقع والمنتديات المنتشرة على الشبكة العنكبوتية .

    فالكتابة عن الوطن ، أو الشهداء ، تعتبر من الأفكار السامية ، لكنها بالضرورة ، وبالمنطق ، وبالجبر والكره ، تحتاج إلى أسلوب يستطيع أن يرتفع إلى مستواها ، وان يجلو حقائقها ودواخلها ، جلاء المتمكن القادر ، على أن يجمع بين سموها وبين الأسلوب الذي يرتقي إلى ذاك السمو ببراعة العقل والأسلوب .

    فما بالك إذا كانت الفكرة مقدسة ، بل هي الفكرة المقدسة الوحيدة التي نملك كعرب وكمسلمين ، وهي الرسالة السماوية وكل ما يتعلق بها من عبادات وأصول وأحكام ، وما يتعلق بأهلها الذين سبقونا وضخوا دماءهم وعرقهم وإيمانهم وعلمهم ومعرفتهم بكل حناياها ، لتنمو وتكبر وتمتد ، لتصبح الصورة المشرقة والوحيدة التي نملك خاصية التباهي بها ، رغم الهوان والضعف الذي يحيط بنا من كل جانب .

    نحن ما زلنا ، لا نعرف شيئا عن اللغة والحروف التي تتحدث عن الأسلوب ، بل نرى بالفكرة السامية المقدسة ، الهدف والأسلوب ، دون أن نمتلك أدوات التفكيك والتمحيص ، التي من شأنها أن تجعل الفكرة والأسلوب جوهرا خالصا لا يمكن الفصل بينه من حيث الإبداع والرقي المصاغ بعمل أدبي أو عمل فكري .

    وما زلنا نقيم للعلاقات الشخصية والمهنية مقاما حين نود أن نتناول عملا بالنقد والتحليل ، لتمتزج العلاقات بالفكرة المقدسة ، وبالكرم العربي الذي ندعيه ، حتى يتحول النقد إلى مجموعة من الجمل المجاملة الخجولة ، وربما تصل إلى حد التغني والاستفاضة بالتمجيد ، من اجل هذه العلاقة ، وتلك الفكرة المقدسة ، علما بان الموضوع المطروح لا يساوي في فنية الأدب واحترافه سوى محاولة يمكن أن يحاولها أي طفل طموح ، أو أي طالب في المدرسة الإعدادية أو الثانوية ، يود أن يستعطف محبوبته ومعشوقته ، بطريقة الأدب والبيان .

    واعتراضا – وقبل الاسترسال بالموضوع – أود أن اذكر حادثتين مهمتين بتاريخ الأدب الروسي ، حتى أستطيع من خلالهما الدخول بالموضوع الذي أود انبش أعماقه بنوع من الإسهاب والتفصيل .

    الحادثة الأولى ، أن أنطون تشيخوف ، وتوليستوي ، قررا الانسحاب من رابطة الكتاب الروس احتجاجا على القرار الذي صدر من الرابطة بمنع الكاتب مكسيم غوركي من الالتحاق بها ، بحجة انه لا يحمل شهادات أكاديمية تؤهله لدخول الرابطة .

    وقامت الدنيا ، وكثرت الحوارات والمشادات ، لكن الأدباء الذين التحقوا بركب تشيخوف وتوليستوي رفضوا وبشكل قاطع ، أن يعودوا إلى الرابطة ما لم يتغير القانون الذي يمنع غوركي من الالتحاق بها ككاتب يستحق أن تحترمه بلده ، ويستحق أن يكون ضمن الذين امتلكوا الإبداع الذي يؤهله للوصول إلى المرتبة التي تتناسب مع قدرته وإبداعه .

    وفعلا ، تم صياغة دستور الرابطة من جديد ، وعاد أنطون وتوليستوي وغوركي إلى الرابطة ، عادوا بعد أن نجحوا في فرض رؤيتهم الإبداعية على قانون النشر والكتابة والرابطة ، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة تعتمد الإبداع ولا تعتمد الشهادة .

    واستطاعوا بزمن مبكر جدا ، أن يرسوا مفهوم النقد الإبداعي ، محل النقد القائم على المركز والعلاقة والشهادة .

    الحادثة الثانية : زارت مجموعة من دور النشر المتخصصة في روسيا فلسطين يوما ، وحين التقينا بهم سألتهم سؤالا طالما تمنيت أن أساله ، لماذا تأتي الرواية الروسية بكل هذا العلو والسموق ، إلى حد أنها أصبحت الرواية الأولى في العالم ، من حيث غزارة الإنتاج وطول النفس ، والقدرة الفذة على معالجة الأفكار والقضايا التي يعجز العالم عن معالجتها بنفس الطريقة ؟

    كانت الإجابة متفرعة إلى أكثر من جانب ، لكن الجانب الذي يهمني توثيقه ، أنهم قالوا : نحن لا نضع مقاييس للراوي وشخصه ، فلا يهمنا إن كان الراوي فلانا أم فلان ، وإنما تهمنا الرواية بما تملك من أسلوب وفكرة ، وبما تملك من قدرة على وصف الناس والأفكار والأحداث بطريقة تتناغم مع العمق والمتانة ، فان أتانا كاتب مشهور ، ووضع بين أيدينا رواية ، واتانا كاتب مغمور أو مبتدئ ووضع بين أيدينا رواية ، فإننا نقرأ هذه وهذه ، ونختار الرواية الناجحة ولو كانت للمغمور والمبتدئ ، ونرد الرواية الأخرى وان كان كاتبها من أعلام الأدب الروسي .

    قد يكون بهذا نوعا من المبالغة ، لكن الرواية الروسية ، والصادرة عن دور النشر المعروفة تشهد بذلك .

    أما نحن العرب والمسلمون ، فلنا فلسفة تختلف عن ذلك تماما ، نحن نكتب وفق إرادة الأنظمة والأحزاب والحركات ، ونبتغي التمجيد والتطبيل والتزمير لكل تلك المكونات ، مدفوعين بالجهل أحيانا ، وبالعمى أحيانا أخرى ، وبالمصلحة الشخصية والذاتية في أحايين كثيرة .

    وان تركنا كل ذلك ، فإننا ننساق نحو فكرة القداسة ، خوفا ؟ ربما ! ضعفا ؟ هذا يقيني .

    ولنرجع قليلا إلى الماضي ، لنفتح صفحات بعض الناس ، الذين أثروا بالفكر والأدب ، لنراهم وهم يلجون مساحات من التاريخ ، وبعد أن رحلوا كيف وضعناهم نحن في مرتبة من القدسية التي تحرم على الأقلام الوصول إليها بمبضع النقد والتحليل ، ولو كانوا هم أحياء ، ربما لقبلوا النقد الذي لم نقبله نحن الآن عنهم .

    لنأخذ مثلا المتنبي ، فنحن ومنذ الطفولة ، درسنا بان المتنبي شاعر العرب ، الذي لم يترك زائدا لمستزيد ، وكأن فن الشعر وقف عند عتباته وتاريخه ، وهذا أول عيب نقدي تعلمناه وحملناه ، فالمتنبي شاعر ، لكنه لم يكن ولن يكون آخر الشعراء ، وإذا لم نتنبه للبارودي فليس هذا من شأن التاريخ ، بل من شأن النقاد الذين وقفوا عند لحظة زمنية معينة ، وأرادوا منا أن نقف عندها .

    ولست هنا للخوض بشاعرية المتنبي أو البارودي وأيهما أفضل ، لان لكل منهم شاعريته التي نبتت في زمنه ، وعليها يمكن أن يدار النقد ويوجه ، لكن دون وضع السد الزمني الخاص بالمتنبي والذي ارسي بعقولنا رغما عنا .

    ولكني بصدد التعرض لهاجس الشعر والشخصية التي حاول النقاد التعامل معها بصورة تثير الشفقة والغثيان بنفس الآن ، وهي الطريقة التي لقنا بها بان المتنبي ، كان وسيبقى سيد الشعر العربي ، دون أن نلقن حتى تلقينا ، بان المتنبي لا يستحق الاحترام أو التقدير .

    لم يعلمونا أبدا وبتفصيل نفسي ونقدي ، بان المتنبي كان كذابا ودعيا ، بل وكان يعرض روحه ونفسه وشعره لمن يدفع أكثر ، قالوا لنا بأنه طالب جاه أو إمارة ، وأردفوا انه من أصحاب الهمم العالية .

    ولكنهم لم يتنبهوا ، ولم يودوا التنبه ، بان الهمم العالية لا تعرف التسول والاستجداء والكذب والتدليس ، ماذا نسمي من كان يتنقل من أمير إلى أمير بالمدح حتى يحصل على الإمارة أو المال ؟ ماذا يمكننا أن نسميه بغير الكذاب ، الذي يصوغ مشاعره وكلماته دون قناعة بهذا الأمير أو ذاك ، بل بقناعة الجاه والمال الموصول بهذا الأمير أو ذاك ؟

    حتى حادثة مقتله ، والتي تدل على غباء ممزوج بالعصبية والتعالي ، صوروها لنا على أنها نوعا من أنواع البطولة التي لا تتكرر في حياة الشعراء ، ولو قدر لدارس نزيه وناقد جريء أن يقف أمام شخص المتنبي وحياته وتقلباته النفسية والفكرية ، لوجدنا من يقول لنا بان المتنبي كان ارخص كثيرا من أن يرفع إلى هذا المقام ، ولشرح لنا ، بعمق وإدراك ، معنى الأبيات التي استطاع المتنبي أن يصوغها مدحا وكذبا وراء غايته ومطمعه ، وليس صدقا وراء دخيلته .

    الهمم العالية أيها العرب ، لا يصنعها الكذب ، ولا يصنعها المدح ، بل تصنعها الأفعال التي تقترن بالبطولة .

    ليس عليكم حرج أن تعترفوا للمتنبي بمقدرته الشعرية ، ولكن عليكم كل الحرج ألا تقفوا أمام غاياته من الشعر والمدح لتكشفوا مدى دناءته وتردي أخلاقه ، مدى انفصاله عما قال من حكم وأمثال ، عليكم حرج شديد أن تعلمونا بان الهمم العالية ، إنما يصنعها من يحسنوا الانحناء للمبدأ الذي تهون في سبيله الأرواح والأمنيات والمطالب . ولا يحسنوا الانحناء للرغبات والنزوات والأطماع الذاتية .

    لكنها قدسية المتوارث ، وعدم الجرأة على مواجهة الأشخاص الذين أردنا أن نراهم كما نريد .

    فإذا ما انتقلنا من قدسية الأدب إلى قدسية الدين ، وهي قدسية ذات علائق وأبعاد معقدة ، يمكن الحذر بالتعامل معها ، ولكن لا يمكن إهمال نقدها وتعرية باطلها .

    فالقصيدة التي تكتب مدحا للرسول الكريم – عليه الصلاة السلام – هي قصيدة عصماء ، رائعة ، فقط لأنها تحمل فكرة مقدسة منزهة عن النقد ، وحتى لو تعامل معها البعض بالنقد ، فانه يتعامل معها بطريقة خجلى ، علما بان القول ، بان القصيدة لا تساوي أي قيمة أدبية ولا تحمل أي نفس شعري لن تضير الناقد ، والناقد ليس مضطرا حين يتناول القصيدة أن يقول تجنبا للشبهات " بان الفكرة سامية ولكن الأسلوب ضعيف بعض الشيء " .

    نعم ، الناقد ليس مضطرا لهذا ، لكنه مضطر إلى تبيان الخلل والخطأ والضعف في البناء الهيكلي للقصيدة ، بكلمات واضحة وصريحة ، تحمل مدلولات كاملة البيان والتبيين لمواقع الخلل والضعف ، دون أن تحمل كلماته النقدية أي نوع من أنواع المجاملة ، لان النقد الخائف المرتجف ، المجامل ، هو أحق بالانضمام إلى شخص المتنبي وما مثله من بعد بين ما قال وما كان عليه في الحقيقة .

    نحن نريد نقدا مؤسسا على الصراحة والتجرد ، على تسمية الأشياء بمسمياتها ، لا يخاف ولا يتردد ، يوغل في الصراحة واستخدام الألفاظ المخبرية النقدية ، ولا يتورع أمام أي شخصية مهما بلغ صيتها وشأوها في العالم الإسلامي والعقل الإسلامي .

    نريد من يخرج ليقول وبملء فمه ، بان سيد قطب كان أديبا من المرتبة الثالثة في عصره ، نريد من يقول بان الظلال ليس تفسيرا للقرآن ، وان سيد قطب كان اقل علما ومقدرة ، من تفسير القرآن ، وإنما هو نقل لأقوال العلماء والمفسرين ، ووصفا للحالة الشعورية التي عاشها سيد قطب مع القرآن في السجن .

    نريد من يأتي ليقول بان حسن البنا – رحمه الله – كان رجل تنظيم ولم يكن رجل علم ، كان قادرا في مجاله وكان عاجزا في المجال الآخر ، ولا نريد أن نقرأ كتابا عنوانه " القائد الملهم حسن البنا " نريد أن نعرف قدراته بعيدا عن الإلهام ، القدرات الإنسانية التي منحها الله له ، وليس الإلهام الذي صيغ حول شخصه بعد وفاته .

    نريد من يأتي ليقول لنا وبعين الناقد الخبير ، إن كتب فتحي يكن تصلح للمرحلة الإعدادية ، وان فتحي ليس بعالم إسلامي ، أو مفكر عربي ، بل هو رجل بسيط ، ذو قدرات محدودة ، نريد من يدرسه بعيدا عن جماعة الإخوان التي عودتنا وعودت الفكر العربي بتغذيتنا بمصطلحات كبيرة تتناسب مع الولاء للحركة ، ولا تتناسب مع الولاء للفكر.

    وحين يقول ذلك ، على العقل الإسلامي أن يفهم وببساطة وعفوية بان الناقد لا يمس ولا يتدخل بشخصية سيد قطب أو حسن البنا ، وإنما يقف أمام أعمالهم بما يملك من أدوات تخصه ، وبما يملك من جرأة تستطيع أن تنزع هالة القدسية عن العمل ، ليستطيع أن يخرج لنا بقول فصل ، يمنحنا القدرة على تفادي الأخطاء والضعف ، لنستطيع أن نؤسس عقلا واعيا قادرا على التأثير بمجريات الحياة .

    ولماذا علينا أن نخاف أن نعلن وبوضوح ، بان عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد وأصحاب المعلقات أقوى وأكثر قدرة في الشعر من حسان بن ثابت وقيس بن الأسلت ؟

    لماذا علينا أن نخاف من ذلك ، وكل أدوات الأدب القديم والحديث ، وكل أدوات النقد القديم والحديث تقول ذلك ؟

    لحسان بن ثابت منزلة دينية نرضاها ونرتضيها ، لكنه لا يملك من غزارة الشعر وفحولته ما يملكه الآخرون .

    للإمام الشافعي – رضي الله عنه - منزلته في الفقه ، وضعته بين الأئمة الأربعة ، لكنه لا يملك من فن الشعر ما امتلك ابن الرومي أو غيره من الشعراء ، وليس علينا حرج إن قلنا أو ادعينا ذلك ، وليس من الوفاء للشافعي أن نضعه في مكانة لم يضع نفسه فيها .

    ولو أردت الاسترسال بالموضوع لذكرت أشياء عن علماء ، كتبوا في التفسير والفقه موسوعات ، لكنهم خلطوا بين أشياء وأشياء ، ولكني أود تجاوز ذلك ، لأدخل إلى معطيات العصر الأكثر حداثة ، الرائي والمذياع والشبكة العنكبوتية .

    فالرائي يتحفنا بمجموعة من الدعاة المعاصرين ، الذين لا هم لهم سوى الصراخ واستحضار التاريخ القديم ، استدرارا لمشاعر المشاهدين والمشاركين ، حتى تهمي الدموع من المآقي ، وحتى نشحن بشحنة عاطفية مؤقتة ، ينهيها مشهد عراقي أو فلسطيني أو لبناني أو سوداني ، لنعود نشعر بالغصة والهوان والانطواء والضعف .

    وليس هناك من يهتم – دعاة وعلماء – بمحاولة إيجاد طريقة مخاطبة بديلة تستنهض العقل وتدفعه نحو التحرر من سلاسل الهوان والضعف ، بل ليس هناك من يجرؤ على وضع خطة للتعامل مع العقل المسلم ، بطريقة تحثه على الإبداع والتطوير ، على الخلق وقوة الشخصية والإرادة ، على إنشاء جيل واثق مما بين يديه من قدرات ، بنفس ما نملك من ثقة الأمم التي خلت .

    وحتى المكتبة الإسلامية ، لم تقم ومنذ سنوات طويلة طويلة بإنتاج كتابا واحدا بعيدا عن النسخ واللصق ، بل هي مكتبة تجتر الماضي بطريقة مؤذية للعقل والشعور .

    فكم من ألف كتاب كتب عن الصلاة والوضوء ، وكم من ألف كتاب كتب عن الزكاة والصيام ، وكلها كتب تأخذ مما قاله العلماء السابقون ، لتقوم بالتنضيد والتوثيق لأرقام الصفحات وأسماء الموسوعات .

    العالم الإسلامي يعرف الزكاة والحج والصيام ، فان جد جديد ، وأضافت علوم العصر كشفا ما ، فليضاف إلى موسوعة الزكاة أو الصلاة أو الحج أو العمرة ، أما من اجل أن نضيف سطرا أو فقرة ، نعود لننسخ آلاف الصفحات ، فآلاف الصفحات ، فهذا ما لا يقبله عقل ويأباه المنطق .

    وحتى الأدباء ما زالوا يقفون على أعتاب الجاحظ والإمام الفاضل وطوق الحمامة ، دون أن يقفوا أمام إبداعات العصر ، وربما لان العصر الحالي ما زال يحمل عقدة النقص والتقزم أمام الأجيال الماضية .

    الجاحظ مات ، شبع موتا ، وكذلك ابن حزم والإمام الفاضل ، وابن خلدون أصبحت عظامه مكاحل ، لهم علينا حق الاحتفاظ بذكراهم كتراث قابل للاستفادة منه ، ولكن لنا على أنفسنا أن نباهي بما نملك نحن ، أو على اقل تقدير ، بما يجب أن نملك اليوم .

    أما أن نعيش ونحن نستدعي الماضي في كل آن ، فهذا عين العجز والاستكانة والتخلف .

    أما الشبكة العنكبوتية ، والتي تعتبر الآن اشد الأسلحة وأكثرها فتكا ، فحدث ولا حرج ، فهي تغص بتفاهات تأباها التفاهة ، وتدخل في دورة تدمير العقل والشعور بكل ما تملك من طاقة ، مسحوبة بالربح ، والمجاملة ، وانحطاط الذوق ، ومغرقة بالخلط بين قدسية الفكرة وهبوط الأسلوب .

    فمراقبة بسيطة لموقع ما ، تجد الادراة تجامل نفسها بالنقد الخالي من النقد ، بل النقد الخالي من أي مضمون ، فهي تتابع عمل هذا الزميل وذاك ، بعين الحراسة الدائمة الساهرة ، وبنقد متبوع بنقد ، وتأطير يخلفه تأطير ، وحين تلج بحاستك الأدبية إلى المكتوب ، ينتابك شعور التقزز ، بل وتصل إلى حالة الاستفراغ من هبوط الأسلوب ، وأحيانا من هبوط الفكرة والأسلوب ، ويصل بك الأمر أن تستفرغ للبحث عن الفكرة أو الأسلوب .

    وفي جانب آخر يأتي احد " الكتاب " بمقطوعة تحمل فكرة مقدسة ، كالصيام ، أو الصلاة ، أو البكاء من خشية الله جل شانه ، يأتي ليحيط الفكرة بمجموعة من الكلمات التي تغل الجمال ، وتقمع الذوق ، وتحط من قيمة الأدب ، لكنها الفكرة ، التي تدفع البعض جهلا ، والبعض خوفا ، والبعض تقربا ، أن يحمل قلمه ويبدأ يستخلص من المقطوعة دلالات وأوجه ، لا تمت لا للفكرة ولا للأسلوب بأية صلة ، إلا صلة المجاملة والجهل ، مهما كان اسم الناقد أو بصورة اصح صاحب الرد ومهما كانت مكانته الأكاديمية التي يذيل بها توقيعه .

    يخطئ من يظن بان المواقع والمنتديات وجدت لنهضة العقل ، ما لم تثبت تلك المواقع والمنتديات قدرتها على إيجاد خطة تقود نحو الإبداع والتميز ، بعيدا عن الاستبداد والتقوقع بأصداف الماضي وعدد الأفراد .

    وعليها أن تدرك بأنها لا تملك أمانة قداسة الفكرة ، بل يجب أن تمتلك أمانة أنصاف مفهوم الإبداع الآتي من قداسة الخلق والتأثير بحاضر الأمة ومستقبلها ، وعلى مشرفيها أن يقفوا أمام الحقيقة بجرأة تفوق جرأتهم بحذف المقالة والاعتذار عن الحذف بطريقة أهل السياسة والديبلوماسية ، فان كان ولا بد من الحذف ، فلتحذف الكتابات العاجزة الزاحفة على تراب التخلف والانحطاط ، أو لتنشأ لتلك الكتابات أقسام يمكن من خلالها تطوير إمكاناتهم ، إن كان بالإمكان تطويرها .

    عليها وعلينا ، أن نقف لنحاول أن نؤسس لمدرسة نقدية ، جريئة ، منصفة ، تحمل أمانة الإنصاف لقداسة الرسالة التي نحملها أو ندعي بأننا نحملها ، دون الأخذ بفكرة القداسة من مرض ورثناه وقد نورثه للأجيال القادمة .

    علينا أن نعرف بان الفكرة والأسلوب صنوان لا ينفصلان ، فلا قداسة الفكرة تشفع للأسلوب ، ولا فنية الأسلوب تشفع لرداءة الفكرة ، وبين الأمر هناك طاقات ومقامات ، لأصحاب القلم ، لا حرج من تصنيفها والاهتمام بها وفق معطيات الإبداع والتميز .

    وفي النهاية أود أن أسجل حادثتين ، الأولى ، حين كتبت تعليقا على إحدى الاقصوصات بموقع ما ، قلت فيها للكاتب ما معناه ، بأنه لم يملك الأدوات الفنية للأقصوصة ، وان طالبا ما بمرحلة ما يستطيع أن يكتب مثلها .

    " القاص " أصيب بالغضب ، فقام بنسخ الردود الموسومة على الأقصوصة وساقها لي كدليل على قدرته في الكتابة ، رددت عليه بأنهم يملكون الحق بقول ذلك ، ولكن ذلك لا يعني أبدا باني غيرت رأيي عن كونه هاويا في فن الأقصوصة ، بل وأدركت أيضا بأنه لضعف في ذاته وشخصه ، تحدث بصيغة الغاضب المجروح .

    الثانية : أنني كتبت تعليقا على" قصة قصيرة " قلت لكاتبها بان الفكرة كانت تحتاج إلى أسلوب وصفي يرتقي بالمشاعر ، فرد علي ببريد خاص ، متهما اللغة العربية بالعجز عن القدرة في توظيف الشعور ، طبعا ليس بمثل ما اكتب ، بل بأسلوب صبياني مبتذل ، علما – وللحقيقة المطلقة – بان ما كتب " كقصة " لا يقبل كموضوع إنشاء للمرحلة الاعداية الأولى .

    نحن لا نعرف عن النقد سوى المديح ، رحم الله غالي شكري وحسين مروه ومحمد النويهي والعقاد ، أولئك الجنود الذين وقفوا ليخرجوا العقل العربي من تأزمه وتجمده ، فوفقوا في أفراد ، وفشلوا بأمم .


    مأمون احمد مصطفى
    فلسطين – مخيم طول كرم
    النرويج – 27- 9- 2007

  2. #2
    بالنسبة للنقد استاذنا الكريم انت محق تماما وكثير من الكتاب من لا يتقبل نقدا صريحا اما عن حرية الكتابه فهناك خطوطا وحدودا صدقني من الصعب تجاوزها عبر مسار حياتي صعب وشائك
    مرور سريع
    ابو فراس

  3. #3
    مشكور اخي على هذا المقال
    وأضم صوتي لصوت أبو فراس واوافقه الرأي

المواضيع المتشابهه

  1. شذرات تلخيصية من كتاب/علم الاسلوب
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان اللغة العربية
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 01-29-2016, 01:47 PM
  2. الفكرة السائدة
    بواسطة محمد حبش في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-04-2015, 04:17 PM
  3. فما الحمكة أنها لم ترد على هذا الاسلوب في آية الكرسي ؟
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان التصويب
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-01-2014, 02:46 AM
  4. كتاب/الاسلوب الاقوى والالطف في التغيير
    بواسطة أ.محمود دوامنة في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-07-2011, 04:36 AM
  5. بلاد الشام ... بين قدسية الأرض وأسباب النصر
    بواسطة القبطان في المنتدى فرسان العام
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 01-24-2008, 02:45 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •