قصة قصيرة: (1) مائدة المفترسين !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
كان يوما حالك السواد ، حمل الرقم المشئوم 10 حزيران ، علاه نعيق الغربان ونعيبها ، ولفه تراب حجب الرؤية وسط فوضوية تزاحم العجلات والبشر والحيوانات ، وكأن لسان حالهم يقول "يوم لا ينفع مال ولا بنون....!".
كما كان أشبه بيوم المعشر! علا صوت موحد أوحد واحد فقط.... "الهروب نحو المجهول"..... لا أحد يعرف السبب وهم يهرولون.... تركوا القدور وهي تسخن فوق النار ، وأبواب منازلهم مشرعة ، وحيواناتهم تصارع الجوع بلا رحمة ، وأطفالهم الرضع بلا حليب ولا حفاظات...تفككت الأسر بين رمشة عين وانتباهتها . الغموض والرعب عملتان لوجه واحد يدعى الإرهاب !
فوضوا أمرهم إلى الله ، وتجرعوا مرارة المصاب الجلل ، مخدرين أنفسهم بالتعاويذ والتراتيل الدينية ، شعروا وكأنهم يساقون كالدواب نحو حتفهم دون سابق إنذار ودون التفوه بكلمة "لا" . عزلت النسوة والبنات والأطفال في قطاع تمهيدا لإنزال العقاب المزاجي بهم دون وازع أو ضمير ، فيما سيق الرجال والفتيان إلى حفر قضوا فيها بلمح البصر . لا خيار أمام الصغير والكبير سوى النطق بكلمة "نعم". رضوا بهذا القرار الجائر دون رفض لأن السيف مسلط فوق رؤوسهم .
لقد أعيتهم الصدمة ، فيما أتعبهم المشي الشاق نحو المجهول. رضوا بهذا المصير المفزع على أمل أن تنقشع الغمة في بحر دقائق أو ساعات أو حتى أيام ! إلا أن الرياح أتت بما لم تشتهي السفن . فالخطف ألقى بظلاله ليس على النساء والبنات فحسب بل على الأطفال قاطبة .
دنا الليل ، والمخطوفات ترتجفن من عواقب الأحداث ، والصمت المطبق أخرس ألسنتهن. وفارق إحساسهن الحياة بشكل عفوي وصارم . حانت ساعة الصفر ، وشرع الجلادون بالانقضاض على فرائسهم بلا استثناء . نالوا منهن ما نالوا دون الشعور بالذنب أو الندم أو الخطيئة ، وكأنهم يتعاملون مع بضائعهم التجارية المستوردة لهم من مناشي عالمية ! لقد كن من الصبر بحيث لو أدخلن إلى موسوعة غينيس لانتزعن الفوز دون تأخير أو تردد . وتجدد صبرهن من جديد وهن في الصفحة الأخيرة من المعاناة ، وجفت دموعهن بين عشية وضحاها. كل ما أصابهن من ظلم وحيف رضخن له بلا امتعاض ، لأنه لا حول ولا قوة لهن في الاعتراض وإلا فالسيف أستل من غمده بانتظار من تعصي أي أمر منهم . ومع هذا تأقلمت السبايا مع مصيرهن الشنيع وهن ينتظرن الصفحة الأخيرة من الدراما المأساوية بفارغ الصبر.
أميط اللثام عن الصفحة الأخيرة من الفاجعة التي لم يعرف الأدب اليوناني القديم تراجيديا مماثلة لها . حان وقت العشاء ، وتجمعت كل ست إناث على مائدة المفترسين الآدميين لتناول وجبتهن بعد جوع مميت وإعياء قاتل . وما أن وضعن ملاعقهن في الحساء حتى بانت لحوم وعظام أبنائهن وبناتهن الصغار. هنا أغمي عليهن فجأة ، وغطوا في نوم عميق له أول وليس له آخر !!