منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 7 من 7

العرض المتطور

  1. #1

    زوجتي - للشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله

    زوجتي - للشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله




    زوجتي

    يقول الشيخ / علي الطنطاوي يرحمه الله
    لم أسمع زوجاً يقول إنه مستريح سعيد ، وإن كان في حقيقته سعيداً مستريحاً ،لأن الإنسان خلق كفوراً، لا يدرك حقائق النعم إلا بعد زوالها، ولأنه ركب من الطمع، فلا يزال كلما أوتي نعمة يطمع في أكثر منها، فلا يقنع بها ولا يعرف لذاتها، لذلك يشكو الأزواج أبداً نساءهم، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت،وانقطع حبله منها وأمله فيها ،
    هنالك يذكر حسناتها ، ويعرف فضائلها .

    أما أنا فإني أقول من الآن –
    تحدثاً بنعم الله وإقراراً بفضله - :
    إني سعيد في زواجي وإني مستريح وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج ، طالب للسعادة فيه ، فلينتفع بتجاربي من لم يجرب مثلها ، وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا الطريق .

    أولها
    أني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم،
    ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم ...
    فينكشف لي بالمخالطة خلاف ما سمعت عنهم ،وأعرف من
    سوء دخليتهم ما كان يستره حسن ظاهرهم ، وإنما تزوجت
    من أقرباء عرفتهم وعرفوني ،واطلعت على حياتهم في بيتهم
    وأطلعوا على حياتي في بيتي، إذ رب رجل يشهد له الناس بأنه أفكه الناس ، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع ،وأمها بنت المحدّث الأكبر ، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسيني رحمه الله، فهي عريقة الأبوين ، موصولة النسب من الجهتين .

    والثاني
    أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا ، فأبوها كان مع أبي في
    محكمة النقض ،وهو قاض وأنا قاض ، وأسلوب معيشته
    قريب من أسلوب معيشتنا ، وهذا الركن الوثيق في صرح
    السعادة الزوجية ،ومن أجله شرط فقهاء الحنفية الكفاءة
    بين الزوجين ( وهم فلاسفة الشرع الإسلامي )

    والثالث
    أني انتقيتها متعلمة تعليماً عادياً ، شيئاً تستطيع به أن تقرأ
    وتكتب ، وتمتاز من العاميات الجاهلات ،وقد استطاعت الآن
    بعد ثلاثة عشر عاماً في صحبتيأن تكون على درجة من الفهم
    والإدراك ،وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات ، لا تبلغها
    المتعلمات وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروساً
    في مدارس البنات ،على طالبات هن على أبواب البكالوريا
    فلا أجدهن أفهم منها ، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم، يحفظن
    منها ما لم تسمع هي باسمه ،ولست أنفر الرجال من التزوج
    بالمتعلمات ،ولكني أقرر - مع الأسف - أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه ،يسيء على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها ،ولايعطيها إلا قشوراً من العلم لا تنفعها في حياتها ولا تفيدها زوجاً ولا أما والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة، وأماً .

    والرابع
    أني لم أبتغ الجمال وأجعله هو الشرط اللازم الكافي كما يقول
    علماء الرياضيات ، لعلمي أن الجمال ظل زائل لا يذهب جمال
    الجميلة ، ولكن يذهب شعورك به ، وانتباهك إليه ، لذلك
    نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ،ويلحق من لسن
    على حظ من الجمال ، ومن هنا صحت في شريعة إبليس
    قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق ، حين قال لزوجته
    النوار في القصة المشهورة :
    ما أطيبك حراماً وأبغضك حلالاً .

    والخامس
    إن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن ، الصلة الرسمية
    الود والاحترام المتبادل ، وزيارة الغب ، ولم أجد من أهلها
    ما يجد الأزواج من الأحماء من التدخل في شؤونهم ، وفرض
    الرأي عليهم ، ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين
    ويسخطان ،فما تدخل أحد منهم يوماً في رضانا ولا سخطنا
    ولقد نظرت اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي
    وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك
    الزوجان المختلفان ، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من
    أولاد الحلال ،لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج .

    والسادس
    أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلاً كما يصنع أكثر الأزواج ، ثم يكون باقي العمر حنظلاً مراً ؛وسماً زعافاً بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي ،حتى إذا قبلت مضطرة به ، وصبرت محتسبة عليه عدت أريها من حسن خلقي ، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوماً زادت سعادتنا قيراطاً .

    والسابع
    أنها لم تدخل جهازاً وقد اشترطت هذا ، لأني رأيت أن الجهاز
    من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج ،فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفاً عليه ،أو أن يسرقه ويخفيه أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل .

    والثامن
    أني تركت ما لقيصر لقيصر ، فلم أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد ، وتركت هي لي ما هو لي ، من الإشراف والتوجيه وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار ، وأسلوب تقطيع الباذنجان ،ونمط تفصيل الثوب .

    والتاسع
    أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني ،ولا أكذب عليها ولا تكذبني
    أخبرها بحقيقة وضعي المالي ،وآخذها إلى كل مكان أذهب
    إليه أو أخبرها به ، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه وتعود أولادنا الصدق والصراحة ،واستنكار الكذب والاشمئزاز منه . ولستوالله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها : فهي من النساء الشرقيات اللائي يعشن للبيت لا
    لأنفسهن للرجل والأولاد ، تجوع لنأكل نحن وتسهر لننام
    وتتعب لنستريح وتفنى لنبقى هي أول أهل الدار قياماً
    وآخرهم مناماً ،لا تنثني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر
    همها إراحتي وإسعادي .

    إن كنت أكتب ، أو كنت نائماً أسكتت الأولاد وسكنت الدار
    وأبعدت عني كل منغص أو مزعج . تحب من أحب ، وتعادي
    من أعادي ، وإن كان حرص النساء على إرضاء الناس
    فقد كان حرصها على إرضائي ، وإن كان مناهن حلية أو
    كسوة فإن أكبر مناها أن تكون لنا دارنملكها نستغني بها عن
    بيوت الكراء . تحب أهلي ، ولا تفتأ تنقل إلي كل خير عنهم
    إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني وإن نسيت ذكرتني

    حتى إني لأشتهي يوماً أن يكون بينها وبين أختي خلاف
    كالذي يكون في بيوت الناس ، أتسلى به ،فلا أجد إلا الود
    والحب ، والإخلاص من الثنتين ، والوفاء من الجانبين !!.

    إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية ،التي لا تعرف في دنياها
    إلا زوجها وبيتها ،والتي يزهد بعض الشباب فيها ،فيذهبون
    إلى أوربا أو أميركا ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط ، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف
    محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه ، ثم لا يكون لها من الجمال
    ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة
    للمرأة الشرقية ،ولكنه فساد الأذواق وفقد العقول ،واستشعار
    الصغار وتقليد الضعيف للقوي .

    يحسب أحدهم أنه إن تزوج امرأة من أمريكا أو أي امرأة
    عاملة في شباك السينما ،أو في مكتب الفندق ، فقد صاهر
    طرمان ، وملك ناطحات السحاب ،وصارت له القنبلة الذرية
    ونقش اسمه على تمثال الحرية !!.
    إن نسائنا خير نساء الأرض ، وأوفاهن لزوج ، وأحناهن
    على ولد ،وأشرفهن نفساً ، وأطهرهن ذيلاً ، وأكثرهن طالعة
    امتثالاً وقبولاً ، لكل نصحٍ نافع وتوجيه سديد .
    وإني ما ذكرت بعض الحق في مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل
    من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية
    ( وكدت أقول الشامية المسلمة )
    لعل الله يلهم أحداً من العزاب القراء العزم على الزواج
    فيكون الله قد هدى بي ، بعد أن هداني
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  2. #2

    رد: زوجتي - للشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله

    انا استطيع ان اقول ان الطنطاوي رجل عالم
    والرجل العالم الله يعطيه البصيرة وحسن النظر للامور فيجد سعادته بعقله بطريقة تفكيره

    اما اغلبية الناس من الجهلة او العاديين .لا يستطيعون الوصول لهذه القناعات القوية
    فجهلهم يمنعهم من ذلك....

    صحيح ان الزمن تغير....وان بعض ما ذكره الشيخ ربما لا يصلح
    ولكنه في الغالبية كلام سليم وصحيح

    ورزق الله الازواج السعادة
    تحيتي

  3. #3
    مثقفة فلسطينية خريجة لغة انكليزية
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    المشاركات
    1,213
    نعم صدقت اخي صالح وهذا نص هام للشيخ رحمه الله:
    قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مذكراته:
    في دمشق مسجد كبير اسمه جامع التوبة، وهو جامع مبارك فيه أنس وجمال،سمي بجامع التوبة لأنه كان خاناً ترتكب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري، وهدمه وبناه مسجداً.
    وكان فيه منذ نحو سبعين سنة شيخ مربي عالم عامل اسمه الشيخ سليم السيوطي، وكان أهل الحي يثقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دنياهم ، وكان هناك تلميذ مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه، وكان يسكن في غرفة المسجد.
    مرّ عليه يومان لم يأكل شيئاً، وليس عنده ما يطعمه ولا ما يشتري به طعاماً، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حدّ الاضطرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، وآثر أن يسرق ما يقيم صلبه.
    يقول الطنطاوي: وهذه القصة واقعة أعرف أشخاصها وأعرف تفاصيلها وأروي مافعل الرجل، ولا أحكم بفعله أنه خير أو شر أو أنه جائز أو ممنوع.
    وكان المسجد في حيّ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة والسطوح متصلة، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مشياً على السطوح، فصعد إلى سطح المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه فلمح بها نساء فغض من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جانبها داراً خالية وشمّ رائحة الطبخ تصدر منها، فأحس من جوعه لما شمها كأنها مغناطيس تجذبه إليها، وكانت الدور من طبقة واحدة، فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة، فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ، فكشف غطاء القدر، فرأى بها باذنجاناً محشواً، فأخذ واحدة، ولم يبال من شدة الجوع بسخونتها، عض منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: أعو ذ بالله، أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟؟
    وكبر عليه ما فعل، وندم واستغفر ورد الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد، وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد من شدة الجوع يفهم ما يسمع، فلما انقضى الدرس وانصرف الناس، جاءت امرأة مستترة، ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة ، فكلمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفت الشيخ حوله فلم ير غيره، فدعاه وقال له: هل أنت متزوج ؟ قال: لا، قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فقال له الشيخ: قل هل تريد الزواج ؟ قال: يا سيدي ما عندي ثمن رغيف والله فلماذا أتزوج؟
    قال الشيخ: إن هذه المرأة خبرتني أن زوجها توفي وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير، وقد جاءت به معها- وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة- وقد ورثت دار زوجها ومعاشه، وهي تحب أن تجد رجلاً يتزوجها على سنة الله ورسوله، لئلا تبقى منفردة ، فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تريد أن تتزوج بها؟ قال: نعم.
    وسألها الشيخ: هل تقبلين به زوجاً؟ قالت: نعم.

    فدعا بعمها ودعا بشاهدين، وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: خذ بيدها، وأخذت بيده، فقادته إلى بيته، فلما دخلته كشفت عن وجهها، فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله، وسألته: هل تأكل؟ قال: نعم، فكشفت غطاء القدر، فرأت الباذنجانة، فقالت: عجباً من دخل الدار فعضها؟؟
    فبكى الرجل وقص عليها الخبر، فقالت له:هذه ثمرة الأمانة، عففت عن الباذنجانة الحرام ، فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال.
    .

  4. #4
    من روائع المقالات القديمة



    السعادة



    للشيخ علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م)


    نشر عام 1948





    يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد،
    فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنَّه حمل حملين،
    ويضحك هذا ويغنِّي؛ فكأنَّه ما حمل شيئًا.
    ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا،
    ويخاف، ويتصور الموت،
    فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه،
    ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.


    ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا،
    ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات،
    ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه.
    وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِّلْم،
    لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة،
    وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره.
    وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة،
    لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق ويعظم الهمُّ،
    وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان، صابرًا عنه أملًا بهذه الدخينة، فلمَّا رأى ذلك ترك التدخين،
    وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
    وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعبانًا،
    فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود،
    ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات،
    قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلًا وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعبانًا فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه،
    وأحسَّ بالعافية، ونزل يقفز قفزًا، وكان قد صعد متحاملًا على نفسه يلهث إعياءً،
    ويئنُّ ويتوجَّع، ولم يمرض بعد ذلك أبدًا.
    ما شفِي الشيخ لأنَّ ثعبانًا كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعبانًا كان في رأسه وطار؛
    لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لَقُوًى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
    تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛
    ألَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضًا، خامل الجسد، واهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب،
    فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبًا، كأنَّه لم يكن المريض الواهن الجسم؟
    أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيًّا يطرح نفسه عليه،
    فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره، أو كتابًا مستعجلًا من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته،
    فأحسَّ الخفة والشبع، وعدا عدوًا إلى المحطة، أو إلى مقرِّ الوزير؟
    هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا،
    فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة !

    يا أيها القراء:
    إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها؛ زهدًا فيها، واحتقارًا لها.
    يُصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛
    فلماذا لم يرها لما كان صحيحًا بيضاء مشرقة؟
    ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛
    فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
    لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟
    لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟
    لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا،
    ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي،
    أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟
    كلٌّ يبكي ماضيه، ويحنُّ إليه؛
    فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟

    أيها السادة والسيدات:

    إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟
    ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا،
    لما نَظَر مِن شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه،
    ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه،
    فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا.
    فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
    من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟...
    أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلَّ في الصحراء،
    وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير،
    وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا،
    فلما رأى ما فيه، ارتدَّ يأسًا، وسقط إعياءً، لقد رآه مملوءًا بالذهب !
    وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا،
    أنه سأل ربَّه أن يحوِّل كلَّ ما مسَّته يده ذهبًا، ومسَّ الحجر فصار ذهبًا؛ فكاد يجنُّ مِن فرحته؛ لاستجابة دعوته،
    ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه؛ ليأكل، فمسَّ الطعام، فصار ذهبًا وبقي جائعًا، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهبًا،
    فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته، وأن يبعد عنه الذهب!
    وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها، فمات غريقًا في بحر من الذهب.

    يا سادة:

    لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟
    أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
    كلَّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمرُّ، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها،
    ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد،
    أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يومًا، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرًا وتبرًا،
    واستفدت من كلِّ لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة ( باب اللوق ) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب،
    فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلِّها، وأسفت على أمثالها، فلو أنِّي فكرت كلَّما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه،
    وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها لربحت شيئًا كثيرًا.
    ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار
    يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات،
    فكان يتسلَّى في القطار بالنظر في كتاب (قواعد التحديث) للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب.
    والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئًا من العلم فأَلَّف (الحاشية).
    والسَّرَخْسي أَمْلَى وهو محبوس في الجبِّ، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.
    وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت،
    وهل يُضَيِّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنَّه لو قرأ مثله لا أقول كلَّ ليلة،
    بل كلَّ أسبوع مرة لكان عَلَّامَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتابًا واحدًا كـ(نهاية الأرب)، أو (لسان العرب)،
    وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطِّه،
    فضلًا عن تأليف مثله من عنده؟
    والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون، ولا نسعد بالعقل؟
    لماذا لا نمكِّن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟
    لا أذكر الفلاسفة والمخترعين،
    ولكن أذكِّركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لمَّا امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها،
    والشافعي لمَّا كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه، والمعرِّي لما سَمِع أرْمَنِيَّيْنِ يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه،
    والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون،
    ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.
    انظروا كم يحفظ كلٌّ منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم، والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ،
    وكم يشغل من ذهنه ما يمرُّ به كلَّ يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؛ فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
    أعرف نادلًا كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي)
    يدور على رواد القهوة- وهم مئات- يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شايًا، أو هاضومًا (كازوزة أو ليمونًا)
    والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة، ويردد هذه الطلبات جهرًا في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها، فما يخرم مما طلب أحد حرفًا !


    فيا سادة:

    إن الصحة والوقت والعقل، كلُّ ذلك مال، وكلُّ ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد.


    وملاك الأمر كلِّه ورأسه الإيمان،
    الإيمان يُشبع الجائع، ويُدفئ المقرور، ويُغني الفقير،
    ويُسَلِّي المحزون، ويُقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا، ومن خيبته نُجحًا.


    وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتَّبك،
    وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقلُّ عنك فهمًا وعلمًا، وحسبًا ونسبًا.
    وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض.
    فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبًا يحشوها،


    ويلبسها الذهب، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب.
    وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدوابَّ والمحامل، وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر، وأنت ترحل في أيام أو ساعات.

    فيا أيها القراء:

    إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها،
    سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها...
    سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم،
    سعداء إن كانت أفكاركم دائمًا مع الله، فشكرتم كل نعمة، وصبرتم على كل بَلِيَّة، فكنتم رابحين في الحالين،
    ناجحين في الحياتين.
    والسلام عليكم ورحمة الله.


    المصدر: كتاب صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، (ص17) بتصرف
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #5

    سئل الشيخ علي الطنطاوي

    سئل الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عن أجمل حكمة قرأها في حياته فقال :
    لقد قرأت لأكثر من سبعين عاما فما وجدت حكمة أجمل من تلك التي رواها ابن الجوزي رحمه الله في كتابه " صيد الخاطر " حيث يقول :
    ( إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها وإن لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها ).
    من نصب نفسه للناس إماماً
    فليبدأ بتعليم نفسه قبل أن يعلم غيره
    و ليكن تأديبه بسيرته قبل لسانه
    فإن أعين النّاس معلَّقة بقوله و فعله
    و عندها يكون القبول

  6. #6
    تم دمج الموضوعين حتى يتم ربط كل ماورد عن الشيخ دون تناثر
    لك محبتي ورحمه الله
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  7. #7
    شكرا لك غاليتي سلمت يداك و جزاك الله خيرا
    من نصب نفسه للناس إماماً
    فليبدأ بتعليم نفسه قبل أن يعلم غيره
    و ليكن تأديبه بسيرته قبل لسانه
    فإن أعين النّاس معلَّقة بقوله و فعله
    و عندها يكون القبول

المواضيع المتشابهه

  1. في ذمة الله والد الأستاذ/مصطفى الطنطاوي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 05-25-2017, 06:57 AM
  2. صور قديمه ونادرة للأمير يرحمه الله::
    بواسطة ذيبان في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-24-2011, 04:39 AM
  3. مقال بديع للشيخ علي الطنطاوي عن ” حقيقة الحمد والشكر لله ”
    بواسطة فراس الحكيم في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-20-2010, 12:48 AM
  4. مقالة رائعة جدا للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
    بواسطة ندى نحلاوي في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-25-2009, 08:29 AM
  5. مقال للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
    بواسطة هشام الخاني في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-11-2009, 12:04 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •