حدثنا عبودُ سِليّم ، بحديثٍ كالدر قيّم ، تطربُ له الأسماعُ ، ويلينُ منه خَشنُ الطباع ، كأنه السيلُ في تحدره ، أو النبعُ في تفجره ، فعبودُ العابرُ للحدود إذا حدثَََ يأخذُ لبًّك بحُسنِِ حديثه ، ويأسرُ قلبك بسمينه وغثيثه ، فإن رفع صوته انسابَ كأُفعوان ، وإن غضَّ منه ارتاب كأُلعبان ، خير العارفين بعوادي الدهور ، وأول المتمرسين في خوافي العصور ، حلو العباره ، كأنه من فناني الهواره ، الذين ضربة قدمهم عالأرض هدّارة ، أنتو الأحبة والكنْ الصدارة ، كما قالت فيروز المغواره .
حدثنا في يوم جمعة ، وعبثاً حاول إخفاء دمعة ، فقال كنا نعيش في قرنٍ يُسمى الواحد والعشرين ، أحداثُه يشيبُ منها الجنين ، وأعاجيبُه تُضحكُ حتى مالك الحزين ، وكنا نعمل فيه الهوايل ، وتشغلنا عن ربنا الشواغل ، فمرة نحجُ مُلبين للتلفزيون ، ننهل مابه من رقصٍ ومجون ، نتناقز من قناة لأخرى خلف بنت وهبي ، وتحولُ أعيننا إذا طلعت علينا غوادالبي ، فنلوذ منهما ببنت مشعلاني ، فكأننا لذنا من الرمضاء بالنيرانِ ، فلا تؤثر فينا حكمةُ بنت عجرم ، فهي شنشنة نعرفها من أخزم ، ثم إذا بلغ بنا النسكُ مبلغه ، وكلٌ منا مال إلى عقله ففرغه ، اتجهنا إلى المسلسلات العربية ، من ليالي الحلمية إلى تامر وشوقية ، ومن باب الحارة ، إلى ليش ليش ليش ياجارة ، ومن خلك معي وأبو هباش ، إلى غشمشم وطاش ما طاش ، ثم إذا اشتقنا للرفس والنطح والنح والدح ، والركل والطحل ، والمغازل البذيء ، المفعم بكل ما هو دنيء ، لوينا عنقنا للمسلسلات الخليجية ، فرأينا فيها الهم والأذية ، فبينا نحن بحالنا مشغولون ، وبما نجترحه مفتونون ، إذ نُفاجأ بخبر مثير ، عن مسكينٍ يُدعى الخنزير ، حيثُ اُتهم بجريرةٍ كبيرة ، وهو بعيدٌ عنها بعد العربية عن الجزيرة ، ولكنه ظلم الإنسان ، لا يُحدُّ بزمان ولا مكان ، اتهموه بمسؤوليته عن الأنفلونزا ، وحملوهُ مصائب البشر منذ آدم حتى هذه الحزة ، فلم يستطع بما أُوتي من جمالِ رفسة ، أن يدافع بها عن نفسه ، فهو لم يُعطَ سعةً عقلية ، لينطح فيها عتاة البشرية ، فاستسلم لبطش الجلاوزة ، لينفثََ كل جلواز فيه غرائزه ، فأوطأوا السيف رقبته ، ولم يمهلوه ليعلن توبته ، فكما نعرفُ أن المتهم بريء حتى تثبتَ إدانتُه ، لا مُدانٌ حتى تكفله خالتُه ، واسمعْ أيضاً يا صاحبي ، ما لم يروهِ الزمخشري ولا الكواكبي ، فالوضعُ جد خطير ، ولا يُنبيك مثل خبير ، فزماننا يحمل من العجائب ، ما لا تحملُه بُجر الحقائب ، حيثُ انقسم الناسُ في المرض ، فهم ليسوا سواءً وكلٌ له غرض ، فمن حاشرٍ بالكمامة أنفه ، وخائفٍ أن يلقى بهذا الداء حتفه ، إلى من يُحمّلُ خنزيراً ليعدمه كتفه ، غير مدرك أنه بفعلته يمشي للموت بزفة ، ومن مطمئنٍ شعبه أن الخطر عنهم بعيد ، إلى من أرعبهم ظناً أنه يضرب العدوى بيد من حديد ، فأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر ، خشية أن يفنوا كهشيم المحتضر ، فأصبحنا نعدو كالحُمُرِ المستنفرة ، التي فرت من قسورة ، وصرنا من هول ما بنا في حيص بيص ، كأننا نفتشُ دون جدوى عن رأس غليص ، فنسينا ما نجترحُه من هوايل ، وشغلنا خوفُنا عن الشواغل ، فهجرنا المسلسلات العربية ، مردفينها بأختها التركية ، والحلمُ الذي كان يملؤنا في نور ومهند ، من رؤوسنا الفاضية طار وتبدد ، فتبدلت صورة مهند التي تعجبنا ، بصورة الخنزير التي تُرعبُنا ، فجلسنا يرقبُ بعضنا بعضاً ، وأعيننا لا تعرفُ للنوم غمضا ، لعلنا نرى أحداً .. عيناه في رأسه دواره ، وسناسينه من أنفه فواره ، وسعابيله من شفتيه هداره ، فكما أُُخبرنا أن هذه أعراض المرض ، ولسنا على استعدادٍ أن يُصبح أحدنا حَرَضَ ، ولا أن يكون من الهالكين ، فلا نامت أعينُ الشامتين ، ثم لما بلغ التخويف والترويعُ مبلغه ، وصار الوسواس يسكن أفواهنا لنمضغه ، تذكرنا فجأةً أن لحم الخنزير حرام ، كما أوصانا الله في سورة الأنعام ، فقاطعناهُ زرافاتٍ ووحدانا ، وقلنا إن البارئ لم يحرمه إلا ليرعانا ، وصرنا نعظُ الناس بعظمة الدين ، وكيف إنه ينظر بعين اليقين ، فافتقرت من مقاطعتنا شركاتٌ غنية ، وهي التي لم تصحُ بعدُ من الأزمة المالية ، فصارت الأمم المتحدة بنا تتضرع ، فضربتان في الرأس توجع ، وتراجع العالم عن مبالغته ، وأدرك عظم وخطر غلطته ، فقال كلوا لحم الخنزير هنيئا مريئا ، فهو كان وما يزال بالبروتين مليئا .. فعدنا مرةً أخرى في حيص بيص ، وقلنا إن هيفاء وأليسا ومهند خير لنا من هذا التخبيص ..
بقلم / زكي إبراهيم السالم