د. رزان إبراهيم تكتب لـ موقع الجسرة الثقافية: الكتابة بروح نسوية: المعنى والمتطلبات
ما إن يصل إلى أسماع البعض حديث عن كتابة نسوية, حتى يردوا عليه بعبارات لا تخلو من تبخيس أو استهزاء, أو حتى نظرة دونية تتضمن كثيراً من الاستخفاف. وهو ما لمسته لدى النساء على نحو لا يقل بحال من الأحوال عما يصدر عن الرجال أنفسهم. بل إن كثرة من الكاتبات أنفسهن يتحرزن من الانتساب إلى ما يطلق عليه ( أدب أو نقد نسوي). وما زلت أذكر لقاء مع الأديبة العربية المعروفة لطيفة الزيات رفضت فيه الانتساب إليه بدعوى أنه يدل على نقص في الإبداع. إن كنت أرى أن انتصاراً لموضوع إشكالي يقتضي الرد بالحجة والمنطق, فإني أجد من المناسب هنا أن أسوق كل ما يدعم قناعتي بهذا الموضوع, وللآخرين حق القبول أو الرفض, أو حتى الوقوع في منطقة وسطى.
الحديث عن كتابة نسوية يستدعي بالضرورة أساساً إيديولوجياً يطالب بتمثيل عالم المرأة على الصعيد البيولوجي والثقافي والنفسي؛ فأن تكتب المرأة عن نفسها, يفضي في نهاية المطاف إلى نصوص عارفة لكيان الذات الأنثوية التي كتبتها. هذا لا يلغي إمكانية أن يأتي الرجل ليكتب عن المرأة من خلال ما يعرفه هو عنها, فيغدو النص محافظاً على نسويته, وإن كان هذا لا يلغي قناعة بان المرأة تبقى المرشح الأقوى في هذا المضمار. خصوصاً إن توفرت لنا القناعة بأن التجربة الإبداعية ناجم أغلبها عن التجربة المعيشية.
لو قلت: إن الأديب يحلم بمجتمع قوامه الحرية والعدل والمساواة, فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن سؤال التغيير في إطار واقع ظالم غير مرتبط بجنس معين؛ فما الأدب في جله إلا رسائل رفض واحتجاج يبثها الأديب, كل بأدواته وصوره المتخيلة, بهدف مواجهة كل أشكال القمع والتهميش المسلطة على فئات معينة في المجتمع. لكن في الأدب والنقد النسوي, تكون الرغبة قوية في مواجهة أنماط سلوك ذكرية يمارسها مجتمع حريص على تثبيتها, وإعادة إنتاجها لصالح الرجل. من هنا تأتي الحاجة إلى أدب ونقد يسعيان إلى تفكيك كل ما من شأنه إعادة إنتاج أنساق ثقافية تعمل لصالح جنس معين, على حساب الآخر.
الناقد النسوي عموماً, يكتب وفي ذهنه جملة من الأسئلة محورها المرأة. من مثل: إلى أي حد وقع صاحب أو صاحبة النص قيد الدراسة في مطب تنميط المرأة؟ وهل كانت صورة المرأة قريبة من واقعها؟ وتجده بالضرورة محتفياً بنصوص سردية تحضر فيها النساء نماذج مغايرة للنمطي المتداول عن نساء مستلبات حضرن على نحو ممل في الرواية العربية. أو حتى لنساء بقين مرهونات في الثنائية التي قدمها نجيب محفوظ( القديسة قبالة الغانية). وله حق استنكار كتابة تكتفي بامرأة تنتمي إلى طبقة الأغنياء, مغيبة أخرى فقيرة تضطرها الحياة إلى أن تكون نداً للرجل بكفاحها وإصرارها على إعاشة أسرة بكاملها افتقدت معيلها الذكر. ولا يفوتني أن أشيد بدور تقوم به الكتابة النسوية للتعريف بآليات تتبعها الثقافة الذكورية لتصعيد الدور الجنسي للمرأة. أو أي تنميط يحط من شأن المرأة, أمام تصعيد فاعل وإيجابي للرجل.
بعض من صور نمطية شائعة, نجدها حريصة ولو كرهنا على أن تسوق المتلقي للفصل بين العاطفة والعقل ( العاطفة للمرأة, والعقل للرجل). ولا شك عندي أن هذه الثنائية تدخل في صميم مشكلة المرأة الحالية العائدة إلى تصورنا الثنائي للعالم، وهو ما يحرص عليه الرجل من أجل تحقيق التفوق الدلالي باستمرار، فالمرأة برأيه لها تكوين عاطفي خاص يمنعها من التحكم بعقلها بالسهولة التي يتحكم بها الرجل. علماً بأن مثل هذا التقسيم (عاطفة، عقل) يقترب من افتراض أن شيئاً مادياً ما له شكل دون حجم، أو حجم دون شكل.. فمن منا يستطيع أن يقسم اللغة قسمين قسماً يحفل بما نقول، وقسماً يحفل بشعورنا نحوه؟ حتى وإن أقررنا بهذا التقسيم، فلم تصنف العواطف بأنها ضعيفة؟ فقد تكون العاطفة العميقة هي دليل قوة وليست دليل ضعف، بل لعل العاطفة القوية هي الخاصية الأثمن في الطبيعة البشرية؟؟
رداً على تهمة للمرأة بأنها تكتب الخاص, أرد بالقول: إن في هذه التهمة تعامياً عن حقيقة علاقة متبادلة بين المجالين العام والخاص, وأقصد بذلك التأثير المتبادل بين ما هو داخل المنزل وخارجه. لذلك كان التركيز في الغرب على شعار The Personal Is the Political؛ فالسيطرة الذكورية لا تتجلى ضمن نطاق الأسرة فحسب، بل يمكن القول إن لهذه السيطرة تجلياتها في الحياة العامة، وهو ما يبدو واضحاً لدى أكثر من روائية عربية. إذ لا مكان لنقد يستخف بما يصدر عن المرأة من كتابات أنثوية خاصة، ويتخذ من هذا الخط معبراً لاتهام الكتابة النسائية بأنها كتابة فاشلة تتضمن قضايا محدودة تبعاً لتجربة محددة. الأمر أو الفخ الذي تقع فيه المرأة الناقدة ويقودها إلى الدفاع عن أدب المرأة بالقول إنه يحمل أبعاداً سياسية واجتماعية واسعة, وأنه غير مخصص للتجربة الأنثوية.
تأكيداً لما سبق, أحيل إلى كم من الرواسب الاجتماعية واجهتها المرأة الكاتبة, وفي ذهنها رسالة مفادها: إن إنساناً يستعبد آخر, يقتنيه كأنه شيء أو أداة أو وسيلة. لا يمكن أن يكون حراً, وهو بالضرورة ( عبد للخوف والشك والغيرة والتملك). كما لاتفوتني كتابة نسوية ربطت بين حرية المرأة وحرية الوطن, وأكدت على علاقة مكينة بين الاستعمار والتخلف؛ الاستعمار يستدعي التخلف, والتخلف يستدعي الاستعمار. وهي كتابة ما فتئت تذكرنا أن الظلم الذي يقع على المرأة في حالة الاحتلال مزدوج: ( الظلم الاجتماعي) و( الظلم السياسي) الذي يمارسه الاحتلال.
يستوجب حديثنا عن كتابة نسوية بالضرورة اهتمام خاص بما يميز خطاب الأنثى على صعيد اللغة والأسلوب, بما يتضمنه هذا الأمر من تطرق لبنية الجملة والصور المهيمنة عليها. في هذا الشأن الإشكالي, يبقى السؤال مشروعاً إن كان هناك تميز لغوي واضح بين الرجال والنساء, وما زالت النظريات اللغوية حائرة في هذا الشأن, ما بين مؤكد للغة خاصة تتبع فروقاً جسدية بيولوجية, أو على الأغلب اجتماعية ثقافية. ويبدو لي أن أمر البت بشأن لغة خاصة بالنساء يستدعي تريثاً, أو تحفيزاً لدراسات أسلوبية ذات طابع منهجي.
رغم دعوتي إلى التريث, فإن لدي انطباعاً أولياً بوجود صور بعينها تكون أقرب إلى روح المرأة منها إلى الرجل, أو دعوني أقول إلى روح الكتابة النسوية عموماً, بغض النظر عن جنس الكاتب. ولا بأس إن تمثلت ( حليب التين لسامية عيسى), وهي من وصفها فيصل دراج بأنها كتابة نسوية اختارت الحليب بخصوصية نسوية, وبرمزية تحمل الدفء والحنان والنمو؛ فحين يرحل اللاجئ الفلسطيني إلى الشمال, و تزرع في أرض الشمال شجرة تين يستدعي حليبها المستحيل شجر الجليل, ليكون كل ما تبقى من وطن بعيد. في نفس الإطار أذكر في ” ربيع حار” لسحر خليفة غلافاً لامرأة تسدل ظفيرتيها. تتداعى بعدها كتابة نسوية يؤكدها إهداء موضوع بدقة: خصت به الكاتبة نساء حوش العطعوط في نابلس القديمة.
في حديث عن الكتابة النسوية, لا يفوتني التطرق إلى مآزق تقع فيها المرأة الكاتبة. وأغلبها يرتبط بحاجة ماسة إلى مناخ صحي يحتضن الطاقات الموهبية والإبداعية. وهي شروط يفتقر إليها الرجل والمرأة على حد سواء, إلا أن هذه الشروط كانت وما زالت الأشد تضييقاً على المرأة. يحضرني في هذا السياق ما افترضته فيرجينيا وولف عن أخت عبقرية متخيلة لشكسبير, فماذا سيحدث لهذه العبقرية؟ في ظل مناخ حرمها حق الذهاب إلى المدرسة, أو التعلم في البيت, مع تهديد بزواج يفرض عليها. وهي من طمح بالذهاب إلى لندن والعمل ممثلة. النتيجة ببساطة أن طموحها قوبل بسخرية, لينتهي بها الحال صديقة لرجل يصيبها بخيبة توصلها إلى اتخاذ القرار بالانتحار.
إن كان التعبير الحر عبر الأزمنة ضريبة يدفعها الأديب, فإن الضريبة التي تدفعها المرأة تبدو أضعاف ما يفعله الرجل. أقول هذا وفي ذهني أكثر من كاتبة شاءت التحدي لتكتب حتى عن تفاصيل جرت العادة على إخفائها لدواع اجتماعية. تحضرني في هذه اللحظة الروائية الفلسطينية حزام حبايب ونصها السردي الجميل( قبل أن تنام الملكة) بما يُعد أجرأ رواية فلسطينية تصف بتحد وعناد وصراحة ما يمكن أن يصيب الأنثى من شقاء بنفس ساخر غير بعيد عن تشاؤل إميل حبيبي.
يبقى أن سؤال من الأفضل( كتابة الرجل أو المرأة)؟ هو فخ ومصيدة يدخلنا في نزعة متطرفة, نحن في غنى عنها, إذ لا بد من الابتعاد عن أية منطلقات جنسوية تحتفي بالرجل لأنه رجل, أو تحتفي بالمرأة لأنها امرأة. ولكل من يرى في كتابة المرأة صخباً يزعجه أحياناً, أدعو للتفكير في هذا الموضوع في إطار ردة فعل من المرأة تجاه وجهة ذكورية حرصت على إسكاتها لفترات طويلة للغاية؛ فالرجل أرادها أن تصمت, وأن لا تقتحم عالم الكتابة, والسبب ببساطة أنه امتلك القوة في التاريخ والأدب, وهو متحرز من امرأة تمارس ملكاتها النقدية في الأدب, لتمارسها بعد ذلك في العالم الكبير خارج نطاق الأدب، خصوصاً فيما يتعلق بنقدها للأدباء الرجال.
إن كنا في النقد النسوي شأننا في ذلك شأن نظريات النقد الأدبي الأخرى تابعين لنظريات قادمة من الغرب, فإن من شأن العاملين أو العاملات في مضمار الفعل النسوي التنبه إلى ضرورة صياغة هذه النظريات بما يتلاءم ومتطلبات مجتمعاتنا والتحديات التي تواجهها. ولدينا في عالمنا العربي من الأمثلة ما يدلل على نساء شئن البقاء في إطار كل ما هو غربي بعيداً عن مقتضيات البيئة العربية, مقابل أخريات كن حريصات على تمثل الوضع العربي بكل حيثياته التفصيلية.
قلت الذي قلته وفي ذهني أمر هام أوجزه في القول: إني لا أؤمن بصراعات مفتعلة تسيء إلى الرجل والمرأة معاً. بل إن اختزال هذه الإشكالية في هذه الثنائية يؤدي في نهاية المطاف إلى الانحصار داخل أفق مسدود نحن في غنى عنه.