مؤمن الهباء
جاء الفتح الإسلامي لمصر تحريراً لإرادة هذا البلد وأبنائه من عبودية الاحتلال الروماني.. كانت مصر في اشتياق حقيقي لهذا النور الآتي من الشرق، من بلاد العرب؛ ليحررها من الاستعمار الروماني الذي اضطهد الأقباط، وهو الاسم الذي كان يُطلق على شعب مصر آنذاك سياسياً ودينياً.. ولولا دخول الإسلام في مصر، أو دخول مصر في الإسلام، ما كانت مصر هذه التي نعرفها ويعرفها العالم، فالإسلام هو الذي أعطى لها شخصيتها وهويتها. ولعل من الإنصاف الاعتراف بأن أهم من قدَّم قصة الفتح الإسلامي لمصر بالوثائق هو المؤرخ الإنجليزي «د. ألفريد بتلر» في كتابه «فتح العرب لمصر» الذي يمثل المرجع الأساسي - تقريباً - لكل الكتب التي غطت المرحلة التاريخية للفتح من كافة جوانبها، وبتفصيل كامل، ورؤية علمية نقدية، تقترب كثيراً من الموضوعية والحياد، ومن المدهش أن هذا الكتاب صدر للمرة الأولى في سبتمبر عام 1902م.. ثم أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1989م في سلسلة «تاريخ المصريين»، ثم غفلت عنه الهيئة على خطورته. والكتاب بجزأيه يمثل تحفة علمية وأدبية أبدعتها يد الباحث الإنجليزي المدقق «د.ألفريد بتلر»، وقلم المترجم المصري المبهر الأستاذ محمد فريد أبو حديد، رحمه الله.. ورغم ذلك، فإن أول ما يتوقف أمامه قارئ الكتاب ذلك العنوان غير الموفق «فتح العرب لمصر»؛ لأنه لا يعبر عن الحقيقة، ففتح مصر لم يكن إنجازاً عربياً، وإنما كان إنجازاً إسلامياً حول مجرى التاريخ، ولذا فقد كان الأصوب والأصدق تعبيراً أن يكون عنوان الكتاب «الفتح الإسلامي لمصر». ما كان للعرب أن يفتحوا مصر إلا بالإسلام، لم يفتحوها تحت لواء العروبة، ولا القومية العربية «المستحدثة»، ولكن فتحوها بالإسلام، العقيدة الشابة اليافعة التي فتحت كل عواصم الشرق، ومعروف تاريخياً أن جيش الفتح لم يضم العرب فقط؛ وإنما كان يضم العديد من الأجناس والألوان والألسن، لا يجمعهم ولا يربط بينهم إلا عقيدة التوحيد. الإسلام إذن هو الذي فتح مصر، لم يفتحها طلباً لمُلْك يتوسع، ولا لنشر لغة وفرض سيادة عرق، ولا طلباً لموارد مالية وبشرية، وإنما فتحها برسالة هداية لتحرير الشعوب من الظلم والاضطهاد، ولقد أثبت «د. بتلر» في أكثر من موضع في كتابه أن المصريين الأقباط كانوا واثقين أن الله قد بعث المسلمين لفتح مصر عقاباً للروم الذين كانوا يحتلونها آنذاك، وأذاقوها العذاب ألواناً. يبدأ الكتاب بالحديث عن أحوال الإمبراطورية الرومانية التي كانت تملك الشام ومصر ومعظم بلاد العرب وإفريقية، والتي بدأ الضعف يدب في أوصالها مع بداية القرن السابع الميلادي، خاصة حين تولى أمرها جندي جاهل، مشوه الخلقة، هو «فوكاس» سنة 602م، وما إن أتى عام 609م حتى كانت بلاد الدولة كلها هائجة تتهيأ للثورة، وكان على رأس الثائرين «هرقل» حاكم إفريقية (65 عاماً)، الذي قرر إرسال ابنه (35 عاماً) للقضاء على «فوكاس» والفوز بالتاج. ولم يكن في بلاد الدولة الرومانية الممتدة ما هو أشقى حالاً من مصر - هكذا يقول «بتلر» - فقد سعى الأباطرة إلى إجبار القبط الذين ليسوا على مذهب الدولة لإدخالهم في ذلك المذهب، ولم يكن عجباً أن تضطرب الأحوال في مصر فتصبح ميداناً للشغب والحرب الأهلية، بينما الحكام لا همَّ لهم إلا أن يجمعوا المال للملك البيزنطي، وأن يكون لمذهبهم الديني اليد العليا بين أهل البلاد، فصار الحكم على أيديهم أداة للظلم ونشر الشقاء، وصارت مصر جميعها تضطرم بنار الثورة ورغبة الخروج من ربقة الإمبراطورية الظالمة، لا يغطيها إلا غطاء شفيف من الرماد. ويتوقف «بتلر» هنا عند حقيقة مهمة يرسخها قبل الدخول في تفاصيل الأحداث التاريخية، فيؤكد أنه لم يحكم مصر قبطي واحد طوال تاريخها المسيحي، بل كان الحكم المدني والجيش كلاهما في يد السادة المحتلين، ليس فيهم أحد من أقباط مصر أهل البلاد، فكان الحكم بذلك حكم الغرباء - وهذه تعبيرات وكلمات المؤلف - لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم. وكانت أمور الدين في مصر إبان القرن السابع الميلادي أكبر خطراً عند الناس من أمور السياسة، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت لها الأحزاب، واختلف بعضها عن بعض فيها، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانة، وكان الناس لا يكادون يحسون بشيء اسمه حب الوطن، وما كانت عداوتهم لتثور بسبب الجنس والوطن، ولكن بسبب اختلاف المذهب الديني. لم يكد الأمر يستقر لـ«هرقل» - الابن - الذي توج إمبراطوراً في القسطنطينية عام 610م حتى فوجئ بحملة شعواء قادمة من بلاد فارس، استطاعت فتح الشام وبيت المقدس عام 615م، بعد أن هدمت الكنائس ونهبت الأديرة، وحمل الفرس الوثنيون الصليب المقدس إلى عاصمة دولتهم مع آلاف من الأسرى معظمهم من القساوسة والرهبان والراهبات، وفي عام 617م فتح الفرس مصر، وخضع الأقباط للسيد الجديد، الذي قتل الرجال وحرق المدن وهدم الكنائس والأبنية، فظلت كذلك أطلالاً إلى ما بعد الفتح الإسلامي لمصر. يقول «بتلر»: «كانت معاملة الفرس للقبط واحدة في كل مكان، يحل الموت والخراب حيث حلوا» (ص75)، ويلاحظ هنا أن القبط رغم مقتهم للروم لم يرحبوا بالفرس الغزاة، ولم يروا فيهم الخلاص، بل كانوا يرونهم بعين الجذع، فقد خضعوا مرة أخرى لسيد جديد بعد زوال سلطان السيد القديم عنهم، ويعلق بتلر على ذلك قائلاً: «وقد كان هذا شأن تاريخهم السياسي من أقدم الأزمان أن تتبدل عليهم السادة وتتعاقب». صحوة «هرقل» ونهايته تقلصت الإمبراطورية الرومانية، ولم يبق للإمبراطور «هرقل» غير عاصمته القسطنطينية، بعد أن استولى الفرس على ممالكها الشاسعة، بل صاروا يهددون العاصمة ذاتها، ولأسباب عديدة حدثت إفاقة مفاجئة لـ«هرقل» عام 622م، فكوَّن جيشاً عظيماً، وبدأ أول حرب صليبية في التاريخ، ولم يأت عام 627م حتى كان قد استرد ملكه في بيت المقدس والبوسفور ومصر، وطرد الفرس منها، وتحققت نبوءة القرآن الكريم التي وردت في أول سورة الروم: {الچـم« (1) غٍلٌبّتٌ پرٍَومٍ (2) فٌي أّدًنّى الأّرًضٌ $ّهٍم مٌَنً بّعًدٌ غّلّبٌهٌمً سّيّغًلٌبٍونّ (3) فٌي بٌضًعٌ سٌنٌينّ}(الروم). وبعد أن استقرت الأمور لـ«هرقل» سيطرت عليه فكرة توحيد مذاهب المسيحية في مذهب واحد يوفق بينها، ويكون هو مذهب الدولة الذي تجتمع عليه كل الرعية، ويقضي هذا المذهب الجديد بأن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة المسيح، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان، ولكن عليهم أن يشهدوا أن له إرادة واحدة أو قضاء واحداً، وعلى الرغم من أن نية الإمبراطور كانت حسنة فإن هذا الحلم كان مستحيلاً، لأن معناه أن يجبر الناس جبراً على تغيير دينهم ومذهبهم ولو بالقوة، وهذا ما حدث بالفعل، خاصة في مصر، وأدى إلى اضطهاد الأقباط وقساوستهم، وعلى رأسهم البطريق «بنيامين» الذي فرَّ بدينه إلى الصحراء ولم يخرج منها إلا بعد الفتح الإسلامي. ينقل «بتلر» عن «قيدرينوس» (ص 135) قوله: «على حين كانت الكنيسة تحتوشها الملوك - أي تستحوذ وتسيطر عليها - ومن لا يخشون الله من القسوس، خرج من الصحراء عملاق ليعاقبنا على ذنوبنا».. ويعلق «بتلر» على ذلك قائلاً: «هي كلمات قليلة، ولكنها تدل على أن المسيحيين كانوا يشعرون بأن محمداً كان رسولاً من الله، أو هو على الأقل «سوط» من الله أرسله عليهم». ثم يقول في الصفحة التالية (ص 136): «وذلك أنه قد شاعت نبوءة بين بعض المسيحيين فارتجفت لها أفئدتهم وهي أن الإسلام حق، وأن نصره حق».. ونقل «بتلر» عن المؤرخ القبطي «أبي الفرج» قوله: «ولما شكا الناس إلى «هرقل» لم يجب جواباً، ولهذا أنجانا الله المنتقم من الروم على يد العرب، فعظمت نعمته لدينا أن أخرجنا من ظلم الروم وخلصنا من كراهتهم الشديدة وعداوتهم المرة، على أن كنائسنا لم ترجع إلينا لأن العرب أبقوا كل طائفة من المسيحيين على ما كان في يدها عند فتح البلاد». في عام 635م توج انتصار العرب بفتح دمشق العاصمة القديمة لبلاد الشام، وجاءت أنباء هزيمة جيش الروم إلى «هرقل» وهو في أنطاكية، فعرف أن الأمر قد أفلت من يده، وأن الله قد خذل الإمبراطورية، ومما زاد ألمه شدة علمه أنه ارتكب خطيئة بزواجه من ابنة أخته «مرتينه»، وأنه آخذ في الاعتلال، فبقي في شدته ثلاث سنين خبت فيها آماله، وذوت قوته، وعلا أمر الإسلام تحت بصره وسمعه ولم يتحرك لمقاومته، فما زال الإسلام يعلو حتى طوى دولته تحت ظله». وكان «هرقل» قد أرسل البطريق «قيرس» - أو المقوقس - إلى مصر لحمل القبط على اعتناق المذهب الجديد الذي اخترعه الإمبراطور لتوحيد المذاهب، وكان «المقوقس» - على حد قول «بتلر» - عاتياً ومتكبراً، ومن الطبيعي أن يرفض القبط المذهب الجديد.. يقول «بتلر»: «فقد كان استقلالهم في أمور الدين أكبر ما تتعلق به نفوسهم، فإنهم لم يعرفوا الاستقلال القومي قط، ولعلهم لم يحلموا يوماً بمثل ذلك الأمل، وأما الاستقلال في أمر الدين فقد ناضلوا من أجله، وجاهدوا في سبيله، لم ينثنوا عن ذلك في وقت من الأوقات». وبسبب هذا الرفض من جانب القبط بدأ عهد الاضطهاد منذ عام 631م ولمدة عشر سنوات حتى جاء الفتح الإسلامي.. وقد نقل «بتلر» عن «ساويرس» أحد مؤرخي ذلك العصر قوله: «لقد كانت هذه السنين هي المدة التي حكم فيها «هرقل» و«المقوقس» بلاد مصر، وقد فتن في أثنائها كثير من الناس لما نالهم من عسف الاضطهاد والظلم».

قصة فتح مصر يرويها مؤرخ إنجليزي بالوثائق (1 - 2) «ألفريد بتلر» يقدِّم شهادة علمية للتاريخ