منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: ليلة شتائية

العرض المتطور

  1. #1

    ليلة شتائية

    أعلم أن أكثركم قد قرأ نسخة من هذا النص فيما مضى، لكني أعاود نشره لسببين، أولهما أنه أصدق نص كتبته على الإطلاق، وثانيهما أن ذكرى وفاة الوالد العلامة رحمه الله الثلاثين ستحل علينا بعد أيام قليلة:

    في ليلة شتائية باردة غريبة

    كانت ليلة شتائية باردة غريبة من شهر كانون الأول عام 1991
    وكانت ثالثة أيام عزاء جدتي لوالدتي.
    حضر حينها بشعره الأشيب، بقامته الطويلة، بهمته العالية.
    وجلس وأجلسني إلى جانبه في حجرة استقبال الضيوف من بيت جدي القديم، وحولنا الناس
    كستني الرهبة والهيبة معاً، فقد كان مجلسه مجلساً عارماً بالفخامة، مملوءاً بقوة النفس.
    ثم انفض العزاء، ومضى الناس إلى بيوتهم.
    وكان لا بد أن نعود ومعنا أمي إلى بيتنا.
    سنعود معاً، زغرد الفرح في قلبي الصغير، هذا يعني أننا سنمشي سوية في الشارع، في مشهد لم يحدث من قبل على أني بلغت السادسة.
    امتلأت روحي ببهجة عبرت بها أقطار السموات، وعندما خطونا –نحن الثلاثة- أولى خطواتنا خارج بيت جدي بشارع خالد بن الوليد، تملكني شعور أننا في طريقنا إلى الجنة، بل أن مسيرنا هذا هو الجنة عينها.
    اتسعت المسافات أو ضاقت، لست أدري، لكنني أذكر أن كل شبر كنا نعبره كان بمثابة مرقى إلى العلياء، وكان مشهدي وأبي يشد على يدي اليسرى وأمي تشد على اليمنى يشعرني بما أعجز حتى اليوم عن وصفه والتعبير عنه، إنه الإحساس بأني فرد في أسرة، ولست وحيداً منفياً على أعتاب الزمن.
    كانت الغبطة تأسرني ونحن نعبر شارع النصر متجهين إلى شارع الحميدية، وخطواتنا تزيد الحبور حبوراً، حتى سادتني رغبة أن أهتف بكل طفل وطفلة أراهم مع آبائهم: انظروا إلي، ها أنذا مثلكم، ذلك أبي وتلك أمي، نسير معاً نعم نسير معاً، إننا أسرة واحدة، أسرة واحدة حقاً.
    ثم انتهى بنا المطاف عند شارع الحميدية، فلا أنسى ما حييت مشهد المركبات وهي تعبره جيئة وذهاباً وأضواؤها تملأ الجو بشاعرية ليلية، وفي مقابلنا بوابة سوق الحميدية كمغارة فتحت فاها بالكنوز واللآلئ لقاصديها.
    وقفنا في انتظار سيارة الأجرة، والفرحة ما تزال تملؤني، ورغبة عارمة أن يراني كل أطفال الدنيا وأنا أعيش لحظات كلحظاتهم المعتادة، فكم تمنيت أن يمتد الزمن، وكم تمنيت ألا تأتي سيارة الأجرة.
    لكنها أتت، وعدنا إلى بيتنا، وانتهت تلك اللحظات الملوكية الملكية، ولم نخرج معاً من بعدها.
    وما هي إلا ثلاثة أشهر، حتى حلق ملك الموت فوق عمارتنا، وغادرتني اليد الخشنة التي كانت تشد على يدي اليسرى، أوت إلى معراجها الأخروي.
    لكنني كل ليلة قبيل النوم، أذهب في رحلة واجبة دائمة، إلى ليلة شتائية باردة غريبة، مر عليها اليوم ثلاثون سنة، فأتلمس لحظاتها الرهيبة الجميلة، وتملؤني الأماني أن أبقى هناك، فيها، لا أغادرها.
    ولا أزال أحلم كل ليلة وكل حين، بشارع الحميدية وقد امتلأت جنباته بالمركبات التي برزت أضواؤها الشاعرية، وباليد الخشنة التي كانت تشد على يدي اليسرى، وبثلاثتنا.
    وبشيء عرفته تلك الليلة، ولم أذقه بعدها.
    الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
    إمام الأدب العربي مصطفى صادق الرافعي

  2. #2
    أهلاً بالأخ عبد الله
    اسمك ليس غريباً علي
    أذكر أنني قرأت إبداعاتك في أكثر من مكان
    أما قصة الليلة، والتي سحبتها من ذاكرتك الماضية لتطرحها هنا من جديد
    أشهدك أنها تستحق القراءة وتستحق أن تمنحها لحظة إنعاش مرة أخرى
    فقد عشتها وإياك وكأنني أنا التي تقبض تلك اليد الخشنة على معصمي
    رحمة الله على من فقدناهم
    تركوا فيها حفراً عميقة مليئة بالأحداث الجميلة
    نريد أن نراك هنا كثيراً
    فقد طاب لي ما قرأته بقلمك
    تحية ... ناريمان

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •