عندما يدقُّ الناقوس
قال مواسياً نفسه : يا للوحش الضاري يطعن فرسانه في مناطق حساسة ، لا يدع لهم مجالاً للخيار بين ما هو كائن وما يجب أن يكون .
ثم أردف بانفعال بادٍ كما لو أطبق الخناق على عنق زمنه الموحش : ولكنك لن تستسلم يا أبا إبراهيم 00 أبداً لن تستسلم .
لقد أعياه الدوران في الغرفة ، وأرهقه حصرُ أبعادها التي حفظها عن ظهر قلب في محاولةٍ منه لتناسي الواقع العفن .
ثمة بعدٍ رابع تمنى أن يدركهُ ، بعدٌ يُقاسُ به الفقر ، ردّد في نفسه ما قرأهُ لجبران خليل جبران : ( الفرق بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء يوم جوعٍ وساعة عطش ) ولكن متى تكون هذه الساعة ومتى يحلُّ ذاك اليوم ؟!
توقف عند باب الغرفة حيث تمكّن أن يرى أم إبراهيم من خلال الشق الذي اعتاد القط أن يدخل الغرفة من خلاله .
كانت أم إبراهيم تراقب رقصة النار في الموقد الذي صنعته من الطين المشويِّ ، تمنت لو جهنم تصبُّ سعيرها في هذا الموقد وتنتهي من طبخة الشوربة هذه فتسكت صراخ المعدة العائلية الخاوية .
حدجها أبو إبراهيم بنظرة استفهامٍ خانقةٍ وتساءل في نفسه : ترى لماذا تُصِرُّ على أن تجوع هنا ولا ترافقني إلى لبنان ؟ ألن تُبعدَ رأسها عن رأسِ أمها ؟ الى متى ستبقى في رحم الأفكار التي تنشدها لها أمها ؟
أيقن أبو إبراهيم أنَّ المرأة تبقى طفلة أمها مادامت هذه الأخيرة على قيد الحياة ، أو لمجرد أنها قريبة منها .
سحب نفسه إلى بطن الغرفة دون أن ينبث ببنت شفة ، استلقى بجسده الذي أحَسَّه كعودٍ نخرته الديدان ثم هجرته حيث لم يعد به ما يسُدَّ رمقها ، فتحول مع الزمن إلى دهليزٍ يعبره النملُ الجائع ليستقرَّ في رأسِ أبي إبراهيم ، هذا الرأس الذي يضجُّ بالرحيل وراء لقمة العيش.
أطبق عينيه على آلافِ الصور والأفكار ، رأى نفسه فارساً بيده سيفٌ ورمح 00 يشقُّ كفنَ الريح لتكشفَ له عن جزرٍ نائيةٍ مليئةٍ بالماس والذهب 00 كاد يتربع عرش المملكة 00
لكنَّ أم إبراهيم لم تترك له الوقت الكافي ، فنادت بصوتها المدجج بالنشوة والانتصار :هيا إلى الطعام يا أولاد .
وبينما كان الأولاد يتكومون حول طبق الطعام عاد أبو إبراهيم إلى مكانه السابق من الباب ، ليوزع نظره بين الكلب المتمدِّد تحت شجرة الزيتون وبين الموقد الذي خبت ناره للتو، قال في نفسه : إني لأحسدك أيها الكلب اللعين ! لا لأنك تملك قوتك فحسب بل لأنك لا تملك ما يحرِّك فيك أيَّ تفكير ، وأنت أيها الموقد ! ألستَ سعيداً وقد خبت نارك ؟ بينما تعجز كلُّ أجهزة الإطفاء في الكون أن تُوقف احتراقاتي.
وكمن استفاق من حلمٍ مزعج ، استدار خلفاً بصوتٍ عالٍ أخمد أصوات نقر الملاعق في قدر الطعام الذي أوشك على النهاية :
اسمعي يا أم إبراهيم : طالما أحببت أنك تقودي أمورنا 00 ولكن لكلِّ لعبة أصولها وقواعدها 00 فأنا لست كميةً مهملةً 00 إنني نصف هذا البيت 00 وإنَّ لي فيه صوتٌ وكلمة 00 فاسمعي صوتي وتفهمي كلمتي التي لن أتراجع عنها بعد الآن :
سنرحلُ يا أم إبراهيم 00 لم أعد أطيق هذه الحال 00 فلتستعدي للرحيل غداً !!
كان الموقف وليد قرارٍ أدركت أم إبراهيم أنْ لا مجال للحذف أو التعديل فيه ، ولولا أطفالٍ كزغب القطا لما هاجمت المسكينة رسول الموت الذي حضر لتوه بإشارة من قلبها الحزين وطعنته بخنجر الاستمرار في الحياة من أجلهم .
ورغم الموقف الحاسم فلم تجد أم إبراهيم مناصٍ من استشارة أمها أو( معجم أفكارها ) كما كان يسميها أبو إبراهيم.
ولما لم تجد العجوز مخرجاً لقرار صهرها بالرحيل ، اكتفت بالدعاء لأحفادها على أن تسلم ابنتها الأمر لله وتمتطي ذراع المستقبل المجهول الذي لن يتراجع الصهر عن الإبحار فيه .
لم تكد قافلة النهاوند تعبر بالراحلين حتى كانت سحب الأسى ومرارة الوداع تمطر موسيقى أصفهانية في بيت أبي عباس 00 الحقول غصَّت بطالبي الحياة ومقارعي الجوع 00 والراعي خرج بقطيعه على جاري عادته 00 بينما استنكفت زوجته هذا اليوم عن مساعدته في هشِّ القطيع لتنخرط في سلك النسوة اللاتي يعتبرن تطوعهنَّ في التدخل بشؤون الآخرين واجباً تقتضيه الجيرة .
وودَّعتْ أمَّ إبراهيم 00 ولم تنسَ وهي تفعل أن تُسرَّ لنفسها : ( الحمد لله لن أجد نفسي مضطرةً بعد الآن لتقبيل أبنهم الأصغر وأنا مغمضة العينين كيلا أرى مخاطه الذي أرهق أكمامه لكثرة التمسيح بهم )
ظنَّ أبو إبراهيم أنَّ طاقة القدرالبيروتية ستفتح له وربما فعلت ، فقد وجد لنفسه عملاً في حديقة منزلٍ بيروتي مع مسكن له ولأسرته في زاوية من الحديقة ، لكن سرعان ما خاب ظنُّهُ فهو الوحيد المنتج في أسرته وأجره لا يكاد يكفي مصاريف هذه الأسرة وإن فعل فلا توفير.
أيقظ أم إبراهيم التي كانت تغطُّ في نومٍ عميق ، فقد أمضت ليلتيها البيروتيتن السابقتين دون أن يغمضَ لها جفن ، ليس لشوقها لأمها فحسب بل لأنها لم تجد في سقف هذه الغرفة أخشاباً كتلك التي كانت تراها في منزلها واعتادت أن تغفو وهي تعدُّها مرَّات ومرَّات .
ستعودين مع الأولاد إلى سوريا وما إن أُوفر بعض المال ألحق بكم إن شاء الله .
نساء القرية جميعهن يتسابقن لاستقبال أم إبراهيم ، لا يهمُّ إن لم يكن لدى أم إبراهيم ما تقدمه لهنَّ من واجب الضيافة ، المهم أن تحكي لهنَّ تجربتها في بيروت ، فيومين في بيروت يكفيان لما يبغين سماعه .
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لاُم إبراهيم التي لم تكن المساحة البيروتية التي جالت فيها عيناها تتجاوز حدود الجدران الأربعة في المسكن ذي الغرفة الوحيدة ، لكنها استشعرت أنَّ أولئك النسوة لم يكن يُردن سماع إلا ما يطمئنهنَّ على أزواجهن الذين نوين إرسالهم خلف أبي إبراهيم فيما لو نصحتهنَّ بذلك ، فكانت نصيحتها لهنَّ أنْ : (( زيوان البلد ولا حنطة جلب )) .
شهرٌ مضى ، أقلُّهُ في استقبال النسوة وأكثره في ترقب مدخل القط من ذات الثقب وذات الباب الذي كان يترقبه أبو إبراهيم .
رغم ما عانته من قسوة زوجها فهي تحبه وترقب عودته .
قالوا إنّ خبر السوء سريع الانتشار ، وصدق ما قالوا ، فقد أصبح الخبرُ حديث أهلِ القريةِ جميعهم ! أبو إبراهيم تعرض لحادث سير في بيروت 00 رجلاه مكسورتان 00 في حالة ثبات 00 والبعض على ذلك زاد .
هده المرَّة لم تكن أم إبراهيم لتنتظر الرأي من أمها ، وبلا أي ترتيبات يستلزمها السفر وجدت نفسها على الطريق العام بعد أن قطعت مسافة تجاوزت الكيلومترات الخمس من قريتها إلى هذا الطريق ، استقلت إحدى الحافلات المتجهة إلى بيروت حسبما أفاد بعض الشهود ، وما إن أخذت مكانه في الحافلة حتى مدّت يدها إلى جيبها الذي سبق أن خرجت منه يدُ زوجة الراعي وهي تدسُّ فيه بعض النقود ، فحمدت الله أم إبراهيم أن لا مشكلة وقد وجدت معها مصاريف الطريق .
ويمضي شهرٌ يعقبه آخر ويعود أبو إبراهيم 000 ولكن !! ما عادت أم إبراهيم .
رغم عناء السفر ورغم علمه بأن ما وفره من مالٍ خلال الشهري الماضيين بالكاد يكفيان مصاريف الطريق رجع للتوِّ إلى بيروت بحثاً عن زوجته التي لحقت به لتكون إلى جانبه في المشفى الذي أسعف إليه تضمد جراحه بدموعها . ولكن عبثاً حاول إيجادها . فعاد محملاً بالخيبة والفاجعة ، لقد أصيبت أم إبراهيم بانفجار قذيفةٍ مصدرها أحد أطراف النزاع في الحرب الأهلية اللبنانية ، وتبعثر جسدها الطاهر ضمن أشلاء عشرات الأجساد ، هذا ما علمه أبو إبراهيم من السلطات اللبنانية .
نسوة القرية اللاتي اجتمعن لسماعِ أم إبراهيم لم يجتمعن هذه المرّة لتقديم واجب العزاء ، رآهنَّ أحدهم مجتمعات في جلسةٍ تديرها زوجة الراعي التي ختمت الجلسة بالقول : رحمك الله يا أم إبراهيم 00 حقاً إنَّ زيوانٍ البلد خيرٌ من حنطة جلب .
وأما أبو إبراهيم فقد عاد على ترقب مدخل القط من ذات الثقب وذات الباب ويقول في نفسه : لا أعلم إن كان واجباً أن أرمي الحصوة تلو الأخرى في بئرٍ يسمونه المجهول ؟ لا أعلم 00ولا أعلم إن كنت أعلم .
وبينما سارت به ذراعاه إلى حيث يتمكن من تطويق أطفاله ، قال بصوتٍ عالٍ وهو يدرك أنْ لاغيره يسمع :
عندما يدقُّ الناقوس لابدَّ من السير باتجاه الكنيسة .
الأخطل الحمصي