جمعتكم مباركة
بعد غياب المشايخ المعتدلين في غزة عن القيام بدورهم الشرعي لتصويب القضايا المختلفة. وترك المجال الشرعي لاجتهادات السياسيين الذين لا تنطبق عليهم شروط الاجتهاد.

الشيخ الداية في بيان له. ينتقد أسامة حمدان في تخوينه منتقدي الحرب من الغزيين.

يأتي انتقاده بعد انتقاد مشابه لمفتي خان يونس إحسان عاشور للصوصية التي تمتص دماء الناس في الحرب.

أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (1)
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:

عرضت وسائل الإعلام تصريحات لبعض ساسة بلدنا، بعيدة عن الهدى؛ فرأيت أن أعلّق عليها؛ ليستبصر النّاس بما أظنّه الحقّ، واللّه أسأل السّداد.

قال أحدهم: "أيّها الإخوة، أيّتها الأخوات: قد يتحدّث البعض من الجبناء والضّعفاء: ألم يكن من الأسلم ألّا نقاتل، وأن نقبل بالوضع الّذي كان قائماً بدل أن نفقد هذه الأرواح؟ قد يقول ذلك بعض المغفّلين.

لكنّني أصارحكم القول: إنّ من يطلقون مثل هذا القول إنّما تحرّكهم غرف سوداء ترتبط بعدوّنا، ربّما تستقرّ في بعض عواصمنا، لكنّها ترتبط بعدوّنا، ومهمّتها أن تضعف هذه الأمّة وعلوّ همّتها، وفيهم يقول الله تعالى: ï´؟لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا ‌خَبَالًاï´¾ [التوبة: 47].
وخلّينا نتكلّم بواقع بسيط: عام 2022م؛ لم تكن هناك عمليّة طوفان الأقصى، ولم تكن تقاتل المقاومة في الضّفّة، في هذا العام وحده 500 شهيد على حواجز جيش الاحتلال في الضّفّة فقط، بمعنى: أنّ الضّريبة تدفع، لكن! عليك أن تختار أن تدفعها حرّاً مجاهداً مقاوماً منتصراً بإذن الله، أو أن تدفعها ذليلاً خائباً خاسراً".

أذكّر أخي قائل هذا النّصّ: بأنّ جهاد الشّوكة له أركان، وأسباب، وشروط، ومقاصد، وموانع.
فمن أركانه: القائد، والجند، والأرض، والسّلاح، والحربيّ، أو المحارب (الباغي)، أو المفسد في الأرض (قاطع الطّريق)، أو الصّائل.
ومن أسبابه: العدوان على الدّين، أو النّفس، أو العرض، أو الأسر، أو الأرض، أو المال.
ومن شروطه: الإيمان والإخلاص، وصلاح الأنفس، واجتماع الكلمة، ورصّ الصّفّ، وتأهيل الجند، وقوّة الشّوكة، وتأمين الأجناد طعامًا وشرابًا ودواءً ولباسًا، وثغورًا وملاذًا آمنًا بعيدًا عن البيوت المأهولة، والأبراج المسكونة، والمدراس المزحومة، والمشافي المكتظّة، وسبل امّداد بالعدد والعتاد والأجناد، والابتعاد غاية الوسع عن الآمنين وأماكن إيوائهم، وتوفير أسباب الأمن والسّلامة للآمنين ما أمكن ذلك في مناحي الحياة المختلفة.. الأمنيّة، والاقتصاديّة، والصّحّيّة، والتّعليميّة، وادّخار المؤن الّتي تكفيهم مدّةً زائدةً عمّا يتوقّعه أهل الرّأي والمشورة في شأن الحرب.
ومن مقاصد الجهاد الّتي شرع لأجلها: دفع الأخطار عن الدّين، والأنفس، والأعراض، والذّراريّ، والأموال، وفكّ الأسرى، وتحرير المسرى، وحفظ دور العبادة، وتأمين الحدود، والسّيطرة على الموانئ الّتي تمكّن النّاس من تحقيق مصالحهم.
ومن موانعه: اختلال أركان الجهاد أو بعضها، أو العجز عن دفع أسبابه أو بعضها، أو اختلال شروطه أو بعضها، أو تخلّف مقاصده.
فمتى غلب على الظّنّ تخلّف أهداف الجهاد ومقاصده؛ لاختلال أو تخلّف ما ذكرنا من الأركان أو الأسباب أو الشّروط؛ لزم اجتنابه، ويتأكّد اجتنابه إذا غلب على الظّنّ حصول ما يناقض مقاصده، كزيادة المفسدة على الدّين، أو النّفس، أو العرض، أو الذّرّيّة، أو المال، أو اغتصاب الأرض، فضلًا عن تدمير مقوّمات الحياة، وهذا أمر يسهل تقديره لدى ساسة بلدنا وقادته بمراجعتهم لاعتداءات أهل الحرب على الضّفّة والقطاع في منازلات سابقة كانت أخفّ بكثير من حدث السّابع من أكتوبر، وكانت تقابل بأعداد من الشّهداء والجرحى، ونسف البيوت والأبراج، ونزوح النّاس أيّامًا وشهورًا إلى المدارس والمشافي والأخبية المركّبة، وتجريف الحوائط، وتشديد الحصار، ومراقبة دخول الأموال، والتّحكّم بأموال المقاصّة، وتقييد حركة العمّال والمسافرين، والتّحويلات العلاجيّة إلى مشافي الضّفّة وغيرها من مشافي بلادنا العربيّة المتاحة، ولم يتحقّق شيء قطّ ممّا كانت تعلنه المقاومة في حينه من أهداف استفزاز عدوّهم وإغضابه وطلب حربه، فإذا كانت ردّة فعل أهل الحرب بإحداث مفاسد عظيمة لأسباب أيسر بكثير من حدث يوم السّابع من أكتوبر؛ فإنّ هذا يفتح على كلّ عاقل أنّ ردّة فعلهم في حال حصول حدث أكبر من سابقاته سيكون حجم ضرره أشدّ بأضعاف كثيرة في الأنفس، والممتلكات، ومقوّمات الحياة، والتّضييق على الأسرى وزيادة أعدادهم.
وحتّى يطمئنّ القارئ لما قدّمت بشأن مراعاة مقصد الجهاد، وأنّ حكمه يدور مع مقصده وجودًا وعدمًا؛ أذكر الدّليل عليه من الكتاب والسّنّة:
قَالَ تَعَالَى: ï´؟الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ‌ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَï´¾ [الأنفال: 66].
أفادت الآية بمنطوقها وجوب ثبات المؤمنين عند لقاء عدوّهم في حال كون عدوّهم ضعفهم أو أقلّ من ذلك، وقد أذن اللّه للمؤمنين في حال تخلّف مقصد الجهاد بالفرار من عدوّهم؛ للتّحرّف إلى مكان يسعفهم في الغلبة وحصول النّكاية، ويلحق به التّزوّد بالعدّة والعتاد، أو بالتّحيّز إلى فئة مؤمنة؛ لاستكثار عدد الأجناد؛ رجاء تحقيق أهداف الجهاد ومقاصده. فإن فرّوا لغير ذلك؛ حرم ذلك، وتعرّضوا لغضب اللّه وعذاب النّار؛ لقوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ‌الْأَدْبَارَï´¾ [الأنفال: 15]، وكان فرارهم كبيرةً موبقةً؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌اجْتَنِبُوا ‌السَّبْعَ ‌الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ... وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ...) [أخرجه: البخاري/صحيحه(2766) (4/ 10)، مسلم/صحيحه(89)(1/64)]
وأفادت الآية بمفهومها: إذا كان أهل الحرب فوق ضعف المؤمنين؛ جاز للمؤمنين الفرار مطلقًا؛ لتحرّف أو تحيّز، أو لمجرّد السّلامة والعافية؛ لأنّ كثرة العدد مظنّة القوّة الغالبة، وتخلّف أهداف الجهاد؛ فكان الإذن بالفرار مطلقًا، ولا يعدّ فرارًا مؤثّمًا؛ لمفهوم الآية، وَلِأَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «إِنْ فَرَّ رَجُلٌ ‌مِنْ ‌رَجُلَيْنِ ‌فَقَدْ ‌فَرَّ، وَإِنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ». [صحيح، أخرجه: سعيد بن منصور/سننه- بداية التفسير(1001)(5/ 226).]
ولحق بكثرة العدد: قوّة الشّوكة، مع غياب التّقارب فيها بينهم وبين عدوّهم؛ لأنّها مظنّة الغلبة والقهر بالأولى، فكيف إذا انتظم لعدوّنا كثرة العدد، وقوّة الشّوكة!
فإذا جاز الفرار عند تخلّف المقصد؛ جاز ترك قتالهم ابتداءً، وعدم إذعارهم على المؤمنين، ويتأكّد هذا الحكم إذا ترجّح للمؤمنين تخلّف أهداف جهادهم، وحصول النّكاية فيهم، وزيادة المفسدة في مصالحهم؛ يسعنا في ذلك ما وسع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ترك جهاد عدوّه في مكّة، والسّنّة والنّصف الأولى من هجرته إلى المدينة النّبويّة، وليس لهذا تفسير غير تخلّف مقصد الجهاد؛ لغياب أسباب تحقيقها؛ إضافةً إلى حاجته صلى الله عليه وسلم الملحّة في تحقيق فهم الدّين في صدور المؤمنين، وتوثيق صلتهم بربّ العالمين، ونفي رواسب الجاهليّة، وتأليف القلوب على حبّ الله ونصرة الدّين، ونبذ الفرقة، وترسيخ ملائكيّة التّعامل في الأقوال والسّلوك.
يا أخانا الكريم: إنّ هذا الفهم هو ما جرت به أقلام الفقهاء من قبل:
قال ابن عابدين رحمه الله: "يجب على الإمام أن يبعث سريّةً إلى دار الحرب كلّ سنة مرّةً أو مرّتين... وهذا إذا غلب على ظنّه أنّه يكافئهم، وإلّا فلا يباح قتالهم". [ابن عابدين/حاشية رد المحتار (3/337)]
وقال العزّ بن عبد السّلام رحمه الله: «‌انهزام المسلمين من الكافرين مفسدة، لكنّه جائز إذا زاد الكافرون على ضعف المسلمين مع التّقارب في الصّفات؛ تخفيفًا عنهم؛ لما في ذلك من المشقّة، ودفعًا لمفسدة غلبة الكافرين لفرط كثرتهم على المسلمين». [العز بن عبد السلام/قواعد الأحكام في مصالح الأنام(1/ 111).]
وقال رحمه الله: «التّولّي يوم الزّحف مفسدة كبيرة لكنّه واجب إذا علم أنّه يقتل من غير نكاية في الكفّار، لأنّ التّغرير بالنّفوس إنّما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدّين بالنّكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النّكاية وجب الانهزام لما في الثّبوت من فوات النّفوس مع شفاء صدور الكفّار وإرغام أهل الإسلام وقد صار الثّبوت ههنا مفسدةً محضةً ليس في طيّها مصلحة». [العز بن عبد السلام/قواعد الأحكام في مصالح الأنام(1/ 111).]
وقال الرّافعيّ في الشّرح الكبير رحمه الله: "قال الإمام -أي الشّافعيّ-: إن كان في الثّبات الهلاك المحض من غير نكاية في الكفّار؛ لزم الفرار" [المرجع السابق]
وقال الشّيرازيّ رحمه الله: "وإن زاد عدد الكفّار على مثلي عدد المسلمين، فلهم أن يولّوا؛ لأنّه لماّ أوجب الله عزّ وجلّ على المائة مصابرة المائتين؛ دلّ على أنّه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين". [الشيرازي/ المهذب (5/248، 249)]
وقال الخطيب الشّربينيّ رحمه الله: "إذا زادت الكفّار على الضّعف ورجي الظّفر بأن ظننّاه إن ثبتنا؛ استحبّ لنا الثّبات، وإن غلب على ظنّنا الهلاك بلا نكاية؛ وجب علينا الفرار، لقوله تعالى: ï´؟وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِï´¾ [الْبَقَرَةُ: 195] أو بنكاية فيهم؛ استحبّ لنا الفرار". [الشربيني/مغني المحتاج (4/226)]
وقال ابن جزيّ رحمه الله: "وإن علم المسلمون أنّهم مقتولون؛ فالانصراف أولى، وإن علموا مع ذلك أنّهم لا تأثير لهم في نكاية العدوّ؛ وجب الفرار، وقـال أبـو المعالي: لا خلاف في ذلك". [ ابن جزي/ القوانين الفقهية (1/165)]
وقال الشّوكانيّ رحمه الله: ومعلوم أنّ من أقدم وهو يرى أنّه مقتول أو مأسور أو مغلوب؛ فقد ألقى بيده إلى التّهلكة". [الشوكاني/ السيل الجرار (4/529)]

أخي صاحب هذا النّصّ: أرى الهمّة عاليةً، والوجه صبوحًا، وحمرة الوجنتين ظاهرةً، والنّبرة الخطابيّة تؤذّن بارتياح القلب وانشراح الصّدر كأنّها فرحة الظّافر بنصر حقّق لشعبك الأمن والسّلامة في مناحي حياتهم، وحرّر الأسرى، وأغلق بابهم أمام عدوّهم، ورفع الضّيم عن الأقصى، والحقيقة على خلاف ذلك؛ فقد بات شعبك كلّه بين مريض في نفسه أو عضوه، أو مشوّه في بدنه، أو مختلّ في عقله، أو حزين في قلبه، أو مجرم في طبعه، أو جبّار في تجارته أو عاد على أقوات المنكوبين، أو عاقر على بيوت النّازحين، أو متخدّر بالمفتّرات والعقاقير، أو نافرة من أهل التّديّن، أو مرتدّ عن الدّين، فضلًا عن أعداد مذهلة من الشّهداء والمقطّعين، وأعداد من الأرامل واليتامى المحزونين، مأساة لو انتهت الحرب في مساء هذا اليوم؛ ستبقى عذاباتها عشرات السّنين.

يا أخانا: كنت أرجو أن يكون جهادنا في تحقيق ملائكيّة الواقع فهمًا وسلوكًا، وجمعًا للكلمة، وتوثيقًا للأخوّة، ونبذًا للفرقة، وتوثيقًا لصلتنا باللّه، وتحرّراً للمنبر الدّعويّ من وظيفته الفئويّة، والتّنظيرات السّياسيّة، ومراعاةً لتحقيق التّوازن العلميّ الشّرعيّ المستمدّ من نصوص الوحي بفهم الأئمّة السّابقين، وتسخيراً لمواهب النّاس في نجاح مصالحهم في مناحي الحياة المختلفة، في مجتمع محبوس من كلّ جهاته، ويستمدّ جميع مقوّمات حياته من عدوّه إلّا الهواء، وحرصاً على توثيق التّعاون بيننا وبين بلادنا العربيّة، ومنح فرصة لحكومة أبويّة لا تنتمي لحزب قطّ، ويكون النّاس من حولها؛ فإنّ هذا أمضى سلاح في تعجيل الفرج ودفع الحرج، فإذا تحقّقت ولاية الإنسان منّا عند ربّه، وغابت عنه أسباب القوّة المؤهّلة في دفع أخطار عدوّه؛ فحسبنا اللّه القويّ المتين؛ فإنّه خير كفيل وأقوى ناصر ومعين، وهو القائل في الحديث القدسيّ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا؛ فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ).[أخرجه: البخاري/صحيحه (6021)(20/158)]

وفي الختام: لم أكن أتوقّع من سياسيّ هذا القذف العامّ لكلّ من يتوجّع لفداحة المصاب بالعمالة والنّفاق والجبن والضّعف لمجرّد أن يقول: ليتنا بقينا على الحال الّتي كنّا عليها قبل نازلة الحرب هذه، فهذه توجّعات الأكثر من النّاس بعدما ذهبت بيوتهم، وقضى أحبابهم، وتلوّن فيهم الابتلاء، فلا أظنّ أحدًا من أهل الطّبّ والهندسة والحقوق، والوجاهة والمخترة، والشّيوخ والعجائز، والأرامل واليتامى لم يقل هذا أو لم يتمنّه بقلبه.

أسأل اللّه تعالى أن يردّنا إلى الجادّة، ويعجّل بالفرج؛ آمين.
أ.د. سلمان بن نصر الداية

أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (2)

وقال أيضاً في تصريح آخر: "ما لازم حدا يتخيّل أنّ التّضحيات أن يستشهد الشّعب أو تستشهد النّساء والأطفال، التّضحيات أوّلاً يجب أن تنظر إليها في صفوف المقاتلين والمجاهدين، وفي صفوف القيادة"!!!

وهذا فهم بعيد عن الصّواب؛ فإنّ فقه الأئمّة السّابقين يكشف عن حقيقة؛ أنّ القائد والأجناد على جلالة موقعهم في الإسلام؛ قد أقيموا لحراسة مصالح أمّتهم، ومن أهمّها بعد الدّين: حفظ الأنفس والذّراري والأعراض، ثمّ الأموال وأنواع المتاع؛ لأنّ مصلحة عموم النّاس أعمّ وأكبر، وما أذن للقائد أن يجتهد اجتهادًا قطّ، ولا أن يسخّر أجناده إلّا في نجاح مصالح أمّته، والاهتمام بأسباب حفظها من جانب الوجود؛ بأن يسعى لهم في تحصيل كلّ نافع ومليح، ومن جانب العدم؛ بأن يدرأ عنهم كلّ ضارّ وقبيح، ولا يحمد القائد إلّا بموافقة حكم الشّارع الحكيم وقصده من التّشريع، ولا ينجو من غضب الجبّار إلّا بذلك، ولا ينجو من دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا بذلك؛ [عَنْ عَائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا ‌فَرَفَقَ ‌بِهِمْ ‌فَارْفُقْ ‌بِهِ). أخرجه: مسلم/صحيحه (1828)(6/ 7).] فواللّه ما شرعت أحكام الدّين إلّا لحفظ مصالح الإنسان على استقامة واعتدال، وروعي فيها مصلحة كلّ ذات كبد رطبة، يدلّك على هذا: أنّ الله عذّب بالنّار امرأةً تهاونت في حفظ هرّة، وعفا عن بغيّ أنقذت كلباً. [عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (‌دَخَلَتِ ‌امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا أَوْ هِرٍّ رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ‌حَتَّى ‌مَاتَتْ هَزْلًا). أخرجه: البخاري/صحيحه(3318)(4/ 130)، مسلم/صحيحه(2619)(8/97)، وفي رواية: (وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ‌حَتَّى ‌مَاتَتْ هَزْلًا). أخرجه: مسلم/صحيحه(2619)(8/ 35).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا). أخرجه: مسلم/صحيحه(2245)(4/ 1761).]

واللّه ما أذن الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بتكليف فوق طاقة الإنسان، ومنع عنه كلّ مشقّ محرج؛ فقال تعالى معذراً: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاï´¾ [البقرة: 286]، وقال سبحانه: ï´؟مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍï´¾ [المائدة: 6]، وقال سبحانه: ï´؟فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْï´¾ [التغابن: 16].

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ...)، [صحيح، أخرجه: أبو داود/سننه(1368)(2/ 48)، وأصله في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (... وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، [أخرجه: البخاري/صحيحه(7288)(9/ 94)، مسلم/صحيحه (1337)(2/975).] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالَهَا ثَلَاثًا. [أخرجه: مسلم/صحيحه(2670)(4/ 2055).]
وقالت القاعدة الفقهيّة: "كلّ ما أمر اللّه به أو نهى عنه؛ فإنّ طاعته فيه بحسب الإمكان". [ابن تيمية/مجموع الفتاوى(31/ 39).]
وقالت قاعدة أخرى: "كلّ تصرّف تقاعد عن تحصيل مقصوده؛ فهو باطل". [العز بن عبد السلام/قواعد الأحكام (2/293).]
وقالت قاعدة أخرى: "اجتهاد الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة". [ابن نجيم/الأشباه والنظائر(ص140)، السيوطي/الأشباه والنظائر(ص121)، الزركشي/المنثور في القواعد الفقهية (1/309).]
وقال الشّاطبيّ ط’: "كلّ من ابتغى في تكاليف الشّريعة غير ما شرعت له؛ فقد ناقض الشّريعة، وكلّ ما ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التّكاليف ما لم تشرع له؛ فعمله باطل". [الشاطبي/ الموافقات (3/27-28).]

أ.د. سلمان بن نصر الداية

أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (3)

وقال آخر: "إنّ خسائرنا تكتيكيّة، وخسائر عدوّنا استراتيجيّة"!
ومعنى قوله فيما أظنّ: أنّ خسائرنا في غزّة والضّفّة وسيلة من وسائل مقاومتنا الّتي تقودنا إلى النّصر، وهي يسيرة إذا قورنت بخسائر عدوّنا، سيّما أنّها مخلوفة ما دام النّساء يلدن، وأهل الإحسان والمعروف يقيمون ما ذهب من العمران، ويعوّضون ما هلك من الأموال!
ولأهلنا في غزّة والضّفّة على صبرهم وجهادهم أجر عظيم عند الله في الآخرة.

أقول: لا أظنّ أنّ للقائل سلفاً في هذا الفهم، ويكفي في دفعه: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ ‌أنْ ‌يُذِلَّ ‌نَفسَهُ) قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ). [صحيح، أخرجه: الترمذي/سننه(2254)(4/ ظ¥ظ¢ظ£).]

وأقول بأمانة الكلمة: لقد ذاق أهل القطاع ألواناً من الذل، منها: التهجير المكرور الذي يلازمه الهلع، وبكاء النساء، وصراخ الصغار، وحيرة القلب، إلى أين يكون التوجه، وهل يكون أوفر أمناً. ومنها: التجويع الذي دفع الرجال وبعض النساء أن يتعرضوا للموت أثناء اتباعهم لشاحنات المساعدات، فقليل من يفلح بكيس من الطحين، والبعض يعود محمولاً على الأكتاف، والأكثر يعود خالي الوفاض، حتى اضطر الناس لأكل علف الدواب وأوراق الشجر وبعض أنواع النبات، ومنها: كشف عورات الرجال والنساء تحت قهر السلاح في البيوت والطرقات؛ وأشد منه: اغتصاب بعض العذارى والثيبات، وقد حصل لبعضهن حمل من علوج أهل الحرب، وأشد منها: قهر بعض الأسرى باللواط بعدما يذيقونهم ألوان العذاب. ومنها: تسليط العملاء على أملاك النازحين بسرقة المنازل والمؤسسات، وتبعهم على ذلك نُخالة الناس. ومنها: نزوح كثير من الناس إلى المشافي والمدارس والملاعب والجامعات والطرقات، واسمح لنفسك أن تتفكر في حالهم حين النوم والأكل والخلاء وفيهم الشيوخ والعجائز والصبايا والصغار. ومنها: ذل النازحين في الخيام غير الواقية في الغالب من حر صيف ولا برد ومطر شتاء، أضف إليه قلة الماء والتزاحم على الكنف، وأمراض النفس والبدن. ومنها: وجع المصاب الذي يستصرخ يطلب الغوث أمام الأهل والقرابة والجيران، وربما سارعوا إليه فهلكوا، أو تركوه يهلك وحملوا بعده الحسرة والألم مدى السنين والأيام. ومنها: انتهاك حرمة الشهداء المبعثرين في الطرقات أو تحت الركام ولا أحد يطيق مواراتهم حال اشتداد القصف، لتكون بعض أجسادهم غذاء للهرر والكلاب، وهم في أحسن أحوالهم يُلْقَوْنَ في حفرة، ثم يُهَالُ عليهم التراب، وربما أُتبعوا بجارفات أهل الحرب ليختلطوا في أكوام التراب.
بينما خسائر عدوّنا عظيمة، وملازمة له حتّى تأتي عليه وتمحو كيانه، ألا تروه قد افتضح أمره أمام حكومات العالم الّتي تتمتّع بالنّزاهة، وشعوبها الّتي تملك أسباب التّغيير والتّأثير الفاعل على حكوماتها؛ لتأخذ بصرامة على يد أهل الحرب!!!

وقد رفعت ضدّهم الشّكاوى في المحاكم الدّوليّة، وبات يتقرّر في أذهان أرباب المؤسّسات الحقوقيّة والقضائيّة أنّ ما أوقعه أهل الحرب في قطاع غزّة هو جريمة إبادة جماعيّة؛ ولذلك بدا تفاعل من القضاة والمؤسّسات الحقوقيّة أسفر عن أحكام عقابيّة زجرت أهل الحرب عن كثير من فظائعهم، خفّف من معاناة أهلنا، وأذهب غيظ قلوبهم!!!

وأنّ ثمّة شيئاً أعظم ممّا تقدّم: هي مظاهرات الطّلبة في الجامعات الدّوليّة الّتي ساهمت هي أيضاً في تخفيف المعاناة، والحدّ من هلاك الأنفس والإصابات، ودمار البيوت والمؤسّسات في قطاع غزّة والضّفّة، وأرعبت أهل الحرب وكبحت جماحهم؛ فخفّت ضراوة قصفهم، وباتوا لا يستعملون معنا إلّا قنابل الصّوت، وهدير الطّائرات، وأحرجت تلك المظاهرات الدّول الدّاعمة لأهل الحرب بالسّلاح؛ فكفّوا عن ذلك، وما عادت قوافل الطّائرات المحمّلة بالذّخائر وأسلحة الدّمار تهبط في مطارات أهل الحرب، ففرح أهلنا في غزّة والضّفّة أيّما فرح!!!

والحقّ أنّ ما يراه السّاسة إنجازًا ممّا ذكرنا وغيره؛ لم يؤثّر على أهل الحرب، ولم يمنعهم من ضراوة إبادتهم للأنفس والممتلكات، ولم يكترثوا له؛ بل كانوا يقابلونه بالنّقيصة، وتمزيق القرارات في وجه مقرّريها، وأحيانًا يتبعونها بالتّهديد.

أ.د. سلمان بن نصر الداية

أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (4)

وآخر يقول: "نحن على استعداد أن نكون كأصحاب الأخدود"!!!

والاستشهاد بأصحاب الأخدود في هذا الموضوع لا يستقيم؛ فغلام الأخدود رحمه الله كان من قوم كافرين، وهيّأ الله له من أسباب الهداية راهباً دلّه على الله، وأرشده إلى دينه؛ فآمن واستسلم، فعلم بأمره ملك زمانه، ومارس عليه أساليب قاتلة بيقين على مرأىً من النّاس أجمعين، ولم يهلك الغلام، فشدّ النّاس أمره، وثار عندهم التّعجّب والفضول.. من ذا الّذي يمنعه من الهلاك من أسباب جرت السّنن الكونيّة على أنّها مهلكة بيقين، فانتهز الغلام المستبصر هذه الفرصة؛ لينصر بها دين الله، وينقذ المهج من النّار، فأغرى الملك بطريقة يهلك بها الغلام ويتحقّق بها مراد الملك، لكن على مسمع ومرأى من النّاس أجمعين، فأطاعه الملك، وقال الغلام لمن تهيّأ لتنفيذ الجريمة قل: بسم الله ربّ الغلام، وارمني؛ فسأقتل، ففعل وقتل الغلام، ودخل النّاس إثر ذلك في دين الله أفواجاً يهتفون: آمنّا بربّ الغلام، فأهلكهم الطّاغية مؤمنين مستسلمين لله.

وقبل التّعليق أقول: هذا حدث قد كان في شرع من قبلنا، والعلماء في شريعتنا مختلفون؛ هل شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون مصدراً تشريعيّاً تبنى عليه الأحكام في موضوعه أو لا؟ على مذهبين:
الأشهر: أنّه ليس مذهباً لنا إلّا أن يقوم دليل من القرآن أو السّنّة يقرّه مصدراً معتبراً في شريعتنا. [قال به الشافعي في أصح قوليه، وأحمد في رواية، وارتضاه الغزالي والآمدي والنووي والإسنوي.]
والثّاني: هو مصدر معتبر من مصادر شريعتنا ما لم يرد ما ينسخه. [قال به أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في قوله الثاني، وأحمد في رواية.]

ولو سلّمنا أنّه مصدر معتبر في شريعتنا باتّفاق؛ فلا يستقيم الاحتجاج بحادثة أصحاب الأخدود في نازلة الحرب هذه؛ لأنّ للجهاد في الإسلام ضوابط ومقاصد نطقت بها أدلّة السّمع وقواعد الفقه، وصرّح بها الأئمّة الفقهاء، على أنّ نازلة الحرب هذه حصلت في قوم مؤمنين، وكان من تداعياتها ما يناقض مقاصد حادثة الأخدود: ردّة شريحة من النّاس عن الدّين، ونفرة شريحة أوسع اشتدّ بغضها لأهل التّديّن الّذين تسبّبوا بهذه النّازلة، ناهيكم عن غيرها من المفاسد، ومن شرّها: هلاك الأنفس وتشوّه الأبدان، وأمراض النّفس والعضو، ونسف مقوّمات الحياة الهانئة في القطاع، وأسر عدد كبير من رجال قطاع غزّة والضّفّة قد تعرّضوا إلى أبشع ألوان العذاب.

قال ابن تيميّة رحمه الله:"فلا رأي أعظم ‌ذمًّا من رأي أريق به دم ألوف مؤلّفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين، لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عمّا كان، وزاد الشّرّ على ما كان". [ابن تيمية/منهاج السنة النبوية(6/ 112).]

أ.د. سلمان بن نصر الداية

أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (5)

وقال قائل منهم: "إنّ جلّ أهل قطاع غزّة من اللّاجئين، وإنّ مسؤوليّة حفظهم مناطة بالاحتلال، والأمم المتّحدة"!!!

وهذا تعبير يشي بالتّنصّل من مسؤوليّة حفظهم، الأمر الّذي يبرّر لهم جهاد عدوّهم مع صرف النّظر عن حجم الخسائر أيّاً كانت في الأنفس، أو الأعراض، أو الحرّيّات، أو الممتلكات؛ لكونها ليست ضمن مسؤوليّاتهم.

والحقّ أنّ إدارة القطاع تحت سلطانهم وضمن مسؤوليّاتهم، وهم مكلّفون شرعاً باجتهاد صالح يتحرّون به حفظ مصالح قطاعهم في مناحي الحياة المختلفة، ومراعاة الوسائل الصّحيحة في نجاح ذلك، ودفع العوائق الّتي تحول دون تحقيقها، ومن أهمّها الطّريقة المتّبعة في جهادهم وهي اتّخاذ أهل القطاع سترةً يتّقون بها ضراب عدوّهم، سواء في الأنفاق المتّخذة تحت البيوت والأماكن الحيويّة، أو الانغماس في البيوت المأهولة، أو أماكن الإيواء والنّزوح، وقد جرت عادة أهل الحرب أنّهم لا يتوانون عن قصف أيّ مكان يتحصّنون فيه، أو يستترون به دون اكتراث لحجم الكارثة النّاشئة عن قصفهم.
ومن العوائق الّتي تحول دون حفظ مصالح القطاع: تعامي القادة عن أنّهم في حصار مطبق، وليس ثمّة من معين ولا موافق له من دول الطّوق؛ ليكون عوناً لهم ومدداً، الأمر الّذي يجعل المواجهة مع عدوّهم خاسرةً على الدّوام.
وليت شعري لو أنّ هؤلاء تدبّروا هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وقد حوصر كحصارنا، ونهى أصحابه أن يذعروا عليه الأحزاب، فيستعرّوا أن يعودوا من حيث أتوا دون نكاية بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وصحبه. [عَنْ حُذَيْفَةَ بنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟)، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقَالَ: (قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ)، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ)، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ)، ‌وَلَوْ ‌رَمَيْتُهُ ‌لَأَصَبْتُهُ فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: (قُمْ يَا نَوْمَانُ). أخرجه: مسلم/صحيحه (1788)(5/177).]

قال بعض أهل العلم: "من قاتل بغير نجدة، وخاصم ‌بغير ‌حجّة، وصارع بغير قوّة؛ فقد أعظم الخطر، وأكبر الغرر".
وقال آخر: "ليس من القوّة ‌التّورّط في الهوّة، ومن لم يتأمّل العواقب بعين عقله؛ لم يقع سيف حيلته إلّا على مقاتله".

وقال آخر: "‌تفكّر ‌قبل أن تعزم، وتدبّر قبل أن تهجم؛ فإنّه من لم ينظر في العواقب؛ فقد تعرّض لحادثات النّوائب"، نسأل الله تعالى اللّطف والعافية. [الوطواط/غرر الخصائص الواضحة (ص 436-442).]

أ.د. سلمان بن نصر الداية

أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ (6)

وصرّح آخر بطمأنينة وارتياح: "أنّ رأس مالهم الأساسيّ هو الشّعب الفلسطينيّ، وأنّها ورقة ضغط في أيديهم، حتّى لو قتل المحتلّ عشرين أو مائة ألف آخرين"!!!

أليس هذا التّعبير يشي بأنّ الإنسان في غزّة ملك لهذا ولأصحابه، وأنّه غافل عن أمانة الإنسان وكرامته، فلا عليه لو مضى في طريقته ولو أودت بهلاك مائة ألف نفس، ولم يتّعظ أنّ طريقته لم تحقّق أيّ هدف من أهداف جهاده المعلنة؛ بل تعاظمت مفاسدها عمّا كانت عليه سلفاً، إلّا ذلك الهدف العظيم عندهم: أنّ قضيّة فلسطين قد تصدّرت قضايا العالم النّزيه العادل في المحافل الدّوليّة ومؤسّساتها!!

وبات سقف المطلب عنده وإخوانه: خروج أهل الحرب من قطاع غزّة.
وخفي عليه أنّ الجهاد ما شرع إلّا لحفظ النّفس ومصالحها الدّينيّة والذّاتيّة والماليّة، وضروريّات إقامتها، وأنّه لا يشرع الجهاد في حال العجز عن تحقيق ذلك؛ وللّه درّ عمر الفاروق رضي الله عنه؛ فقد تعدّى حرصه سلامة مصالح الإنسان حتّى بلغ مصالح الحيوان، وكان يؤرّقه أن تعثر شاة في بلاد العراق أن يسأله الله عنها، فقال رضي الله عنه: "‌لو ‌ماتت ‌شاة على شطّ الفرات ضائعةً؛ لظننت أنّ الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة". [حسن بمجموع طرقه، أخرجه: أبو نعيم/حلية الأولياء (1/ 53).]

أيّها السّاسة: اتّقوا الله، وتذكّروا قوله تعالى: ï´؟وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَï´¾ [الصافات: 24]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ï´؟أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَï´¾ [المطففين: 4-6].

وتذكّروا أنّ أقدس الأمانات بعد الدّين أمانة النّفس، وأنّ زوال الدّنيا أهون عند اللّه من قتل نفس واحدة بغير حقّ.. قتلًا بالمباشرة، أو بالتّسبّب، أو بالتّرك والتّهاون.

فهلّا تواضعتم، وقدّمتم مصالح العامّة الّتي باتت تحتضر، ويتهدّدها الموت من كلّ مكان من الجوّ والبرّ والبحر، من خارج القطاع- أعني: أهل الحرب-، ومن داخله- أعني طغاة التّجّار والصّيارفة، وقطّاع قوافل المساعدات، ومروّجي المخدّرات، وحملة السّلاح في الشّجارات والنّزاعات، وسرّاق البيوت والمؤسّسات، ولصوص بعض جمعيّات الإغاثة والمعونات- وتوافقتم على تصدير حكومة تتألّف من أهل الإنسانيّة والتّميّز والفضيلة والأبويّة، والنّظر الكلّيّ، والقبول الدّوليّ، ويكون من ورائها الكلّ الفلسطينيّ، وترك مزاحمتها في مسيرتها، وأن تكون المناصحة لها عبر الوسائل الحضاريّة؛ كي يتاح لها تعجيل النّجدة لأهلنا في أماكن الإيواء وخيام النّزوح قبل حلول فصل الشّتاء الّذي يمثّل رعبًا يزاحم بخطره نازلة الحرب في هلاك الأنفس، وإسقامها إن بقي الواقع على حاله لا قدّر اللّه.

وبغرض الفائدة أجيب عن سؤال طالما جرى على لسن السّاسة: أنّ الأوطان لا تحرّر إلّا بالدّماء، ويذكرون بعضًا من البلاد الّتي قدّمت في مسيرة تحريرها أعدادًا كبيرةً من الشّهداء.

أقول: ما قيمة تحرير الأرض أمام استعمار القلب والعقل، وبقاء أفكار المستعمر ومناهجه وقوانينه وعوائده ولغته وأخلاقه في حواضر بعض بلاد الإسلام؛ على أنّ كثرة التّضحيات ليست دليلًا معتبرًا يعتمد عليه في تحرير الأوطان، فإنّ سلامة الأنفس مع سلامة عقائدها الحقّة وفكرها السّليم، وأخلاقها السّامقة، وعوائدها القويمة، وعافية أبدانها ونفوسها هي المقصد الأسمى في شرع ربّنا عزوجل، وينبغي ألّا يصار إلى الجهاد إلّا على أرجحيّة حصولها، ومن الجهل المركّب والعمى المطبق أن يصار إليه بشجاعة واندفاع معزول عن مراعاة ذلك المقصد وأسباب القوّة المؤهّلة في تحقيقه، ومن عمى البصيرة وإضاعة الأمانة والمغامرة بالأنفس والأعراض والحرّيات والأموال: إذعار أهل الحرب وطلب قتالهم، بناءً على أوهام عند ساستنا أنّ عدوّنا لا يطيق حرباً مفتوحةً، ولا يطيق شعبهم الاختباء في الملاجئ مدّةً طويلةً، وسيتضرّر اقتصادهم، ويهاجر بعضهم، ويفوت عليهم موسم السّياحة، أضف إليه أنّ الشّعوب العربيّة والتّركيّة ستثور على حكّامها؛ ليوقفوا العدوان عند مدّة لا تزيد على الشّهر أو الشّهرين، فكلّ هذه الحسابات لا تساوي أن يفجر بعذراء غزّيّة فتحمل من علوجهم، أو يقهر أسير بلواط، فضلاً عن هلاك عشرات ألوف الأنفس مصحوباً بذلّ عموم أهل القطاع.

ومتى تخلّف المقصد؛ وجب على الأمّة السّعي الجادّ في تحقيق أسباب رفعتها وعزّتها، مع التّذكير أنّ هذا لا يدرك إلّا بتحقيق المعتقد الحقّ، واستقامة الفكر، وترسيخ الفضيلة، بعد رصّ الصّفّ ووحدة الكلمة، ونبذ الفرقة، وإنهاء التّحزّب والانقسام، مع التّنافس الجادّ في حراسة مصالح الأمّة في مناحي الحياة المختلفة، ودعوة المخالفين للإسلام بأخلاق وسلوك النّبيّ صلى الله عليه وسلم (النّبيّ نبي الرّحمة)، وعدم إذعار أعداء الأمّة واستعدائهم في حال الضّعف والحصار، ويسع السّاسة في ذلك ما وسع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، كما بيّنت آنفاً؛ إذ به يتجلّى رعاية المقصد، والجهاد يومئذ جهاد دفع، وقد رعاه أيضاً في جهاد الطّلب؛ يدلّك عليه حصاره صلى الله عليه وسلم أهل الطّائف، وقد كان يومئذ أكثر عدداً، وكان أهل الطّائف أقوى شوكةً، فلمّا أعياه فتح حصنهم من حصار دام أربعين ليلةً، وأحدث أهل الطّائف في أصحابه نكايةً؛ إذ كانوا يرمون الصّحابة رضي الله عنهم بسكك الحديد المحمّاة بالنّار؛ نشأ عن ذلك اثنا عشر شهيداً، وعدد من الجرحى، فلمّا تعذّر تحقيق مقصد الجهاد؛ أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفكّ حصار أهل الطّائف والتّوجّه نحو المدينة النّبويّة. [عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: ‌حَاصَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللهُ)، قَالَ أَصْحَابُهُ: نَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَتِحْهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ïپ§: (اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ)، فَغَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا)، قَالَ: فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. أخرجه: مسلم/صحيحه(1778)(3/ 1402).

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: (‌اللَّهُمَّ ‌اهْدِ ‌ثَقِيفًا). أخرجه: الترمذي/سننه(3942)(5/ 729)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»، وضعفه الألباني.] [انظر: د. محمد خير/ الجهاد والقتال في السياسة الشرعية(2/1186-1187).]

وأقول في الختام: إلى من يتابع جرح غزّة والضّفّة النّازف: لا تقصروا النّظر على فرط الشّجاعة دون أن تنظروا إلى حجم الكارثة وفداحة المصاب، واعلموا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه منع أن يأمّر البراء بن مالك رضي الله عنه على الأجناد؛ لفرط شجاعته؛ كي لا يقتحم بالجند المهالك والأخطار. [عَنْ مُحَمَّدَ بنِ سِيرِينَ رحمه الله قَالَ: "كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لَا تَسْتَعْمِلُوا الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ عَلَى جَيْشٍ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهٌ مَهْلَكَةٌ مِنَ الْهَلْكِ يَقْدُمُ بِهِمْ". أخرجه: الحاكم/مستدركه (3/330)، ابن سعد/الطبقات الكبرى(7/ 12).]

ورحم الله الإمام الشّافعيّ قال: «ولا ينبغي أن يولّي الإمام الغزو إلّا ‌ثقةً ‌في ‌دينه، شجاعًا في بدنه، حسن الأناة، عاقلًا للحرب بصيرًا بها غير عجل، ولا نزق.. ولا يحمل المسلمين على مهلكة بحال، ولا يأمرهم بنقب حصن يخاف أن يشدخوا تحته، [الشدخ: كسر الشيء الأجوف، ومعناه هنا: يخاف أن ينهدم عليهم الحصن، أو تسقط عليهم بعض حجارته فتكسر عظامهم تحته.] ولا دخول مطمورة [المطمورة: الحفيرة تحت الأرض، وهي بلغتنا المعاصرة: الخندق أو النفق.] يخاف أن يقتلوا، ولا يدفعوا عن أنفسهم فيها، ولا غير ذلك من أسباب المهالك، فإن فعل ذلك الإمام؛ فقد أساء ويستغفر اللّه تعالى.. ولا يأمر القليل منهم بانتياب الكثير حيث لا غوث لهم.. وإذا حملهم على ما ليس له حملهم عليه؛ فلهم أن لا يفعلوه -أي: ألّا يطيعوه-». [الشافعي/الأم(4/ 178).]

وإنّي إذ أذكّر بهذا؛ لأسأل الله أن تنزل مقالتي من قلوب السّاسة منزل القبول الّذي يثمر فيهم الإجابة والسّرعة في إسعاف النّاس، قبل أن يقتحم عليهم فصل الشّتاء، ونسأل الله العافية والفرج القريب؛ آمين.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد.

كتبه
عميد كلّيّة الشّريعة والقانون
بالجامعة الإسلاميّة بغزّة- سابقاً
أ.د. سلمان بن نصر الداية