*لا ياعمو بكفي وحده*!

*الدكتور علي طبيب عربي دخل غزة للمساعدة واكتساب الخبرة.*
هو جراح حديث التخرج يقول: تطوعت مع فريق من الأطباء، ورغم المخاطر المحيطة بالذهاب لمنطقة الحرب المشتعلة، وترددي في الذهاب، شجعني أبي وقال: هذا عمل ستفخر به طيلة ايام حياتك، فلا تضيع الفرصة.
قلت له: ماذا ان لم أعد؟
قال: سيكون أجلك قد حان وستموت سواءً ذهبت ام بقيت، الأعمار والأقدار بيد الله عز وجل.

بالفعل، ذهبت إلى غزة عن طريق المعبر، شعرت بصدمة كبيرة عند دخولي للمنطقة، فالكثير من الأبنية مهدم، والشوارع مجرفة وتمتلئ بالناس المهجرين، ينامون في الشوارع وفي زقاق وساحات المستشفى، دخلت غرفة الطوارئ، وبعدها وجدت نفسي ملقاً على الارض والأطباء من حولي، يبدوا انني صدمت لهول مارأيت، دماء تملأ المكان، جثث الشهداء في الممرات، صلوات الجنازات تقام لأعداد كبيرة من النساء والأطفال والرجال، غرفة الطوارئ لاتبدو كشئ رايته من قبل، أعداد كبيرة من الأطباء والممرضين والجرحى والقتلى، لايوجد أسرة كافية، والكثير ملقىٰ على الأرض، الجميع يحاول إنقاذ الجرحى والمصابين، وأنا أجلس مصدوماً من هول الأحداث، نظرت إلي ممرضة وقالت: دكتور ساعدني الطفل ينزف، وشدتني من يدي بقوة، وكانت تلك هي نقطة التحول، فلقد اصبحت اعمل دون كلل، ساعات طويلة، نسيت النوم، كنت اغفوا بين المصابين، لم أعد اشعر بشئ، اصبحت كالآلة، اعمل واعمل حتى جاء يوم وانخفضت فيه أعداد الجرحى، ذهبت للنوم بالرغم من صوت الزنانات والطائرات و القذائف و الانفجارات، غططت في نوم عميق، رأيت جدي وجدتي المتوفين في المنام ينظرون الي بإعجاب وفخر، أفقت سعيداً وعدت للعمل.

برغم المآسي فالشعب صابر محتسب، شعب مؤمن، شعب صاحب عقيدة حقيقية، يتألم، يحزن ولكن لاييأس، مؤمن بأن النصر قادم وأن العدو سيهزم شر هزيمة.

بدأت أتحدث إلى أبناء القطاع، رأيت التعب والإرهاق في وجوههم، الجميع ممن تكلمت معهم فقد عزيزاً او أعزاء، تهدمت بيوتهم ومتاجرهم، تهجروا ونزحوا، بت أرى مشاريع شهداء، فالكل كتب اسمه على جسده وأطرافه حتى الصغار، ينتظرون الشهادة ان تطرق بابهم بأية لحظة.

في أحد الايام، اشتريت بعض الخبز والفطائر من امرأة تبيع امام المستشفى، اردت ان أساعدها، نظرت من حولي، وهنا بدأت أجهش بالبكاء، أطفال ينظرون الي والى الطعام بين يدي، بنظرة أدمت قلبي، بكيت وبكيت وبدأت بتوزيع الفطائر عليهم، ناديت المرأة اشتريت منها كل مامعها من خبز وفطائر، ووزعتها على الأطفال الذين التهموها بسرعة وكأنهم لم يأكلوا منذ ايام وأيام، رجعت إلى الداخل، رآني أحد زملائي والدموع تنهمر وانا انحب وابكي كالطفل، سألني علي عسىٰ ماشر ابو حسن، أخبرته بما رأيت، نظر الي وقال، ياوجع قلبي، والله اني أرسلت لأبي في الديرة، وارسل لي مبلغاً حتى اذبح واطعم المساكين، ولكن الفلوس ماوصلت، والله الوضع صعب حسبي الله ونعم الوكيل، بدأ صديقي بالبكاء.

شعرنا بألم يعتصر قلوبنا، لم نكن نحن الوحيدين، فلقد كان هناك أطباء أجانب وعرب وكلهم شعروا نفس الشعور.

وبعد أيام وصلني مبلغ ووصل الأطباء الآخرون مبالغ من المال، حاولنا المساعدة قدر الإمكان، فأهل الخير كثيرون في القطاع والموائد والمطابخ التي تطعم الناس موجودة ولله الحمد، ولكنها لاتكفي، وفي يوم قبل رحيلنا، قدم لي احد الأجانب علبة حلوى حصل عليها، فتحتها، وبدأت بتوزيعها على الأطفال الصغار، كان هناك طفلة صغيرة جميلة جداً بالرغم من شعرها المنكوش وثيابها المهترئة، أعطيتها قطعة، وأردت ان أعطيها قطعة اخرى، *مددت يدي بقطعة الحلوى وهي تنظر إلي، نظرت للأطفال من حولها وقالت: لا ياعموا، بيكفيني قطعة واحدة، حطمت قلبي تلك الصغيرةً، أطفال صغار يضحون من اجل بعضهم البعض، محتاجون ولكنهم يؤثرون على انفسهم اخوانهم ومن حولهم، اختبرت هذا الموقف مع كل ابناء القطاع، فلم ارى سارقا ولا مستغلاً، ولا طماعاً ولا جشعاً، رأيت قوماً يتراحمون فيما بينهم ويضحون من اجل بعضهم البعض.*

غادرنا في الصباح مع البعثات الاخرى، نظرت لمن حولي بالحافلة، رأيت الكثير منهم يبكي على فراق اهل غزة المكلومين، بكيت معهم، شعرت بأنني افقد جزءا من روحي.

*اقص عليكم قصتي هذه وانا ابكي والدموع تنهال على ورقي، فأنا لا أستطيع النوم عندما أفكر بهم وبأحوالهم، وأفكر بهم طيلة الوقت، أتمنى ان أستطيع الرجوع للعيش والموت معهم، اشعر بالغربة بين اهلي وأبناء ديرتي، غادرت القطاع ولكن قلبي وفؤادي ومهجتي واحاسيسي كلها مازالت مع هؤلاء الأطفال المساكين ومع تلك الطفلة البريئة الحنونة.*

انا اتألم، اشاهد المجازر اليومية، أتذكر أوقاتي معهم وإحساسي بمعاناتهم، ابكي وانتحب.
حسبي الله ونعم الوكيل في كل من قهر وظلم أطفال القطاع الأبرياء يارب العالمين أكتب لي الرجوع اليهم فانا لاأستطيع التوقف عن التفكير بهم.

*أطفال ونساء يقتلون، جوعى، مهجرون، معرضون للقتل في اية لحظة، ونحن نملأ بطوننا بألذ الطعام، و نجلس في مجالسنا الفخمة، ننظر اليهم وكانهم أطفال في مسلسل تلفزيوني، نحزن وننسى، ونستمر في حياتنا كان شيئاً لم يكن.
🤲 نصر الله غزة وأهل غزة وخذل الله من خذلهم

منقول