منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 8 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 73
  1. #11
    * الساعة ذات البندول *
    ..................................

    أمى تصغر أبى بسنوات عديدة . ألتقط من ذكرياتهما أنها كانت ـ لصغر سنها ، قبل أن يأتى الأبناء ـ تخاف الليل ، فهى تنتظره فى الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبرى . فإذا غلبها الخوف ، نزلت تنتظر مجيئه على كرسى البواب ..
    لم يكن أبى يدخل مع أمى فى مشادة ما ، ولا يحاول توبيخها ، أو تشديد ملاحظاته عليها . حتى قسوتها الدائمة علينا ـ فرط حنان ، كما تفعل القطة حين تأكل صغارها ـ لم يكن يقابلها بغضب ولا ثورة . إنما هى ملاحظات مداعبة ، تخاطب الطفلة بأكثر مما تتجه إلى الزوجة ..
    يرفض أبى ـ فى الأوقات التى تظهر فيها أمى اختلافها معه ـ أن يعطيها ما يعيدها إلى أهلها فى دمنهور :
    ـ اعقلى .. وخليكى مع أولادك !
    تصر ـ أحياناً ـ على أنها أخذت على خاطرها ، فهى لابد أن تعود إلى بيت أبيها . تتطلع إلى الساعة ذات البندول التى تتصدر جدار الصالة ـ تكرر المشهد ! ـ وتسأل :
    ـ أليست هذه ساعة أبى .. اعطنى إذن ثمنها ..
    يقول أبى فى ابتسامة مشفقة :
    ـ أعطيت أباك ، وأعطيتك ، ثمنها مرات كثيرة من قبل ..
    تهز كتفيها :
    ـ لا شأن لى .. أريد ثمن الساعة ..
    ـ لمحمد فوزى أغنية تقول : الساعة واقفة .. والا بتمشى .. سمعتك تدندنين بها .. غنها لى أصحبك بنفسى إلى دمنهور ..
    ترافق ابتسامة نبرته المحرضة :
    ـ غن لى .. غن لى ..
    تزم أمى شفتيها ، كى لا تفلت منها ضحكة ، ثم تخلى للضحكة سبيلها ..

  2. #12
    * أنّـــا *
    ...........

    تبدو فى ذاكرتى كطيف جميل . وأذكر أن أمى وجارات البيت كن يمتدحن محاسنها ، فلابد أنها كانت كذلك بالفعل . لا أدرى ـ حتى الآن ـ معنى الاسم ، وهل هو تعبير عن أصول غير مصرية ، أو أنه كناية التدليل لاسمها الحقيقى . ما أعرفه جيداً أن أنّا ، أو أبلة أنّا ـ كما كنا نسميها وندعوها ـ لم تكن مجرد جارة لنا ، ولا هى فقط صديقة لأمى ، لكنها كانت تقضى مع أمى معظم وقت غياب زوجها ـ الذى يعمل مهندساً فى كفر الدوار ـ عن البيت ..
    كانت تهبط من شقتها فى الطابق السادس إلى شقتنا فى الطابق الثالث . تجالس أمى فى الحجرة المطلة على جامع سيدى على تمراز ، ويخوضان فى أحاديث تبدأ ولا تنتهى ..
    ذات عصر ، اجتذبتنى فى حديثهما كلمات متناثرة عن الأرواح والجان والشياطين والعفاريت . عالم يلتف بضبابية المجهول والإثارة والخوف ..
    تنبهت على صوت أمى :
    ـ روح العب بعيد ..
    لم تنجب . حدست أن هذا هو الباعث لأحاديث أنّا الهامسة مع أمى ، وتلبية عم أحمد البواب المتكررة لطلباتها بشراء ما تحتاجه من العطار ، أول شارع الميدان . والتقطت قول أمى لها : ربنا يطعمك ، فأنا أثق ـ الآن ـ أن أنّا كانت تعانى مشكلة عدم الإنجاب ..
    ظلت الكلمات تناوشنى ، حتى وصلتها بكلمة " زار " التى تخللت أحاديث أمى وجارتها فى الأيام التالية ..
    سرت حياة غير عادية بين شقق البيت . تعالت النداءات والصيحات والملاحظات والأسئلة . وهمست أمى ، تستأذن أبى ـ وهو يعد نفسه للخروج فترة العمل المسائية ـ كى تصعد إلى شقة أنّا .
    ـ خير ؟
    ـ أبداً .. حاجاملها فى قعدة زار ..
    ـ زار ؟.. من إمتى بتحضرى الحاجات دى ؟
    ـ أهى مجاملة .. قالوا لها لابسها جان ..
    وربتت كتفه وهى تودعه :
    ـ قالوا لها كده ..
    اندسست ـ فى المساء ـ وسط لمة النساء والأطفال والشموع وأريج البخور والدم المسفوك . ارتفع إيقاع الدفوف والطبول ، واهتزت الأرض والجدران بدبيب الأقدام والرقصات المحمومة ، وتعالى صوت الكودية :
    قادوا الشموع لماما . الشمع بات سهـران
    وندهت السيـدة زينب .. رئيسة الديـوان
    يا شيال الحمول يا متولى شيل حمّة العيان
    يا شيخ العرب يا سيـد يا ندهة المنضـام
    فرشوا الأرض لماما بالفــل والريحـان

  3. #13
    * 11 فبراير *
    ...................

    اعتدت ـ فى تلك الأيام من كل سنة ـ رفع الأعلام والزينات والأضواء على واجهات البيوت ، وفى شوارع الإسكندرية وميادينها ، وحول البلانسات والفلايك فى المينا الشرقية ، وانطلاق الصواريخ الملونة فى منطقة السلسلة ، وتعالى صفافير البواخر فى المينا الغربية ..
    قال لى أبى إن ما يحدث هو احتفال بميلاد كل مواليد فبراير .. وأنا واحد منهم !
    صدقت ما قاله أبى . ووجدت فى الاحتفال بعيد ميلادى ـ ولو مع مواليد الشهر نفسه ! ـ دافعاً للتباهى بين زملائى فى مدرسة البوصيرى الأولية ..
    تأملت أغنية يقول مطلعها : أهو جانا حداشر فبراير . سألت أبى عن التاريخ .. لماذا حدد فى يوم بالذات دون بقية أيام الشهر ؟
    لم يجب أبى . اكتفى بابتسامة صامتة ..
    أعدت السؤال على جميل أفندى مدرس اللغة العربية . قال :
    ـ 11 فبراير هو عيد ميلاد الملك .. والأغنية والاحتفالات من أجله !
    كتمت فى داخلى إحساساً بالخذلان ، وأزمعت ألا أصدق أبى فى كل ما يقوله لى !

  4. #14
    * أغنيات الفطرة *
    ..........................

    كنا نصحب أبى ـ بعد ظهر كل خميس ـ إلى دمنهور . نستقل الأوتوبيس من ميدان المنشية ، أو القطار ، من ميدان المحطة إلى شارع الصاغة ، ومنه إلى أبو الريش . نقضى الليلة فى بيت جدى . الباب الخشبى ذو الضلفتين ، يفضى إلى طرقة مبلطة ، وعلى اليمين حجرة تطل نافذتها الحديدية على الطريق . يصعد السلم الحجرى إلى طابقين . يضمان أخوالى وأبناءهم . تخلى لنا جدتى شقة الطابق الثانى ، فوقها السطح . الفرن وعشش الطيور . ننط الحبل ، أو نلعب السيجة ، فى مساحة الأرض المبلطة المتبقية ..
    نسأل عن اللبن ، تبعث به إلينا خالتى نبوية ـ أخت جدتى ! ـ من بيتها فى الشارع الخلفى . بيت ريفى ، طابقه الأسفل للماشية ، والعلوى للبشر . يطالعك ـ بمجرد دخوله ـ امتزاج روائح أنفاس البشر والحيوان وروث البهائم والحطب ..
    نترقب خيرى ، ابن خالتى نبوية ـ ابن خالة أمى ـ يسبقنا إلى الغيطان ، خلف وابور النور . نتمشى فى ضوء القمر ، أو يأخذنا إلى أحد الأفراح التى كانت تقام ـ فى العادة ـ ليلة الخميس . نشاهد رقصات الغوازى ، نستمع إلى أغنيات الفطرة ، أى تلك التى ألّف كلماتها ، ولحنها ، مجهول ، فهى تنتسب إلى الفن الشعبى . أذكر ـ مازلت ـ أغنيات : ياللى ع الترعة حود ع المالح .. و : ادلع يا رشيدى على وش الميه .. أو : رمان التوب يا ليلى .. وغيرها ..
    كان اهتزاز القطار أو الأوتوبيس يدفع بالقىء إلى معدتى الحساسة . لكننى كنت أترقب الرحلة إلى الحياة المغايرة ، وأعانى حزناً معلناً حين يقرر أبى ـ لظرف ما ـ إرجاء السفر إلى الأسبوع التالى ..
    صحوت ـ ذات ليلة ـ على وقع أقدام ، ونداءات ، وعبارات محذرة ومشفقة ..
    كانت أمى تميل على طست أوسط الحجرة ، تفرغ ما فى جوفها ..
    ظللت مستيقظاً حتى بعد أن صعدت أمى على السرير المقابل ، وجرعت ما وضعه أبى فى يدها من أقراص أدوية ..
    تناهى صوت أبى بالقلق وهو يقول فى تأثر :
    ـ لم يكن من المفروض أن تتناول عشاء دسماً ..
    أضاف فى قلقه :
    ـ مرض القلب يتطلب عشاء خفيفاً ..
    عدنا إلى الإسكندرية قبل ظهر اليوم التالى . اشتد المرض على أمى ، فلم تعد تتحرك من سريرها ..
    توالت الأشهر دون أن نسافر إلى دمنهور . ومضت ـ بعد رحيل أمى ـ أعوام كثيرة . لكن تظل فى ذاكرتى تلك الأيام البعيدة : شرب الحليب ، المشى فى الغيطان ، سماع أغنيات الأفراح . أستعيدها ، وأتمنى أن أعيشها ثانية ..
    تملكتنى نشوة وأنا أضمن روايتى " ياقوت العرش " ـ الجزء الثانى من " رباعية بحرى " ـ أغنية : ياللى ع الترعة حود ع المالح .. قلبى مستنى من ليلة امبارح .

  5. #15
    * تعديـدة *
    ................

    خديجة توفيت ..
    كتب أبى البرقية ذات الكلمتين . بعثت بها من مكتب التليفونات بشارع فرنسا ، إلى جدتى وأخوالى فى دمنهور ..
    سبق صوات جدتى صعودها ـ فى مساء اليوم نفسه ـ على سلم البيت . وصل أخوالى فى اليوم التالى . أصر أبى أن نذهب إلى مدارسنا ، فلا نقعد فى البيت . لم تكن الجنازة ـ بعد عودتنا من المدارس ـ قد شيعت بعد . استضافنا عم عبد السلام الحلاق ، فى دكانه أسفل بيتنا ، حتى مضت الجنازة إلى مقابر العامود ..
    العادة أن يقتصر العزاء على ثلاثة أيام ، ثم تذهب الأسرة ـ فى الخميس الأول ، وفى أيام الخميس التالية ـ إلى العامود لزيارة الميت . حتى ذكرى الأربعين ، ثم الذكرى السنوية . ذلك هو الطقس الذى تحياه الأسر المصرية فى أعقاب وفاة أحبائها ..
    حين عرضت جدتى أن تودع المعددات أمى بكلماتهن الباكية ، امتزجت ـ على وجه أبى ـ مشاعر الضيق والرفض والغضب . كيف يقبل إنسان مثقف ذلك التصرف السخيف ؟
    طال اللجاج ، والأخذ والرد .. لكن رأى السيدة الريفية انتصر لتقاليدها ..
    افترشت المعددات ـ لا أدرى من أحضرهن ! ـ غرفة القعاد المطلة على المينا الشرقية ، والتصقت أردية السواد بالجدران ، وبين الأثاث . اختلط النحيب والصوات ودقات الدفوف . لا أتابع الكلمات ، ولا أعى معانيها ، لكنها تفرض فكرة الموت ـ فى داخلى ـ بتصورات قاسية .

  6. #16
    * هات القزازة *
    ......................

    لم يكن مضى سوى دقائق على تلاقى أذان الفجر فى أبو العباس والبوصيرى وعلى تمراز . حذرنا أبى من فتح الباب . ظللنا فى حجرتنا نغالب النوم والمفاجأة . تبينت صوت شوقى عويس . توقعت نفحة مادية : عشرة قروش ، أو خمسة وعشرين قرشاً ، يقدمها لنا ـ من وراء أبى ـ فى زياراته المتباعدة ..
    بدت العصبية فى صوت أبى :
    ـ أى خدمة يا شوقى أفندى ؟!
    سبقنا أخى فى النزول من السرير . فتحنا باب الحجرة الموارب . كان شوقى عويس يقف بقامته الطويلة ، الممتلئة ، على باب الشقة ، وأبى فى منتصف الصالة . وثمة ضوء شحيح من اللمبة السهارى فى مدخل الطرقة إلى الحمام ، احتوى الرجلين والكتب والأوراق التى ينشغل بها أبى حتى مطلع الفجر ..
    كان أبى يحرص على القميص والبنطلون إلى انتهائه من الترجمة . ثم يستبدل بها البيجامة ، ويتهيأ للنوم ..
    لم يكن شوقى عويس فى الهيئة التى اعتدت رؤيته فيها . نزع الجاكت وألقى به على كتفه ، وفك رباط العنق ، واتسخت ياقة القميص المفتوحة بلون كالدم ، بينما أطل الزر من مقدمة الطربوش ، وما يشبه القىء على بوز الحذاء . وكان يضع على صدره أكياساً مغلقة ..
    تقدم ناحية الترابيزة ، ووضع الأكياس المغلقة ـ أصلح بيئياً من بلاستيكات هذه الأيام ـ وقال فى صوت مترنح :
    ـ صحى العيال علشان نعمل زمبليطة !..
    سحب كرسياً وجلس . وجلس أبى فى الناحية المقابلة . تكلما عن دمنهور وأسعار القطن وأحوال الزراعة وأخبار أهل أمى فى أبو الريش وزيارات الرجل المتكررة إلى الإسكندرية . كان شوقى عويس يطلق ضحكات متقطعة ، ويتجشأ . وكان الاستياء ، وربما الغضب ، واضحاً على ملامح أبى ، فهو يعانى فى مجرد الرد على أسئلة الرجل ، مجرد الدردشة الكلامية ..
    كان أبى يحدثنا ـ عقب كل زيارة للرجل ـ عن قرابته لأهل أمى ، وأنه يحيا على ميراث من الأموال والعقارات والأرض الزراعية ، ينفقه على إقامته وسهراته فى الإسكندرية ، فلا يتردد على مدينته دمنهور إلا ليحاسب مستأجرى الأرض الزراعية والعقارات وأثمان بيع المحاصيل .. وكان أبى يشدد علينا ، فلا نأخذ منه أو نعطى ، ولا نقبل منحه المادية ..
    وعلا صوت شوقى عويس مدندناً :
    هات القزازة واقعد لاعبنى ..
    وأعاد الدندنة وهو يلون صوته ..
    طلب أبى من أختى أن تعد حجرة الضيوف ، وأمرنا ـ بنظرة من عينيه ـ أن ندخل حجرتنا ..
    صحوت على صوت اصطفاق الباب . حدست لرؤية حجرة الضيوف المفتوحة ، وانهماك أبى فى كتابة كلمات على ورقة كراسة ، أن الرجل ترك البيت ..
    همس أبى :
    ـ انت صحيت ؟
    ونزع الورقة من الكراسة :
    ـ ابعت التلغراف ده قبل ما تروح المدرسة ..
    أعاد لى موظف التلغراف ورقة الكراسة :
    ـ قول لابوك عم سليمان ما يقدرش يبعت تلغراف زى ده .. أبوك بيقول لواحد ماتزرناش وانت سكران ..
    وعلا صوت عم سليمان محذراً :
    ـ لما اشوف أبوك حاطلب منه يقول للراجل الكلام ده بينه وبينه !

  7. #17
    * عروسة وعريس *
    ..............................

    العريس كانت هى تسمية جار الطابق الثانى فى البيت المقابل ، والعروسة كانت هى تسمية زوجته .
    سهرنا إلى قرب الصباح نطل على الأضواء والزينات والأغنيات والزفة السكندرية الشهيرة : صلاة النبى .. صلاة النبى .. مالحة فى عين اللى ما يصلى على النبى ..
    لم تتبدل تسمية العروسة والعريس منذ صبحية الزفاف ، حتى أنجبا البنين والبنات . لم نكن نعرف اسمها أو اسمه . عرف التقاليد بأن ينتسب الأب إلى أكبر أبنائه فيسمى " أبو فلان " ، وتنتسب الأم إلى أكبر الأبناء فتسمى " أم فلان " ، حتى ذلك العرف نسيناه .
    ظلت تسمية العريس والعروسة ـ رغم تقضى الأعوام ـ هى التى ترددها أفواهنا !

  8. #18
    * الحياة *
    .............

    أول أيام العيد ..
    أشعة الشمس تغيب ـ فى ذلك الصباح الباكر ـ وراء البنايات المحيطة بالمكان ، وتغيب الملامح الحقيقية . فى مواجهة محطة الترام مستشفى دار إسماعيل للولادة ، تلاصقها مقابر العامود . الحياة تجاور الموت . جهاز الراديو فى دكان بائع العصير ، على ناصية الميدان ، يضعنا ـ بالأغنيات التى يعلو بها ـ فى قلب المناسبة . ليست أغنيات بذاتها ، لكنها عن العيد ، وللعيد : القرنفل لعبد الحليم حافظ وفاطمة على .. الحلوة دى قامت تعجن م البدرية لشافية أحمد .. الورد جميل لأم كلثوم .. يا صباح الخير ياللى معانا لأم كلثوم أيضاً .. أغنيات اعتادت الإذاعة تقديمها فى صباح ذلك اليوم ، وألفتها ـ فى ترددى على مقابر العامود ـ على مدى ثلاثة أعوام أو أربعة ..
    يمسك أبى برسغينا ـ أخى وأنا ـ ويمضى إلى داخل المقابر . رائحة التراب تتصاعد بحركة أقدامنا ، وعلى الجانبين أحواش مفتوحة ومغلقة ، وشواهد رخامية ، ونبات صبار ، ومتسولون ..
    يقف أبى أمام باب منزوع المصراعين ، عليه لافتة : مدفن حسن جبريل . يلقى أبى السلام على الصمت ، ويدخل . الفناء الصغير أشبه بصالة مكشوفة ، والجدران تساقط طلاؤها ، وتآكلت بتأثير ملوحة البحر القريب ، وموضع النافذة خلا إلا من الحلق الخشبى . المستطيل الحجرى ـ أعرف أن أمى ترقد تحته ـ يتوسط الفناء . يدور أبى من حوله وهو يردد الفاتحة وقصار السور ، ونحن نكتفى بالتطلع الساكن ..
    يتجه أبى ناحية الباب . يطيل الوقوف فى المساحة الصغيرة على يمين المدخل . يعيد ترتيب قطع الحجارة التى سجى جثمان أخى الأصغر تحتها . ثم يقرأ الفاتحة وقصار السور ..
    تبحث يدا أبى عن رسغينا ، ويمضى نحو الباب الخارجى ..
    يطالعنا الميدان بزحامه ، وصخبه ، والأغنيات التى يذيعها الراديو ، تنقلنا إلى فرحة العيد .

  9. #19
    * سباق القوارب *
    .........................

    أشار أبى إلى الطاولة التى كان يجلس إليها عم حسونة غباشى ، وقال :
    ـ أين الرجل ؟
    قال الجرسون عطية :
    ـ هزيمة قوارب السيالة أمام قوارب رأس التين ألزمته البقاء فى القزق ( ورش المراكب ) ليصنع قارباً يصعب تجاوزه !
    نشأت الصداقة بين أبى وعم حسونة فى توالى اللقاءات ـ صباح كل جمعة ـ أمام مقهى المهدى ، أسفل بيتنا . ينتظران خطبة الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدى على تمراز ، تجتذبهما كلمات الرجل ضد الإنجليز والسراى وأحزاب الأقلية . لا تشغله تحذيرات وزارة الأوقاف ، ولا تهديدات السلطة القائمة . آلاف المصلين يملأون صحن الجامع وخارجه . جموع من البشر يفترشون ميدان " الخمس فوانيس " وأجزاء من شوارع رأس التين وسراى محسن باشا وإسماعيل صبرى وفرنسا .
    من يضمن رد الفعل لو أن الأوامر صدرت بنقله أو إسكاته ؟
    كان عم حسونة غباشى فى حوالى الخامسة والأربعين . أميل إلى البدانة . فى وجهه استدارة تهبه طفولة واضحة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته . تدلى طارفا شاربه على جانبى فمه . له طريقة مميزة فى نطق الكلمات . يغلب التلعثم على نطقه ، فيصعب عليه التعبير عن نفسه . تتداخل الكلمات فى غمغمات غير مترابطة ..
    كان معظم حديث عم حسونة عن سباق القوارب . يجيد الانتقال من أحاديث خطب الشيخ عبد الحفيظ والسياسة والانتخابات والحرب الكورية إلى سباق القوارب . يعد له أبناء رأس التين والسيالة فى امتداد العام ، يبذلون كل قدراتهم لصنع قوارب تخوض السباق فى أول أيام عيد الفطر . يفوز أحدها بالمركز الأول ، فيحمله الرجال على رءوسهم ، وتعلو أصواتهم بالغناء . إذا كان القارب للسيالة ، ردد الرجال :
    قفة ملح وقفة طين على دماغ راس التين
    وإذا كان القارب لرأس التين ، ردد الرجال :
    سيالة يا سيالة ياللى ما فيكى رجاله
    صحبنى أبى ـ ذات عصر ـ إلى ورش القزق ، ما بين سينما السواحل وقبالة شارع الحجارى . بلانسات ولوتسات ولانشات وقوارب وفلايك . جديدة ، وقديمة يجرى إصلاحها ، وهياكل خشبية ، وروافع ، ومناشير هائلة ، وأدوات نجارة ..
    لم يخف عم حسونة ـ فى ترحيبه بأبى ـ تأثير المفاجأة ..
    رنا أبى إليه بنظرة مودة :
    ـ هل خاصمتنا ؟
    ـ أنت أعز الأصدقاء ..
    ـ إذن خاصمت الشيخ عبد الحفيظ ؟
    ـ لو كنت صوفياً لاعتبرته قطبى ..
    ـ فلماذا انقطعت عن صلاة الجمعة فى على تمراز ؟
    ـ أصلّى فى جامع طاهر بك بالحجارى . قريب من القزق ..
    ثم بلهجة أسيفة:
    ـ لابد أنك عرفت ما حدث . لن أضيع دقيقة حتى أصنع القارب الذى تعجز عن ملاحقته كل قوارب رأس التين !

  10. #20
    * الفتـوات *
    .................

    عرفت ـ من أحاديث أبى ـ أسماء فتوات الإسكندرية : حميدو الفارس وأبو خطوة والسكران والنجرو وغيرهم ..
    أفدت ـ فى روايتى " الأسوار " ـ من حكاية أبى عن حميدو الفارس لما كبس طربوش محافظ المدينة على رأسه ، وأفدت ـ فى " رباعية بحرى " ـ من حكايات الفتوات : الإتاوات ، قيادة مواكب الزفاف ، المعارك الدامية ..
    فى ذاكرتى أصداء من بقايا عصر الفتوات ، فى الموالد ، وسباق البنز ، وسباق القوارب ، ورقصة النقرزان ، ورقصة سيد حلال عليه ـ هذا هو اسمه ـ التى يتلاعب فيها بالعصا ..
    فى ذاكرتى مواكب الزفاف : يتقدم الفتوة زفة العريس . يهتف : يا ما انت صغيّر ..
    يستطرد الرجال الملتفون حول العريس : حلو يا عريس ..
    وتتعالى الأصوات منغّمة : الحارس الله والصلاة على النبى .. العروسة بنت حارتنا وعريسها فنجرى ..
    شاهدت ـ من شرفة بيتنا المطلة على ميدان الخمس فوانيس ـ آخر معارك الفتوات . حل الصمت إلا من تناثر الدماء ، وأصوات ارتطام الشوم بالرءوس والأجساد ، والصرخات ، والنشيج ، والأنات المكتومة ..
    أسفرت المعركة عن قتلى وجرحى ، حملتهم سيارات الإسعاف إلى المشرحة ، أو إلى المستشفى ، ونقلت سيارات البوليس من تصادف وجوده بالقرب من المكان إلى قسم الجمرك ..
    وانتهى عصر الفتوات .

صفحة 2 من 8 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. انقلاب ( نصوص قصيرة جدا )
    بواسطة حسين العفنان في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-04-2012, 10:46 AM
  2. قصيدة أغنيات مبعثرة شعر / خالد أحمد البيطار
    بواسطة الشاعر خالد البيطار في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-29-2011, 06:26 PM
  3. الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 49
    آخر مشاركة: 09-21-2011, 04:57 AM
  4. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-31-2009, 04:41 AM
  5. من أروع ما كتب محمد جبريل .. هذه القصة القصيرة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-24-2008, 12:12 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •