نهاية التاريخ .. بين روح الشريعة وفلاسفة الخراب



دين ودنيا
22/2/2008
بقلم: د. محمد الحبش

من المسؤول عن أزمة الثقة بين أمريكا والعالم الإسلامي? هل العنف طبيعة أصيلة في الشعوب الإسلامية بحيث يتعين على الأمريكيين إرسال الجيوش إلى العالم لحماية أمنهم عبر تدمير بلاد وراء سبعة بحور, وتشريد شعوب بحالها.

كان هذا هو السؤال المركزي في مؤتمر قطر الدولي للحوار بين أمريكا والعالم الإسلامي, الذي انعقد في الدوحة الأسبوع الماضي بحضور أكثر من 283 مشاركاً من 32 دولة في العالم مما يجعل اللقاء أهم حوار عالمي مفتوح بين الشرق والغرب.‏

كانت رموز المشروع الأمريكي حاضرة في المؤتمر: زلماي خليل زاده ومادلين أولبرايت ومارتن إنديك وصمويل برغر مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق, وعلى الجانب الإسلامي شارك الرئيس الأفغاني حامد كرزاي ورئيس وزراء قطر حمد بن جاسم وعلي باباجان وزير الخارجية التركي, ووزراء الدفاع والخارجية الأفغان وأكثر من أربعين رئيس حكومة ووزير سابق من الدول الإسلامية..‏

ومع أن الأسماء التي حضرت المؤتمر تبدو حليفاً طبيعياً للسياسة الأمريكية, وهو ما دفع بعض الأصدقاء لينصحني بعدم الذهاب إلى هكذا مؤتمر لأنه ينعقد من أجل المصالح الأمريكية في المقام الأول.‏

لم أنكر على صاحبي حكمه على المؤتمر فأنا أشاركه هذا الشعور, ولكنني على ذلك لا أحب أن يكون مقعدنا خالياً في مؤتمر كهذا, فأنا على يقين أن الكراسي الفارغة لا تتكلم, والغائب ليس له نائب, والمؤتمر قائم بك أو بدونك, ولن يفسر غيابك بأنه موقف, بل سيتم تفسيره على أنه عجز, وهذا بالضبط ما دفعني أن أحزم حقائبي وأتوجه إلى قطر, وكان بالفعل كما توقعت, حضور أمريكي شرس, وحضور عربي وإسلامي رمزي, ووجدت نفسي في الدفاع عن القضايا الإسلامية وحيداً مع الأخ الداعية عمرو خالد, الذي اكتشفت فيه جانباً آخر من شخصيته زادتني إعجاباً وتقديراً لدوره الكريم في خدمة الصحوة الإسلامية.‏

ومع أن قائمة المشاركين في منتدى الحوار العالمي بين أمريكا والعالم الإسلامي كانت طويلة وحاشدة وفيها رؤساء ووزراء حاليون وسابقون, ولكن الحوار الأبرز كان مع المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ.‏

فوكوياما مفكر أمريكي غير عادي أطلق رؤيته عام 1992 عبر كتابه الشهير نهاية التاريخ والإنسان الأخير, وتتلخص فكرة الكتاب في أن النمط الليبرالي الغربي الأمريكي هو نموذج المجتمع المثالي الذي كافح الإنسان لبلوغه عبر العصور, وقد اكتمل اليوم تماماً عبر النسخة الأمريكية ولم يبق للأمم إلا أن تدخل في جنته وبراحه.‏

وفق فوكوياما فإن الله خلق الإنسان ليبرالياً حراً, ديمقراطياً رأسمالياً امبريالياً, ثم لم تزل الأنبياء والحكماء والثوار والقديسون يفسدون مزاجه بدعوات المساواة والاشتراكية والبروليتاريا والعفو والتسامح والصدقة حتى ضمر لديه خيال الإبداع وتحول إلى نسخة مهزوزة لرجل ضعيف, ولا خلاص للإنسان إلا باعتناق الليبرالية من جديد ليعود إلى قوته الأولى يوم كان يطارد الديناصورات والوحوش ويؤمن بسياسة الأقوى.‏

ومع أن الكتاب من ورق وحبر ولكنه سرعان ما تحول إلى ملهم للجيوش الأمريكية التي تجول في البحار حين منحها بعداً أيديولوجياً ألقى على مهامها الاستعمارية هدفاً أخلاقياً يتمثل في إنقاذ العالم ومنحه الإرادة للدخول في جنة الليبرالية الجديدة التي من أجلها فقط خلق الله الإنسان وعندما تبلغ المجتمعات جنة الليبرالية واقتصاد السوق الحر فإنها تكون تماماً قد أنجزت الجنة الموعودة على الأرض.‏

المشهد المطلوب اليوم إذن هو تعميد الأمم بزيت العولمة الجديدة وفق القيم الأمريكية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها, وأنه ليس بعد المشهد الأمريكي مزيد.‏

إن الحضارة قد ألقت عصاها واستقر بها النوى في النموذج الأمريكي, وهذا النموذج هو الصورة الملائمة لنهاية التاريخ السعيد, وأن على العالم أن يرسم مجده المنشود على نسق اللوحة الأمريكية.‏

المخلص والمسيا وصاحب الزمان وولي العصر والمهدي المنتظر والمسيح الموعود وكل آمال الأمم في الخلاص, قدمت من واشنطن في مشروع بوش الديمقراطي, وتحققت إرهاصاتها عبر طلة السيدة غونداليزا رايس, وسبق إلى الإيمان بها وعاظ كثير من أهمهم دونالد رامسفيلد وكولن باول وديك تشيني, وهم اليوم حول مسيحهم الموعود يقاومون يأجوج ومأجوج في تورا بورا وغزة وبعقوبة وديالي ووزيرستان.‏

من وجهة نظري لا يبتعد فوكوياما كثيراً عن نيتشه الفيلسوف الألماني الجبار الذي قلبه من حديد وصخر, وكتب رؤيته على لسان زارا معلناً أن السوبرمان الجديد قادم, وأن علينا أن نكف عن إنتاج الضعفاء وأن نمنعهم من الإنجاب وأن نوفر للفقراء موتاً كريما سعيداً حيث لم يعد لهم مكان في هذا العالم, وأن الصدقات والإحسان والمعروف محض مكر من الكسالى والبائسين لسرقة ما جناه الأذكياء بنشاطهم وجدهم ومغامراتهم, وتماماً كمن كان يهيئ للحرب الكونية الجديدة سلم خلفه فيختة مشروعه الفلسفي الغاضب بعنوان ثوري هائج لا لبس فيه: اقهر الضعفاء, اسحقهم اصعد فوق جثثهم, لا مجد للحضارة إلا بعد الخلاص من هذه الطفيليات العابثة, وزوال الإنسان الضعيف ومجيء السوبرمان الموعود!!‏

ليست مبالغة في شيء أن هذه الأفكار كلها تطل من كتاب فوكوياما, ومع ذلك كله وجد فوكوياما نفسه مدعواً إلى منتدى الحوار الإسلامي الأمريكي, وحين بدأ يشرح نظريته بدا كما لو كان واعظاً محترفاً جاء للتو من التراجيديا المقدسة, وشاهد عجائب الدار الآخرة وهو يقول بمرارة يا ليت قومي يعلمون.‏

وفق فوكوياما فإن على الأمريكيين واجبا حضاريا يستوجب أخلاقياً الاستعلاء على العالم والقيام بمهمة إخراج البشرية من الظلمات إلى النور, وتحطيم النظم الإسلامية والاشتراكية والقومية التي لا تؤمن بالليبرالية والمنتشرة في العواصم الإسلامية السبع وخمسين من أندونيسيا إلى السنغال, وإدخال شعوبها طوعاً أو كرهاً إلى الجنة الليبرالية الموعودة, وحين تشحن الجيوش الأمريكية آلاف الأحرار عبر فرقاطاتها إلى سجون غوانتانامو وأبو غريب يقول السيد فوكوياما: عجبت لأناس يقادون إلى الجنة بالسلاسل!!‏

قلت للسيد فوكوياما: إنها نفس النظرية التي قاتلت من أجلها الامبراطوريات المتوحشة في التاريخ, ولم تنتصر امبراطورية إلا قالت إنها نهاية التاريخ, وهذا القدر من العقيدة هو عينه ما قاله خطباء الامبراطوريات البائدة.‏

لغة أفصح عنها بوضوح الرئيس بوش بقوله: من ليس معنا فهو مع الإرهاب, وهو نقيض مباشر لقول المسيح من ليس ضدي فهو معي, ولكنكم تكررون كلام الاستبداد بعد أن تغلفوه بمصطلحات الحضارة.‏

قلت لفوكوياما: هل سمعت بشريعة لا إكراه في الدين? إنها ليست شيئاً نقرؤه في القرآن فحسب إنها أغلى قيم دستور الاستقلال الأمريكي, وبإمكانك أن تقرأها على جدارية توماس جيفرسون نبي الحضارة الأمريكية, وعلى قبة مكتبة الكونغرس, إنها قيم إنسانية مشتركة, ومن العجيب أن يتفق الأنبياء والحكماء على قاعدة ذهبية كهذه قبل عشرين قرناً ثم تكون نهاية التاريخ الموعودة دعوة للإكراه في الحضارة والسياسة والتقدم, وأن تكرس الفهم الاستبدادي وفق منطق من لم يكن معنا فهو مع الإرهاب!!‏

إنكم تتحدثون كما لو كانت أمريكا آلهة بيضاء على شكل تمثال الحرية ولكن فلاسفتكم المجربين يقولون شيئاً آخر, كتب نعوم تشومسكي أحد أبرز الفلاسفة المعاصرين: لقد كتب تشومسكي: (أعتقد أنه لا أمل على الإطلاق في مستقبل أفضل للبشرية, وخاصة مع ازدياد اكتساح النموذج الأمريكي المادي الاستهلاكي على مستوى العالم) وأعاد شرح هذه الحقيقة في كتبه المتتالية (مثلث المقادير) و (قراصنة وقياصرة) و (ثقافة الإرهاب) و (أوهام ضرورية) و (الديمقراطية المعوَّقة).‏

لا أظن أن شكل الأطماع الأمريكية سيختلف لو لم يأت فوكوياما, ولكن بكل تأكيد فإن عدداً غير قليل من قراصنة العولمة المتوحشة قاموا بارتكاب جرائمهم وهم مرتاحون, بعد أن قدم لهم فوكوياما الدليل المادي وفق تآويل خاصة للكتب المقدسة, جعلتهم يندفعون لارتكاب المزيد من الجرائم المبررة بالحفاظ على النسق الحضاري للأمة.‏

جريدة الثورة