تكرَّمت علي صحيفة الوطن يوم الخميس 18 / 7 / 2019 بنشر مقالي بعنوان ( مقهى النوفرة ــ بين الثقافة والذاكرة ) .
أرجو ممن يرغب بالاطلاع عليه أن ينال بعض إعجابه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــ مقهى النوفرة ــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــ بين الثقافة واللهو ـــــــــــــــــ


ليس أجملَ من جلسةِ صفاءٍ هانئة هادئة يمضيها المرء في عزلة فريدة يناجي فيها نفسَه أو يستمع إلى نجواها ، أو يقضيها بين خلان وأسمار يطيب له حديثهم وتهفو نفسه لهم .
وليس أي مكان يعطيك هذا الجو الممتع كالمقاهي الشعبية المنتشرة في مدينة دمشق القديمة . . . تلك المقاهي التي تحمل الأمرين معاً ، إذ فيها للعزلة والتأمل . . . وفيها أمكنة للتحادث وممارسة الألعاب الشعبية . . . ولعمري إن تلك الألعاب الشعبية (طاولة الزهر ــ الشدة ــ الدومينو . . . ) فيها ما فيها من المتعة والجذب . . . وفيها من راحة الأعصاب وهدوء البال .
منذ أكثر من ستين عاماً وقبل أن يتوقف نهر يزيد ( أحد فروع بردى عن الجريان ) كانت في دمشق القديمة بحرة كبيرة فيها نافورة كبيرة تتدفق منها المياه كجدول رقراق يداعب الأبصار ويسبي القلوب ويضفي على المكان سحراً أخاذاً ، وتصل إلى ارتفاع أكثر من أربعة إلى خمسة أمتار في بحرة مجاورة للمكان .
وقد باتت هذه البحرة العملاقة مزاراً لكل وافد إلى هذا البلد . . . وعلى طرف هذه البحرة تم إنشاء مقهى النوفرة الذي يتجاوز عمره خمسمئة عام .
ومما يثير الفضول اليوم أنه إلى جانب عراقة هذا المقهى وقدمه البعيد فقد حافظ على ملامحه دونما تغيير كبير رغم كل ما مر على دمشق من أحداث تاريخية .
حين ندخل إلى مركز ثقافي نشيط نجد أنفسنا محاطين بالثقافة الخالصة ؛ معارض ، لوحات ، محاضرات .
وحين ندخل إلى دار عرض للأفلام الكوميدية نجد أنفسنا مغرقين باللهو الكبير .
أما حينما ندخل إلى مقهى النوفرة فإننا نجد مزيجاً سائغاً وسطاً بين اللهو والثقافة . . .
فأرضه مازالت مرصوفة بأحجار البازلت السوداء . . . وجدرانه مازال معلقاً عليها لوحات تراثية قديمة يتجاوز عمرها المئة عام .
تلك الجدران التي تحمل من الذكريات العبقة ما لو روته لأدهشت الحاضرين .
وكم وكم مر على بابه وجلس في فنائه أناس وأناس لو اجتمعوا لشكلوا جمعاً كبيراً شدته رغبة اللهو والثقافة الشعبية .
أما موقعه فإنه يتميز بموقع استراتيجي في مدينة دمشق ، بل إنه يتوسط المدينة تماماً . . . وقد جعله موقعه الفريد هذا محطة لا بد أن يمر بها أي متجول في منطقة دمشق القديمة نظراً لأن جميع حارات دمشق تتفرع من عنده .
إذ يقع في حي النوفرة القديم العريق الذي كان يعتبر من محاسن مدينة دمشق ، ويطل على الجهة الخلفية الجنوبية للجامع الأموي ، ومن أمامه تتوزع حارات دمشق وتتفرع منها أزقة ضيقة تروي قصصاً وحكايات شعبية قديمة . . . وإن لكل قصة عبرة ولكل حكاية حكمة .
وإن ارتياد هذا المقهى والاختلاط مع رواده يمنح المرء ثقافة من نوع خاص . . . وهي لعمري ثقافة شعبية تراثية . . . وأي ثقافة .
إن هذه الثقافة الشعبية لهي أشد تأثيراً في النفوس وأكثر رسوخاً في الأذهان من تلك التي تقال على المنابر أو تكتب في الصحف والجرائد .
يتكون مقهى النوفرة من صالتين ؛ داخلية تحوي عدداً من الطاولات يتجاوز عددها العشرين طاولة وتتسع الطاولة لأربعة أشخاص، يرتادها الوافدون على المقهى ، وصالة خارجية فيها عدة طاولات منفردة يجلس على كل منها شخص واحد .
وقد كان المقهى على الرغم من صغر حجمه يعتبر القلب النابض لدمشق القديمة .
إن مقهى النوفرة في حقيقته أشبه بكتاب تراثي قديم ، تطالع في صفحاته سير أولائك القصاصين الشعبيين والحكواتية وتقرأ على جدرانها حكايات دمشق القديمة .
وقد عاب ـــ الكاتب الكبير ـــ توفيق الحكيم على مدينة لندن حين زارها لأول مرة قلة المقاهي فيها . . . وكيف لا يكون وهو القادم من الشرق العربي الذي يضج بالمقاهي .
ومما يؤثر لهذا المقهى أنه حافظ على عادة الحكواتي القديمة . . . إذ ما زال الناس يجتمعون ليلاً للاستمتاع إلى قصص البطولة العربية كما يرويها الحكواتي الذي يتخذ مجلسه كل ليلة رمضانية من أجل رواية القصص الشعبية بفيض من خياله الواسع .
يتجدد الماضي في مقهى النوفرة حين يدخل الحكواتي ليقص أروع قصصه على مسمعٍ من أبناء سورية ، وكذلك السياح الذين جاؤوا من كلّ حدبٍ وصوبٍ .
إن حكاية المقاهي في دمشق حكايةٌ عريقةٌ تمتدّ جذورها إلى ذلك الزمن الذي يسمونه ( الزمن الجميل ) ؛ حين كانت تلك المقاهي تحتضن كبار الأدباء والشخصياتٍ المهمة التي كان لها دورها في عالم السياسة والفن .
إن ارتشاف كأس من الشاي الخمير في مقهى النوفرة يجعل المرء جزءاً من الماضي العريق ، وكم تحلو هناك الكلمات والهمسات .
أن تعيش الماضي مرة أخرى ماثلاً أمامك ؛ فإن هذه متعة لا تضاهيها متعة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.أنس تللو