من مذكرات طبيب نفسي
بقلم: شامل سفر
«لن تتكلم معك، ولا مع غيرك .. في الحالات التي تكون فيها هادئة، تصمت طويلاً .. وأما عندما ينتابها الهياج، فحدِّث ولا حرج .. أضطرُّ للاستعانة بموظفي الحراسة إلى جانب الممرضين .. فقط كي أتمكن من إعطائها الحقنة المهدئة ... خمسٌ وعشرون عاماً وأنا أُدير هذا المَشفى .. لم تصادفني حالةٌ مثل حالتها .. بل لم أقرأ في حياتي عن شيءٍ كهذا .... على صعيد التصنيف الطبي، لم أصل حتى الآن إلى تشخيصٍ نهائيٍّ فاصل .. وأما التصنيف القانوني، فَعَجَبٌ عُجاب .. شعوذة .. احتيال .. ترويج للدعارة .. إتجار غير قانوني بمواد ممنوعة .. شذوذ .. وأخيراً، جريمة قتل متعمّد .. مع اعتراف مسجّل أيضاً».
هبطَ مستوى التفاؤل لدى الطبيب الشاب إلى ما قبل الصفر بقليل .. يا له من استقبال .. يا لها مِن: (مرحبا) .. لا في اليوم الأول وحسب .. بل في الساعة الأخيرة من إجراءات استلام إدارة مشفى الأمراض النفسية ... وكأن المدير الذي بقي له بضع دقائق كي يتحوّل إلى مديرٍ سابق .. يشفي غليله ... يقول بلسان الحال: «تَفَضَّلْ .. استلمْ .. تظنُّها نزهةً جميلة .. إليكَ مثالاً خفيفاً لطيفاً؛ تبدأ به يومك الأول في منصبك الجديد .. مبروك» ...
قرأ المديرُ السابق في عيني الطبيب الشاب كلَّ شيءٍ تقريباً ... ستون عاماً ونيّف في هذه الحياة .. مع ثلاثين منها في ممارسة الطب النفسي .. والإيمان بالله؛ قبل ذلك كله .. وبعده .. وخلاله .. أكسبته من الفراسة ما يكفي لِتَوقُّعِ ما يجول في بال الطبيب الشاب .. فتابع قائلاً: «يا دكتور، أنا لاأطفئ الأنوارَ عليك منذ اليوم الأول .. بل أضعُكَ في صورة الأسوأ .. كي يهون عليك الباقي. ها قد سلَّمتُكَ كل شيء، أرجو لك التوفيق. إذا خانتني الذاكرة في شيءٍ ما، رقم هــاتفي عندك. لا تتردد في الاتصال .. عن إذنك».
تم الاستلام والتسليم في أواخر الدوام .. تعرَّفَ الأطباء الاختصاصيون والمقيمون والممرضون وطاقمُ المشفى كله، على مديرهم الجديد .. ولم يبقَ شيءٌ لهذا اليوم .. البداية الفعلية في الغد .. بقيَ أن يصافح الطبيب الشاب أغراضَ مكتبه .. أن يتعرّف إليها .. فقد اعتادَ على التعامل مع الأشياء على أنَّ لها روحاً .. كالمكان .. ككل شيء .. خصوصاً الكتب .. مكتبة المدير السابق غنية .. رائعة .. تركَها كما هي ... وجدَ الطبيبُ الشاب ضالَّتَهُ؛ باشرَ مصافحةَ أصدقائه الجدد ... بين الأغلفة المنضّدة بأناقة .. كان هنالك كنزٌ حقيقي.
«لقد خانته الذاكرة فعلاً» .. قالها بصوتٍ مسموع .. هذه مذكراته .. مذكرات الطبيب السابق .. مذكرات الخبرة .. خلاصة السنين .. كلامه الذي يكتبه لنفسه .. دون مصطلحات طبية .. دون تنميق .. ودون شكليات .. «يا إلهي» .. هل نسيَها فعلاً .. أم أنه تركها عامداً .. أم ماذا؟! ..... إغراء الكلمات المكتوبة لا يُقاوَم .. خصوصاً في شبه خلوة .. والأهم أنها مكتوبةٌ بخط اليد .. لا لِيقرأها الآخرون ...
نادى المديرُ على المستخدَم .. سأله عمَّن بقيَ .. ففهم أنه لا أحد إلا المقيمين والمناوبين .. صرفه .. أقفل الباب بالمفتاح .. وبدأ بالقراءة.
التقليب .. التصفُّح .. عادةُ كلِّ قارئٍ على وجه هذا الكوكب تقريباً .. نوعٌ من استكشاف عنوانِ المكتوب .. عَلَّ المكتوبَ يكونُ مفهوماً من عنوانه؛ فَيُصرَفُ النظر .. أو تصدِمُ العينين جملةٌ قوية .. أو اثنتان .. أو عنوانٌ لافت .. فَيُتَّخَذُ القرارُ بالمتابعة .. القارئ يشعر بالاحترام تجاه الكاتب، منذ أول دندنةٍ تَضْبِطُ فيها الكلماتُ (دُوزانَ) أوتارِ آلاتها .. للتوافق مع سيمفونية الكتابِ كله .. وللتناغم مع إشارات المايسترو .. مع حركات يدَي الكاتب ... وبعد بضع تقليباتٍ هنا وهناك .. سرقَ الطبيبُ الخبيرُ انتباهَ خَلَفِهِ الشاب .. اقتنصه .. فَسُرَّ القارئُ النَّهِمُ بدور الطريدة التي وقعت في الأسر .. سَكَنَ .. وبدأ باستثمار ألذِّ النتائج التي تتمخَّضُ عن هكذا هزيمة: المعلومات .. القراءة .. فِعلُ القراءةِ بحدِّ ذاته، نصرٌ ... بين الكاتب والقارئ، لعبةُ استغراقٍ .. لا فائزَ فيها فعلياً.
كانت عينا المدير الجديد، ويداهُ أيضاً، تتحركان بشكلٍ يكاد يكون لا شعورياً ... كان يبحث عن صفحات بعينها .. يتحدث فيها الخبيرُ القديم المخضرم .. عن الحالة الخاصة .. عن تلك المرأة التي خَتَمَ بها مقابلته مع خَلَفِهِ .. والتي بدأ المستجدُّ يومه الأول بِتَحَدٍّ خاصٍّ بها .. تَحَدٍّ يتلخّص بجملةٍ واحدة: «لن تتكلمَ معك، ولا مع غيرك» ... يا للمترادفات كم هي قاسية أحياناً .. ألا تعني هذه الجملة أنْ: «لن تتمكن من فَهْمِ حالتها»؟! .. بلى .. ذلك هو المعنى .. ثم أن يتركَ المخضرمُ مذكراتِه؛ ناسياً، أو متعمِّداً، فالحالتان تشغلان البال .. لكلٍّ منهما: (لماذا؟) .. ولِكُلٍّ إجابات.
وأخيراً .. فصلٌ من المذكرات، مكتوبٌ بِخَطٍّ أكثر تأنِّياً .. وكأن اليدَ تمهَّلَت كي لا تسبقها الأفكار ... الفصلُ، يتحدث فيه صاحبُ الثلاثين سنةً من الخبرة .. عن تلك المريضة.
كتبَ المخضرمُ؛ يقول:
«كان ابنُها الوحيد محتالاً على مستوى .. مشعوذاً من القرن الحادي والعشرين .. من زمن الإنترنت واختراق الخصوصيات وصور الـ 3D المتحركة .. باختصار، كان مصيبةً تمشي على قدمين ... وأما هي .. أمه .. فكارثة ... هي التي وَرَّثَتْهُ المهنة .. أرضعته إياها مع الحليب .. دندنت له بسجع كلماتها وهي تهزه لكي ينام .. واعتادت على إيقاظه بها ... هي من زمنِ رِجل الدجاجة السوداء .. وبيضة الحية الرقطاء .. والماء الذي، على عتبات الأبواب، ترشّه النساء .. وأما هو، فقد تابع مشوار أمه، لكن مع التعديل .. مع التحديث .. مع العصرنة ... ذهبت أيامُ زرعِ المندوبات بين الزبائن لفتح الأحاديث ونقل الأخبار .. راحت الأيام التي كانت فيها الـ (شيخة) تعرف اسمَ أمِّ الزبونة .. من الزبونة نفسها .. الزبونةِ التي باحت قبل قليل بثلاثة أرباع خصوصياتها العائلية .. لامرأةٍ جلست بجانبها وقالت: «مرحبا» .. صار الابن ممن يستغلون الوقت الفاصل بين اتصال الزبون لأخذ الموعد .. ووقت حضوره .. في الدخول إلى صفحة الفيسبوك .. والبريد الإلكتروني .. ثم في اختراق الجهاز نفسه .. وسحب كل شيء ..... أيامُ اختباءِ خبيرةٍ في تقليد الأصوات وراء الستارة والدخان؛ كي تقلّد صوتَ المرأةِ التي سحرت زوجَ الزبونة، وتعترف بما فعلت، وكأن صوتَها يأتي من أعماق الغيب .. تلك الأيامُ وَلَّت .. صار الابن المحتال على مستوىً آخر .. بسيطة .. موظفٌ خبير في تصاميم الحاسوب .. صورةٌ لأم الزبونة أو لأم زوجها من الفيسبوك .. تحويل إلى 3D .. ثم تحريك الصورة بالبرامج المختصة .. ثم جهازٌ حديث يجعل الصورةَ تتجسَّدُ في الفراغ أمام الزبونة .. التي تقتنع فوراً .. في جَوٍّ مليءٍ بالدخان .. والبخور .. والتمتمات غير المفهومة .. نوعٌ من التحضير النفسي ... ثم مفاجأة .. مونتاج لطبقة الصوت المُرافق للخدعة المحترفة .. مع استخدام تقنية تغيير الصوت إلى أقرب طبقة ممكنة من صوت الزبونة نفسها ... ثم الزبونةُ مستعدةٌ لأي شيء .. فهذه أمها أمامها! .. أو هذه حَمَاتُها أمامها؛ تعترف لها بالسحر الذي قامت به! ... غُسِلَ الدماغُ الذي لجأ لغير الله .. فَأُوكِلَ لِمَن لجأ إليه ... الزبونةُ إذن مستعدةٌ لأي شيء .. أي شيء .. مهما كان .. فقط كي تنتصر .. كي تفك المربوط .. أو كي تُعيد الغائب .. أي شيء .. و(أي شيء) هذا .. قابلٌ للتصوير .. صوتاً وصورة .. ثم للابتزاز .. وبعد ذلك للتهديد بالفضيحة .. نفس القصص القديمة .. مع نكهة حداثة .. والنساء دائماً يملكن الذهب .. والذهبُ كان وما يزال .. معبودَ الأم المشعوذة .. ومعبودَ ابنِها أيضاً.
الأدهى .. أن الشمطاء .. على الرغم من أنها تعمل في بيتها .. وابنُها في بيته .. كانت تساعد ابنَها .. في بعض الحالات المستعصية .. كان يحيلُ إليها زبائن من النساء .. وهي تُحيل إليه .. ثم اعتادا على التبادل .. وهكذا إلى أن اعترفت أمه له بأن لها مزاجاً خاصاً .. فهي تحب أن ترى الشعورَ بالذنب على وجه فريستها التي تستسلم لها .. بعد أن استسلمت لابنها .. ثنائيةٌ شيطانيةٌ نجسة .. وتبادلٌ دنيء.
بالطبع، لم يفكر أحدٌ في التملّص أو الهروب .. فلا مجال .. المُستَمسكات سمعيةٌ بصريّة .. والابتزاز مستمر .. لكن الخضوع له وقتٌ وينتهي .. فالفرائسُ كثيرة .. وأموالُها تنفد .. والمللُ من طبع البشر ... وبالتالي لم يُحذَف من قائمة الفرائس إلا مَن تقرَّرَ حَذْفُهُ .. لكن لكل قاعدةٍ استثناء.
استثناءٌ واحد ... هو مَن أتى بهذه المخلوقة إلى هذا المَشفى الذي أنا مديره .. أنا الذي جعلَتني حالتُها .. أتمنى لو أني اخترتُ لنفسي اختصاصاً آخر غير الطب النفسي .. بل جعلَتني أنتظرُ يومَ تقاعدي .. عسى أن أنساها .. ولا أظن أني سأقدر على نسيانها.
ذلك الاستثناءُ .. كان عقوبةً إلهيةً دنيوية .. لكلٍّ من الأم وابنها .. صَعقَتْهُما؛ وكأنها تقدِّمُ نموذجاً مصغراً جداً، عمَّا سَيَلقَيانِهِ هناك .. حيثُ حسابٌ ولا عمل.
زبونةٌ من زبائن الابن .. جفاها زوجُها .. وبدل أن تلجأ إلى الله .. داعيةً أن يلهمها الصواب .. ثم تُعْمِل عقلَها باحثةً عن موضع الخلل .. لجأت إلى مشعوذ .. إلى ابن الشمطاء .. الذي استقبل دجاجةَ البيضِ الذهبي .. بالترحاب .. بالـ (بروتوكول) المُعتاد .. ثم بأخذ كل ما يمكن أخذه .. حتى إذا شَبِعَ، انتقل إلى المرحلة التالية .. «الجانُّ الأرضي لاحظَ أنك غير شاطرة .. ويريدون تعليمكِ» .. الفطرة السليمةُ ـ في البدايةِ ـ ترفض .. يتحرك المؤشِّرُ المخلوقُ في داخل كل أبناء آدم، نحو الخط الأحمر .. ينبّه .. يحذّر ... لكن المشكلة .. أن الاستسلام الأولي هو أول الرقص .. أي أنه دليلٌ على الاقتناع .. والتسليم ... حينئذٍ ينتقل المحتالُ فوراً، إلى مرحلة الضغط التالية .. كبسة زرٍّ صغير خفيٍّ موضوعٍ تحت الطاولة .. فتبدأ أصوتٌ منكرة؛ تمت عملياتُ مونتاجِها باحترافيةٍ بالغة .. «الجانُّ غضبوا منكِ .. أكرموكِ بعرض المساعدة .. وأنت تترددين!» ... ثم كبسة زرٍّ آخر .. ويبدأ دخانٌ من نوعٍ خاص .. بالانتشار في المساحة الشخصية المحيطة بمكان جلوس الزبونة فقط .. دخانٌ ينفثه محركٌ ذي صوتٍ مكتوم .. دخانٌ من نوعٍ خاص .. يسبب خدراً في الأعصاب .. واضطراباً في ردة الفعل العصبي .. وبالتالي: النفسي .. ويساهم الجو الغائم .. والجهل .. والغباء .. في تحقيق الاستسلام ..... ثم التكرار .. ثم التصوير .. وبعد ذلك، المزيد من الابتزاز ... وصولاً إلى بيع البيوت .. ورهن الأراضي .. وتقديم المصوغات الذهبية .. بل حتى الإتيان بالغير إلى المصيدة أيضاً ...
حتى الآن .. كان كل شيء يسير كالعادة .. لكن زبوناً آخر .. لا زبونة امرأة .. جاء إلى الشمطاء؛ طالباً العونَ والمدد .. ففوجئت الشمطاء بأنه الديك .. زوج دجاجة البيض الذهبي نفسها .. التي لجأت إلى الابن المشعوذ .... جاء الديكُ يريد أن تطلب زوجتُه الطلاق .. بمبادرةٍ منها .. بمحض إرادتها .. فصار الاحتيال مزدوجاً .. وبدأ اللعب على الحبلَين ... ازدادت الأرباح لكن عيون المشعوِذَين عَمِيَتْ عن أن مجيء هذين الزبونين .. كان بدايةَ النهاية.
الابن .. مارس شيطانيته مع الزوجة، ثم أحالها إلى أمه التي ما قصّرت .. ثم أخذت الشمطاءُ الذهبَ من الزوج، كما من الزوجة ..... وهكذا إلى أن دَقَّت العصا ثلاثَ دَقَّاتٍ على خشبة المسرح .. وبدأت تراجيديا حقيقية.
في لحظةِ شجارٍ عنيف؛ بين الدجاجة وابن الشمطاء .. هددته أنها يمكن أن تحكي للديك عمَّا حصل .. على مبدأ: عليَّ وعلى أعدائي .. هددها شيطانُ الإنسِ بالفضيحة .. فسكتت .. لكنه قرأ على وجهها علاماتِ الانهيار .. خاف من أن المُنهارَ قد يفعل أي شيء ... ثم همسَ له أحدُ شياطينه بالحل .. «أَغْرِ الزوجَ بخنقِ زوجته وهي نائمة» .. لا يهم .. أحدهما في المقبرة .. والثاني على حبل المشنقة ... بسيطة .. يتم إطلاعُ الزوجِ على بعض مقاطع الفيديو التي تظهر فيها زوجته .. لا على شاشة .. بل بتقنية الإظهار الثلاثي الأبعاد في الفراغ .. وكأن خبرَ ممارستها للعهر جاء من الجنِّ، لا من تصوير البشر .. دون نسيان المونتاج طبعاً؛ لإخفاء وجه المشعوذ .. ثم أصواتٌ منكرة غرائبية تأتي من النظام الصوتي في الغرفة الخلفية؛ تُوهِمُ الزوجَ الغاضبَ بأن خبر ممارسة زوجته للخيانة، آتٍ من الغيب .. لا من تصوير البشر على كاميرا فيديو HD .. والأصواتُ تقول أن دمها حلال ... في الوقت الذي تكون فيه الزوجةُ نائمةً في البيت؛ بتأثير مخدرٍ دخانيٍّ استنشقته أثناء تواجدها في بيت المشعوذ، قبل ساعتين فقط من اتصال المشعوذ بالزوج داعياً إياه للمجيء .... كل شيء جاهز .. أركانُ الجريمةِ تَمَّتْ .. وكأنها الجريمةُ الكاملة التي طالما حلم بتحقيقها المجرمون .. وكُتَّابُ القصص البوليسية أيضاً .. ولم .. و (لن) تتحقق.
لن ينبس أحدٌ ببنت شفة .. فالفضيحةُ مع الموت .. مثلُ الـ (موت مع عَصَّةِ قبر) .. فلن يظهر اسمُ الشمطاءِ ولا اسمُ ابنِها .. ولن يقول الزوجُ القاتلُ عن الدافعِ شيئاً .. إذ لا دليل .. الدليلُ ـ حسب وهمِهِ ـ أتى من عالَمِ الغيب .. والشرطة القضائية لا تأخذ إلا بالحقائق الملموسة .. الإعدامُ أكيد ... وهكذا كان.
وهذا الذي كان .. تَضَمَّنَ تفصيلاً صغيراً .. فاتَ المشعوذَ أن يتوقعه ... وفاتَ الأمَّ الشمطاءَ أيضاً ... إنها وصية .. وصيةٌ تفصيلية؛ ذكرتْ فيها المغدورةُ قبل أن تُقتَل، كلَّ شيء .. لأختها الوحيدة التي تثق بها.
يبدو أن المسكينة شعرت بقرب نهايتها .. فطلبت من أختها ـ في حال أصابها مكروه ـ أن تنتقم لها .. أن تجعل القاتلَ يقتل أمه الشمطاء .. تماماً كما حصل .. واحدٌ في القبر .. والثاني على حبل المشنقة .. لكن هذه المرة .. لا بصمتٍ .. بل بفضيحة .. فضيحة ولها (رِيحَة) .. لها رائحةٌ سيئةٌ نتنة تنتشر في الأجواء .. عسى أن يفهم الجاهلون .. أن طريقَ المشعوذين طريقُ سوءٍ ونَجَس .. فلا يقعون .. والحقيقةُ أن أخت المغدورة .. كانت منتقمةً من الطراز الأول.
كل شياطين الدنيا ومشعوذيها .. ومحتاليها .. بكل ذكائهم ونجسِ أفكارهم .. لا يصلون إلى مستوى دهاءِ امرأةٍ قررت الانتقام .. وخططت له ..... كل دهاء الرجل، يتحوّل إلى لا شيء .. أمام امرأةٍ قررت أن تطبخه على نارٍ هادئة .. إلى أن ينضج .. ويركع.
لم تتصل به .. لم تذهب لعنده .. لم تتصل بالإنترنت باحثةً عنه .. أبداً ... تعليماتُ الدجاجةِ المقتولة كانت واضحة: «إياكِ والإنترنت .. لديه مخترقون محترفون» ... اكتفت برسائل الورق .. بالبريد العادي ... الورق ما زال له تأثير .. خصوصاً إذا كان خطُّ اليدِ .. خطَّ يدِ أنثى .. تعرف كيف تكتب .. وكيف تختار لونَ الورق .. والحبر .. ونوع العطر الذي تنقط منه نقطةً على الورقة .. ثم كيف تختار المغلّف ...
ابنُ الشمطاء .. يستطيع اختراقَ أيِّ جهازٍ جوّال .. أو أيِّ حاسوب .. وأما أن يذهب إلى البريد؛ طالباً معرفة عنوان بيت صاحبةِ رقمِ صندوقٍ بريديٍّ معيّن .. فالنتيجة معروفة .. سينٌ وجيمٌ .. ثم حبسٌ غالباً.
وهكذا نضج الهدفُ على نارٍ هادئة ... استسلم .. ركع .. رسائله صارت تستجدي .. تتولَّه .. تقدم كل التنازلات ... فجاءه الجوابُ غريباً .. مِن مثلِ ما اعتادَ هو على طلبه مِن فرائسه ... «أريدُ تشجيعاً .. أريد مهراً غالياً .. لا أريد الزواجَ منك .. أُريدُكَ بالحرام .. ولهذا .. عليكَ أن تقدم لي مهراً مِن حرام» ...
لا أعرفُ، حتى الآن، كيف استطاعت الأختُ المنتقمة إقناعَ ابنِ الشمطاء، بأن يقدّم لها ذاك الثمن .. ذاك الثمنَ النجس الذي انتظر أكثر من عشرين رسالةً تالية، قبل أن تحدده له المُرسِلةُ بالاسم .. بالتحديد ... «أنا لا تتحرك أحاسيسي بالأفلام التي يصورها محترفون .. أريد شيئاً واقعياً .. أريد أناساً في الفيلم؛ أعرفهم .. رأيتُهم سابقاً .. ولقد رأيتُكَ ..... رأيتُكَ من حيث لم تَرَني .. أريدُ أن أرى مهارتك .. هذا مهري».
أجهلُ كيف تمَّ لها ما أرادت .. أعترفُ بأني لم أتوصل إلى اكتشاف السبب، مع صعوبةِ أن يعترف طبيبٌ مثلي، وفي مثل سني وخبرتي، بذلك ... لكن المشعوذ، في النهاية، اقتنع .. أذعن .. وبدأ يرسل لها مقاطع فيديو كثيرة وواقعية .. واقعية جداً .. يظهر فيها مع فرائسه ..... ففوجئ برسالةٍ جوابية طال انتظاره لها: «أريدُ أكثر» ... وصلته هذه الرسالة في الوقت الذي كانت فيه عمليات المونتاج، تجري على قدمٍ وساق .. لا بأيدي محترفين .. لا .. فالأخت حريصة على سمعة الناس .. تعلّمت هي المونتاج .. عبر دورات موجودة بكثرة على اليوتيوب .. وقامت هي بالمونتاج.
لم تحدد المنتقمة ما تريد .. تركت لخياله الشيطاني أن يبتكر .. أن يستنتج .. فابتكرَ .. واستنتج ... وصلَ به السُّعَارُ الخنزيريُّ .. إلى حلٍّ خنزيريٍّ هو الآخر .... بدأ يرسل مقاطع للشمطاء .. لأمه .. نعم .. لأمه .. وهي في .. لِنَقُلْ .. مثلاً، أنها أثناء جلسات متابعة حل بعض المشكلات .. لبعض زبائنه من النساء اللواتي أحالهن إليها ... ومن حيث النتيجة، صار لدى المنتقمة أرشيف كبير .. من فضائح الطرفين .. الابن .. والأم.
تساءلتُ كثيراً .. إلى أين كان ابنُ الشمطاء يرسل مقاطع الفيديو، وكيف؟! .. فلم يكن لديه إلا رقم صندوق بريدي .. لا عنوان بريد الأخت الإلكتروني، ولا صفحتها على الفيسبوك، ولا أي شيء آخر .. وما زال هذا إلى الآن، سراً غامضاً بالنسبة إليَّ .. لكني لا أشك للحظة، أن إنسانةً في مثل ذكاء المنتقمة ودهائها وتخطيطها .. لم تكن لتعدم وسيلةً مناسبة ... ولقد حاولتُ أن أعرف من الأم .. من المريضة المقيمة عندي في المشفى منذ سنوات، دون أن تتكلم إلا عندما تنتابها هجمةُ الهياج ... ففشلتُ .. ربما لأنها لم تكن تعرف عن ذلك شيئاً .. أو ربما لأن الأخت المنتقمة التي كانت قد أعدَّت العدة للهجرة إلى أستراليا .. أبعد نقطة في الأرض .. كي تبتعد عن ذكرياتها المؤلمة .. قد أتقنت إخفاء هذا الجانب من الخطة، ببراعة مذهلة.
هذا ما لا أعرف ... وأما الذي أعرفه جيداً، لأنه مُثْبَتٌ في تقارير الشرطة الجنائية ومرافعات المحامين، فهو نهاية القصة .. استفاقَ فضاءُ الإنترنت في يومٍ من الأيام .. على سيلٍ هادر من نُسخ فيلمٍ كامل .. فضائحيِّ الطابع .. موثَّق بالأسماء .. واسم العائلة .. والعناوين ... ومليء بالمقاطع التي تم تقطيعها بمونتاجٍ احترافي .. ومنشور في كل مكان .. الفيسبوك .. اليوتيوب .. التويتر .. الإنستغرام .. حتى العفاريت الزرق شاهدته وتناقلته .. وفي غضون ساعات .. كانت الشرطة تطرق باب بيت ابن الشمطاء .. ابن الشمطاء الذي لم يجد مكاناً يهرب إليه قبل مجيء الشرطة .. إلا بيت أمه .. ذلك البيت الذي أغفلت المنتقمة ذِكْرَ عنوانه في الفيلم، عامدةً.
وللحقيقة والتاريخ .. فقد نجحت المنتقمةُ في إخفاء وجوه الفرائس وملامحهم ضمن الفيلم .. ولم تُظهر إلا وجهَي المشعوذ .. وأمه ... أمه التي استقبلته ذاك المساء .. طمأنته .. قالت له أن كل شيء قابل للحل؛ بوجود كل ذلك الذهب بين أيديهما .. أعدَّت له عشاءً تقليدياً خفيفاً .. تناوله على مهل .. جبن .. لبن مُصَفَّى .. و(مكدوسة) .. وبضع حبات من الزيتون ..... وكأسٌ من الشاي .. ذَوَّبَتْ فيه الأمُّ الشمطاء .. كميةً كافية من السكّر .. مع حبة سيانيد».
التفت الطبيبُ الشاب نحو ساعة الحائط .. كانت قد تجاوزت الحادية عشرة ليلاً بقليل .. الهدوء يعمُّ المشفى بأكمله .. استغرقته المذكرات .. دوّخته كلماتُ المدير السابق .. أراد أن يتابع ... لكن صوتَ امرأةٍ .. طاعنة في السن .. جاءه من خارج المكتب .. صوت مبحوح .. متحشرج .. يزعق .. يصرخ ... وصوت تراكض الممرضين في الممر .. يهرعون لإحضار إبرة المهدِّئ ... والصوت لا يكف عن الصراخ ...
ـ أنا قتلته .. اقتلوني .. أرجوكم .. اقتلوني .. أنا قتلته .. أنا قتلته.
#Shamel_Safar