ذكريات في أذربيجان 70
------------------------
باكو وسحر قزوين
زرت باكو مرات عديدة ، وكانت زيارتي الأولى مناقشة علمية في أكاديمية العلوم حول المثاقفة الكبرى بين الحضارة العربية الإسلامية ، والحضارة الأوربية الغربية ، والتأثير المتبادل بين الحضارتين وكانت صلتي مع الصديق البروفسور الدكتور رفيق علييف ذات خصوصية علمية ، وهو رئيس الأكاديمية التي لا تزال تذكر زوار أذربيجان بأنهم في بلد مسلم ، وقد حدثني كثير من مسلمي أذربيجان عن معاناتهم سبعين عاماً ونيف تحولت فيها المساجد إلى مستودعات وأحياناً إلى ما هو أسوأ، ولكن كثيراً من الناس كانوا يخبئون الإسلام في أعماقهم، وقد وصفت باحثة آذرية هذا الحفاظ على الدين بأنه (كالحفاظ على الزهرة النفيسة ) وقد خبأ المسيحيون كذلك دينهم في قلوبهم كما فعل المسلمون، وكانت أذربيجان عبر التاريخ تصل الشرق بالغرب، لأنها محطة مهمة على طريق الحرير القديم، ولقد هرعت إلى مسجد محمد بن أبي بكر حين علمت أنه الأقدم في باكو القديمة، وصليت فيه وكان الإمام شاباً تركياً يجيد تلاوة القرآن الكريم·
وكان طبيعياً أن نجد كثرة من الأجيال الشابة لا تكاد تعرف شيئاً عن الإسلام، ولكن المحزن أننا وجدنا من يشتري من المحتاجين دينهم بحفنة دولارات فيخرجون من الإسلام ، وهناك مؤسسات نشطة لتحقيق هذا الاختراق، لكننا في المقابل كنا سعيدين بالتعرف إلى باحثين مسلمين كبار من أذربيجان، أذكر منهم الدكتور ضياء الدين بينادوف، والدكتور رامز عليوف، والدكتور عبد المطلب محمدوف، وقد نسيت أسماء كثير ممن قابلتهم من كبار المثقفين الأذريين، ولكنني حاورتهم ولمست أنهم يكرهون أن يظن العالم أن قيمة أذربيجان هي في النفط الذي يعدهم بأن تكون بلادهم من أهم دول بحر قزوين أو دول أوراسيا، لاسيما بعد أن وقعت الحكومة الأذرية اتفاقية ضخمة مع شركات النفط الكبرى في العالم 1994 سميت اتفاقية العصر، فالعلماء والباحثون يريدون ألا يغفل العالم عن أهمية تراث أذربيجان الثقافي وحجم مساهمتها التاريخية في بناء الحضارة الإسلامية، ثم عن أهمية مساهمتها الكبرى في قوة الاتحاد السوفييتي السابق·
ولكون أذربيجان واقعة خلف جبال القوقاز وبين داغستان وجورجستان وتركيا وإيران وأرمينيا التي تواجه معها مشكلات حول إقليم قره باغ، فإن هذا الجوار المتعدد أتاح غنى ثقافياً خرج منه عدد كبير من الشعراء والمفكرين والباحثين، والفنانين الذين برعوا في فن الزخرفة الإسلامية وكانوا متفوقين في صناعة السجاد·
ويعود تاريخ باكو إلى الألف الأولى قبل الميلاد، وكنت قرأت من تاريخها ما أدهشني، ذاك أن أجدادنا العرب المسلمين الأوائل فتحوها بعد سبع سنين من وفاة الرسول الأعظم، وبالتحديد عام 639 في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث وصلوا إلى مناطق القوقاز الجبلية الصعبة، وكانت الحملة الأولى بقيادة عتبة بن فرقد، وقد تلاه حذيفة بن اليمان وبعده المغيرة بن شعبة، وقد تصاعد الفتح في زمن الأمويين حتى أصبحت البلاد كلها مسلمة، وقد بلغ عدد المساجد في أذربيجان (ألفي مسجد) لكن هذا العدد تضاءل في القرن العشرين إلى ستة عشر مسجداً بعد أن وقعت البلاد تحت سيطرة الشيوعية، ومع ذلك يشكل المسلمون الغالبية العظمى من السكان وحسب الإحصائيات هم %91 ، وأكثرهم من الشيعة ، و%15 من أهل السنة ، وكما يقول الباحثون إن هذا الانقسام شكلي ، ما دام الجميع يرون القرآن الكريم كتابهم المقدس .
ولقد أتيح لي أن أزور باكو حين كنت وزيراً للثقافة ، حيث أقمنا أسبوعاً ثقافياً ثرياً ، وقدمت فيه فرقنا الفنية عروضاَ متميزة ، كما أسهم مثقفونا الكبار في حوارات عديدة مع زملائهم الآذريين ، وقد زرت الرئيس إلهام علييف ، وكانت جلسة ودية و حوارية سياسية عميقة ، وكانت آخر زيارة لي إلى باكو عام 2009 للمشاركة في مؤتمر وزراء الثقافة الإسلامي السادس ، وهو ما سأتحدث عنه في بوست قادم .
د.رياض نعسان آغا