في ذكرى وفاته في حزيران 1947

هل تعلم أن الزعيم سعد الله الجابري قد أعاد إلى خزينة الدولة مبلغ /6/ ستة آلاف ليرة سورية زادت عن مصروف الوفد السوري الذي ترأسه إلى الإسكندرية لاجتماع وتأسيس الجامعة العربية، في الوقت الذي مرض فيه وهو على رأس عمله، فدخل مستشفى المواساة في الإسكندرية، وخرج مديناً بما يزيد عن /12/ ألف ليرة سورية، ولم يسمح لنفسه أن تمتد يده إلى المال الذي فاض عن حاجة الوفد .
وفي الذكرى الأولى لرحيله، أصرَّ آل الجابري أن يكون الشاعر عمر أبو ريشة أول المتكلمين في رثائه.. فكان له شرط بأن يشاهد المنزل الذي كان يقطنه الفقيد.. فتوجه أبو ريشة إلى المنزل وكان في شارع شكري القوتلي وعندما صعد إلى الطابق الثاني شاهد غرفة النوم وبها نافذة واحدة مطلة على الشارع أحد زجاجها مكسور وطبق من الكرتون يغطي نصف النافذة.. وقال أبو ريشة مستغرباً ومتعجباً : هنا كان ينام رئيس وزراء سوريا؟!!.. فأجابوه: نعم.. فهو لم يقبض قرشاً واحداً من الدولة لأنه كان يوقع في نهاية كل شهر على جدول الراتب ويطلب إلى مدير مكتبه أن يوزعه على المسلمين ...
وفي يوم تأبينه دعي عدد محدود من كبار الشعراء للمشاركة في حفل التأبين الكبير الذي أقيم للزعيم العربي سعد الله الجابري . ولم يتسع المجال لسائر الشعراء الأعلام أمثال شفيق جبري وخليل مردم بك ، ومحمد البزم ، وأنور العطار لإلقاء قصائدهم في هذه المناسبة الحزينة .
لفتت الانتباه في هذا الحفل القصيدة الرائعة التي ألقاها : عمر أبو ريشة . فقد كان هذا الشاعر العملاق على خلاف مع الجابري ، وهو ابن مدينته . غير أن شاعرنا حين علم بوفاة الزعيم الكبير ، نسي كل ما كان بينهما من " سوء تفاهم " ففاضت دموعه حزناً وأسى ، ونظم قصيدة تعتبر من روائع الشعر العربي . وقد استهلها بهذه الأبيات :

هيكل الخلد لا عدتك العوادي = أنت إرث الأمجاد للأمجاد

بوركت في هواك كل صلاة = صعّدتها حناجر العّباد

منك هبت سمر الرجال وأدمت = حاجب الشمس بالقنا الميّاد

والمروءات كل ماحملتها البيـ = ـد في طول سيرها من زاد

هتفت بالجهاد حتى تشظّى = كل تاج على صخور الجهاد

وإليك انتهى مطاف علاها = دافق الخير مشرق الأسعاد

ويتعرض الشاعر إلى ما كان بينهما من ود مفقود ، ونقد جارح وأليم من قبل الشاعر فيقول :

سعد يا سعد إنه لنداء = من حنين ، فهل عرفت المنادي ؟

ربما غاب عن خيالك طيفي = بعد طول الجفا وطول البعاد

أذهلتني عنك انتفاضة روحي = في سماء علوية الإمداد

فترنحت أحسب السحب تهوي = تحت مهدي والنجم فوق وسادي

أنا يا سعد ما طويت على اللؤ = م جناحي ولا جرحت اعتقادي

شهد الله ما انتقدتك إلا = طمعا أن أراك فوق انتقادي

وكفى المرء رفعة أن يعادى = في ميادين مجده ويعادي

وتجاوزت أبيات القصيدة السبعين بيتاً .
وألقى شاعر العاصي بدر الدين الحامد قصيدة رائعة أخرى ، استهلها بهذه الأبيات :

أأنت في القبر لا تلوي على أحد = أم تلك دنيا طواها الموت في جسد

وقفت أبكيك والذكرى تخامرني = حتى كأنك في عيني وفي خلدي

هذا مصابك سعد الله ليس له = روح من الصبر أو ثوب من الجلد

مصارع الخلق في شتى مظاهرها = يروّع الأرض منها مصرع الأسد

يا راحلا لم يخلّف بعده ولداً = ذكراك بالحمد فوق الأهل والولد

يفنى الزمان وما أبقيت من أثر = مخلّد الصنع مرفوع على عَمَد

لم تلق بالاّ إلى الدنيا وزخرفها = ولم ترد متعاَ من لذة ودَدِ

إن تمس في الترب مدفوناً فقد دفنت = يداك ما استعمر الطاغي إلى الأبد

ووقف شاعر العرب الكبير بدوي الجبل ( محمد سليمان الأحمد ) فرثاه بإحدى روائعه الخالدات ، واستهل قصيدته بقوله :

سأل الصبح عن أخيه المفدى = أيها الصبح لن تشاهد سعدا

غيّب الدهر من سيوف معدٍّ = مشرفياً حمى وزان معدّا

كلما عارضوا الصوارم فيه = كان أمضى شبا وأصفى فرندا

ويقول فيها :
من كسعد وللشباب هواه = قدرة تتعب الخيال وزهدا

يا صفي الأحزان تسقي البرايا = كأسها مُرة وتسقيك شهدا

رضيت نفسك الهموم رفيقاً = أريحّياً على الشدائد جلدا

بورك الهم عبقرياً جواداً = لاكهمّ أعطى قليلا وأكدى

قل لمن يحسد العظيم ترفق = إن خلف الأمجاد هما وشهدا

من كسعد إذا الملاحم جُنّت = وتلقى حد من الهول حدا

وعلى راية الشآم كميٌ = يقحم الدارعين أشقر نهدا

وختم البدوي رائعته بهذه الأبيات :

أين سعد ولن ألوم الليالي = وهب الدهر غالياً واستردا

أي باك إذا بكيت لسعد = إن بكى السيف حده ما تعدى

لو رأى هذه الدموع الغوالي = لبكى رحمة وحيا وفدى

غاب سعد عن العيون وما غــا = ب ضياء يهدي القلوب فتهدى

ثورة في الحياة والموت جلّت = ثورة الحق أن تقرّ وتهدا

بلغت أبيات هذه الرائعة خمسة وتسعين بيتاً . كنا نتمنى لو اتسع المجال لإثباتها كلها ، مع ساثر ما قيل في رثاء سعد الله من شعر ، وهو قليل تجاه ما حفلت به حياة الزعيم الكبير من جلائل الأعمال .
وبعد . . . فالحديث عن الزعيم العربي سعد الله الجابري ، واسع ومتشعب . وحياته وجهاده ، ومواقفه تحتاج إلى كتاب كبير أو أكثر . وهي عبرة للجيل الطامح إلى الحكم ، وكل جيل في الوطن العربي .
إذا ذكرت الوطنية والجهاد ، والشجاعة والتضحية ، فلا بد أن يذكر معها سعد الله الجابري .
وإذا ذكر الإخلاص للمبادئ ، والإيمان بالفكرة ، والعمل القومي ، والنزاهة التي لا تدانيها نزاهة ، فإنما يذكر إلى جانبها سعد الله الجابري .
عاش وطنياً ، ومجاهداً ، وشريفاً ، ورحل مناضلاً في ساحة العمل الوطني .
أنفق ماله على القضية الوطنية ومات فقيراً ، مديناً .
إنه خالد في القلوب ، ذكراه لا تمحى ولا تزول .
وهو دون ريب إحدى العبقريات ، التي أنجبتها ديار الشام . . . وما أكثر ما أنجبت من عبقريات .