كان أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي -رضي الله عنه!- كلما وقف على قصيدةٍ من الشعر العربي انضبطتْ له لغتُها، لحَّنها بما يعرض وزنها الذي تخرَّجت به، وهو القائل: "الْعَرُوضُ عَرُوضُ الشِّعْرِ لِأَنَّ الشِّعْرَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ"؛ فهو مِعْرَاضٌ يُعْرَضُ عليه الشعرُ، وكأنه جهاز عرض الأشعة الطبية الذي تتجلى فيه مواضع الصحة ومواضع السقم جميعا معا. وما عُرِضَ على المِعْراضِ فقد عُرِضَ عليه المِعْرَاضُ –هذا قانون اللغة العربية- وكأنه مصفاة تمييز الأخلاط التي لا ينفذ منها إلا الخِلْط الصافي؛ فالعروض مِعراض جَلْوة إذن ومِعراض صَفْوة.
ولم يلبث الخليل بعدئذ أن وقف بمنهجه العام في التقليب، على علاقات ما بين أنماط وزن الشعر (البحور)، متقاربةً ومتباعدةً؛ ففرق بين المتباعدة، وجمع بين المتقاربة، في خمسة أقسام منسقة تنسيقا دائريا -وقد دَلَّ بذلك على فهمه طبيعة الشعر المستديرة المتميزة من طبيعة النثر المستقيمة، وهي الفكرة العبقرية التي لم ينتبه لها علماء الشعر إلا في القرن الميلادي العشرين!- انتبه به مع الأبحر المُعملة في الشعر العربي، إلى الأبحر المهملة منه، على النحو الآتي:
1 دائرة المختلف، وفيها تتتابع خمسة الأبحر الآتية:
- الطويل، فالمديد، فالمهمل الأول، فالبسيط، فالمهمل الثاني.
2 دائرة المؤتلف، وفيها تتتابع ثلاثة الأبحر الآتية:
- الوافر، فالكامل، فالمهمل الوحيد.
3 دائرة المجتلب، وفيها تتتابع ثلاثة الأبحر الآتية:
- الهزج، فالرجز، فالرمل.
4 دائرة المشتبه، وفيها تتتابع تسعة الأبحر الآتية:
- السريع، فالمهمل الأول، فالمهمل الثاني، فالمنسرح، فالخفيف، فالمضارع، فالمقتضب، فالمجتث، فالمهمل الثالث.
5 دائرة المتفق، وفيها يتتابع البحران الآتيان:
- المتقارب، فالمهمل الوحيد.
ولقد كان من منهج الخليل ألا يُسَمِّيَ من بحور الشعر –والاسم مُصطلَح على المُسمَّى- إلا المُعْمَل الذي يحتاج في معالجته إلى تسميته، فأما المُهْمَل الذي لم يُسَمِّه فلم يُعمله أحد حتى يعالجه. وقد بلغ من شدة تحرّيه وتحقيقه ونزاهته، أنْ لم يعُدَّ من الإعمال إعمالَه هو نفسه، فخلا من "أثر ميل الباحث"، الذي يعيب البحث العلمي الإنساني!
لقد قال الخليل -وكان شاعرا وَسَطًا- من مهمل دائرة المتفق (لُنْ فَعُو [فَاعِلُنْ] لُنْ فَعُو [فَاعِلُنْ] لُنْ فَعُو [فَاعِلُنْ] لُنْ فَعُو [فَاعِلُنْ]×2)، وكأنما يُمثَل البيت منه وقد خُبنت تفعيلاته كلها (حُذِف من كل منها حرفها الثاني الساكن):
- [فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ]
"سُئِلُوا فَأَبَوْا فَلَقَدْ بَخِلُوا فَلَبِئْسَ لَعَمْرُكَ مَا فَعَلُوا
أَبَكَيْتَ عَلَى طَلَلٍ طَرَبًا فَشَجَاكَ وَأَحْزَنَكَ الطَّلَلُ".
وقال وكأنما يُمثّل البيت منه وقد قُطعت تفعيلاته كلها (حُذِف من كل منها حرفها الأخير الساكن، وسُكِّن ما قبله):
- [فَاعِلْ فَاعِلْ فَاعِلْ فَاعِلْ فَاعِلْ فَاعِلْ فَاعِلْ فَاعِلْ]
"هَذَا عَمْرٌو يَسْتَعْفِي مِنْ زَيْدٍ عِنْدَ الْفَضْل الْقَاضِي
فَانْهَوْا عَمْرًا إِنِّي أَخْشَى صَوْلَ اللَّيْثِ الْعَادِي الْمَاضِي
لَيْسَ الْمَرْءُ الْحَامِي أَنْفًا مِثْلَ الْمَرْءِ الضَّيْمَ الرَّاضِي".
ولكنه جعله في دائرته مُهْمَلا؛ فَسَنَّ للفنانين (الشعراء)، سُنَّةَ إعمال ما لم يُعمَل -إذ لو لم يفعلوا لضاق عليهم رحب فنهم- وَسَنَّ للعلماء (العَروضيّين)، سُنَّةَ إهمال ما لم يتواتر على النظم منه الشعراء وعلى قبول نظمهم مُتلقُّوه؛ إذ لو لم يفعلوا لاتَّسَعَ عليهم ضبطُ علمهم! ثم بعد زمان طويل أُعْمِلَ؛ فاحتيج إلى تسميته -وَلَا خَلِيلَ لَهُ- فسُمي أسماء متعددة مختلفة، لَصِقَ به منها اسمُ المُتَدَارَك أي المُسْتَدْرَك، الذي لم يجر مجرى أسماء البحور الخليلية، وكأنما أبى العَروضيّون بعد الخليل أن يُسلِّموا لأحدهم بمشابهته! وجُعل شعارَه هذا البيتُ اليتيم الذي سلمت تفعيلاته كلها -وما أشبهه بما روي آنفا للخليل!-:
جَاءَنَا عَامِرٌ سَالِمًا صَالِحًا بَعْدَ مَا كَانَ مَا كَانَ مِنْ عَامِرِ
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ]
ولم ينتشر للمتدارك في الشعر العَمُودِيّ ذِكْرٌ إلا بمثل قول الحصري القيرواني:
"يَا لَيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ".
[فَاعِلْ فَاعِلْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ]
الذي لم يشتمل على تفعيلة سالمة واحدة، فأما تفعيلة "فَعِلُنْ" فقد تيسَّر للعروضيين القول بخبنها (حذف حرفها الثاني الساكن). وأما تفعيلة "فَاعِلْ" فقد تعسَّر عليهم توجيه ما أصابها:
1 فقال بعضهم بقطعها (حذف حرفها الأخير وتسكين ما قبله) –وهو ما أستخفه-وفيه أن القطع علة، والعلة -وإن لم تلزم- منحصرة في الأطراف دون الأحشاء!
2 وقال بعضهم بخبنها كالتي سبقت "فَعِلُنْ"، ثم إضمارها "فَعْلُنْ" (تسكين حرفها الثاني المتحرك)، وفيه أن زحاف الزحاف –وإن لم يمتنع- تكلف وإجحاف!
3 وقال بعضهم بتشعيثها ["فَالُنْ"، "فَاعُنْ"]، (حذف أحد حرفيها الثالث والرابع المتحركين)، وفيه أن التشعيث علة، والعلة -وإن لم تلزم- منحصرة في الأطراف دون الأحشاء!
والذي يبدو لي أن النظم العَمُودِيّ من هذا البحر، مر بمراحل ثلاث:
1 مرحلة التَّجْرِيب، وفيها كان البيت منه سالم التفعيلات.
2 مرحلة التَّلْطِيف، وفيها كان البيت منه سالم التفعيلات ومخبونها ومقطوعها، أو مخبونها، أو مقطوعها.
3 مرحلة اللَّطَافَة، وفيها كان البيت منه مخبون التفعيلات ومقطوعها.
مثال مرحلة اللطافة: "يَا لَيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ..."، السابق الذي ملأت قصيدته الدنيا وشغلت الناس -وما زالت- حتى أُلِّفَتْ في معارضاتها الكتب. ومثال مرحلة التجريب: "جَاءَنَا عَامِرٌ سَالِمًا صَالِحًا..."، السابق. وأمثلة مرحلة التلطيف "سُئِلُوا فَأَبَوْا فَلَقَدْ بَخِلُوا..."، و"هَذَا عَمْرٌو يَسْتَعْفِي مِنْ..."، مثالا الخبن فالقطع السابقان، وهذا الثالث الذي لم أكن أظن أنه يكون، حتى عثرت للكيذاوي العماني (983=1575)، على هاتين القصيدتين:
1 "خَلِّنِي أَنْدُبُ الرَّسْمَ وَالطَّلَلَا وَدَعِ اللَّوْمَ مِنِّيَ وَالْعَذَلَا
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ]
وَانْظُرَانِي بِرَبْعِ الْحَبِيبِ لِكَيْ أَقْتَضِي الْفَرْضَ مِنْهُ وَأَنْتَفِلَا
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
مَرْبَعٌ طَالَ مَا قَدْ صَحِبْتُ بِهِ الْعَيْشَ فِي غَفَلَاتِ الصِّبَا خَضِلَا (...)".
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
وهي ثلاثة وثلاثون بيتا، قد سَلِم فيها بعضُ التفعيلات وخُبن بعضٌ.
2 "أَشَجَاكَ لِعَاتِكَةٍ طَلَلُ مِثْلُ مَا لَاحَ لِلنَّاظِرِ الْخِلَلُ (...)
[فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
لَائِمِي لَائِمِي غَيْرَ مَا عَالِمِ(ي) صَهْ عَنِ الْهَائِمِ(ي) حِينَ يَبْتَهِلُ
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
لَا تَلُمْ فِي الْهَوَى مُدْنَفًا قَدْ ثَوَى وَسَعِيرُ الْجَوَى فِيهِ يَشْتَعِلُ (...)".
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
وهي ثمانية وعشرون بيتا، قد سَلِم فيها كذلك بعضُ التفعيلات وخُبن بعضٌ.
وللحبسي العماني (1150=1737)، على هاتين القصيدتين:
1 "كُنْ مُجْيدًا لِمَدْحِ النَّبِيِّ تَنَلْ مَا تُحِبُّ وَتَبْلُغْ بِذَاكَ الْأَمَلْ (...)
[فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ]
طُوبَى لَهُمُ طُوبَى لَهُمُ يَا حَلِيفَ النُّهَى إِنْ شَكَكْتَ فَسَلْ
[فَاعِلْ فَعِلُنْ فَاعِلْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
بُشْرَى لَهُمُ بُشْرَى لَهُمُ وَالْخَيْرُ لَهُمْ وَالسُّؤْلُ حَصَلْ".
[فَاعِلْ فَعِلُنْ فَاعِلْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ]
وهي سبعة عشر بيتا، قد سَلِم فيها بعضُ التفعيلات وخُبن بعض وقُطع بعضٌ.
2 "سُكَّانُ عُمَانَ لِسَيِّدِهِمْ كُلُّهُمْ فِي الْمِلْكِ بِلَا ثَمَنِ
[فَاعِلْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ]
لِفَتَى سُلْطَانَ الَّذِي خَضَعَتْ لِسَطَاهُ مُلُوكُ بَنِي الزَّمَنِ
[فَعِلُنْ فَاعِلْ فَاعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ]
ذَمِرٌ فَطِنٌ مَلِكٌ يَقِظٌ عَارِفٌ بِالْفَرْضِ وَبِالسُّنَنِ (...)".
[فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ]
وهي خمسة أبيات، قد سَلِم فيها كذلك بعضُ التفعيلات وخُبن بعض وقُطع بعضٌ.