عبدالعزيز بن سلمة


يقول خبر نشر في اليوم الأول من العام الهجري الحالي: "قدمت شارلوت بيرز، المسؤولة الأميركية التي كلفتها إدارة الرئيس جورج بوش بمهمة تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، استقالتها من مهمتها. وقال مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية بأن هذه الاستقالة ستصبح سارية المفعول بعد أسبوعين من تقديمها".

ويضيف الخبر بأن السيدة بيرز التي كانت مسؤولة كبيرة في مؤسسة للدعاية أمضت سبعة عشر شهراً في منصبها مساعدة في وزارة الخارجية للشئون الدبلوماسية العامة، وأن إناطة هذه المسؤولية بها كانت لمحاولة وقف (المد المناهض) للأميركيين في الدول الإسلامية.
وقد اعترفت هذه السيدة في الأسبوع الذي سبق نشر الخبر بأن مهمتها مثبطة للهمم Frustrating، وأبلغت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بأن "الفجوة بين من نحن وما نود أن ينظر إلينا في الواقع واسعة بشكل مخيف"، وذكرت أن جهودها لتحسين صورة الولايات المتحدة شملت التبادل الثقافي وبث البرامج التلفزيونية؛ وكانت دائرتها قد روجت شريطا وثائقيا عن حياة المسلمين في الولايات المتحدة عرض في دول إسلامية. وارتكزت خطتها الإعلامية على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين العاديين خارج الولايات المتحدة، من دون التطرق للقضايا السياسية مثل النزاع العربي - الإسرائيلي.
ولكن تبين لهذه السيدة كما يقول الخبر أن "تبديل القلوب والآراء" في الدول الإسلامية هو تحد "للأمد البعيد"، أي أنه يستغرق سنوات وربما عقوداً من الزمن. هذا فيما يخص هذه السيدة التي لا أشك في أن وزارة الخارجية الأمريكية قد وضعت رهن تصرفها موارد مالية وطاقات بشرية كبيرة، وتسندها سفارات الولايات المتحدة وملحقياتها ومكاتب أجهزتها الأمنية والاستخباراتية في الدول المراد تحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية فيها.
في المقابل، يشتكي الجميع في الدول الإسلامية حكاماً ومحكومين، العامة والمثقفين وقادة الرأي من الصورة المشوهة للعرب وللإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول الغربية عموماً. ويبدي الجميع إحباطه من عدم تمكين وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية الغربية مواطني دولها من معرفة "الصورة الحقيقية" للعرب والمسلمين.
ولنزد على ذلك التشويه المتعمد والمتراكم لصورة العربي والمسلم في العقود الخمسة الأخيرة، منذ أن قام الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، بهدف توظيف هذا التشويه واستثماره في إحداث أكبر قدر من التنافر بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية. ولن أتطرق في هذا المقام إلى التشويه الذي سببته بعض الأقلام المنتمية إلى مؤسسة الاستشراق في القرون الماضية للصورة الذهنية عن العربي والمسلم.
والسؤال هو: من المسؤول عن عدم تمكن كلا الطرفين الأمريكي والعربي من تحسين صورته بصفته شخصية إنسانية وكياناً سياسياً لدى الطرف الآخر؟.
ولكي نكون منصفين، الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة الأمريكية مشوهة إلى أبعد حد، ولكن هل يطال هذا التشوه وهو تشوه وليس تشويهاً متعمداً، هل يطال هذا التشوه المواطن الأمريكي؟. الجواب هو لا بالطبع، وهذا على عكس التشويه الإجرامي المتعمد والدؤوب لشخصية العربي المسلم، بل والمسيحي العربي، كما رأيت ذلك بأم عيني.
إذاً فعملية الشيطنة التي تمارسها مؤسسة الإعلام والترفيه الأمريكية ضد العرب والمسلمين مسؤولة عن ردود الفعل الغاضبة التي تبدر من كل من لديه غيرة على دينه وهويته وكرامته كإنسان. وللأسف الشديد نرى أن ردود الأفعال هذه توظف بدورها في عملية التشوية التي تمارسها تلك المؤسسات الجبارة، بصحفها ومحطات تلفزتها وصالاتها للعروض السينمائية التي تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية لتغطي أجزاء كبيرة من العالم.
الفيلم الأمريكي الذي يُشوه عن عمد شخصية العربي، والذي يختزل أمة بأكملها في عصابة تخطف طائرة أو تدمر مبنى آهل بالأبرياء من البشر أو تقترف أي جريمة من الجرائم الكبيرة، هذا الفيلم لا يعرض في صالات العرض السينمائي في المدن والأرياف الأمريكية فقط، بل تجده يعرض في صالات طوكيو وسيئول ولاغوس وسانتياغو وهلسنكي وجزر الرأس الأخضر. أي أن هذا التشويه يعمم على بقية شعوب العالم. وهنا المصيبة، ثم بعد مدة من الزمن يشاهده الناس ونحن معهم على شاشات التلفزة في كل مكان يوجد فيه بث تلفزيوني.
لن أتحدث عن تقصير العرب والمسلمين الذين لا تنقصهم الأفكار والتصورات القابلة للتطبيق ولا الموارد المادية والبشرية لإزالة التشويه أو معظم التشويه عن صورتهم، ولكن سأحصر الحديث في الخبر الذي أشرت إليه آنفاً، وأقول: لم تبالغ هذه السيدة عندما قالت بأن المهمة التي كلفت بالقيام بها "مثبطة للهمم"، كيف لا تكون مثبطة لهمتها وهي ترى أن من يصفه رئيس بلادها برجل السلام الجنرال شارن يتمادى بعد منحه هذا الشرف الأمريكي العظيم، ويرفع معدل اغتيال الفلسطينيين اليومي إلى ثلاثة عشر أو أربعة عشر فلسطينياً بريئاً، بدلاً من قتيلين فلسطينيين أو ثلاثة في اليوم، قبل أن يطلق هذا اللقب عليه، وهو لقب لم ينله مجرم من قبله من رئيس أمريكي.
لا أدري كم رصد لمهمة تحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية؟، والتي لم ولن تمكن من تحسين هذه الصورة في الدول الإسلامية وغيرها؛ ولكن الاعتماد المالي الذي رصد لها على أية حال وكما أتصور ليس بأكثر مما رصده السيد كولن باول - وبكرم غير معهود، لتعزيز الديموقراطية في منطقتنا، (عشرون أو ثلاثون مليون دولار). ولكي أخفف عن هذه السيدة التي كلفت بتلك المهمة المستحيلة، أقول لها: لسنا نحن العرب بأفضل حال منها، فما يرصد لإزالة التشويه الذي يلحقه أنصار شارون في بلادها بصورتنا وسمعتنا وكرامتنا لا يتجاوز ربما ما وضع في متناولها.
ما من إنسان سوي إلا ويتوق إلى العيش بسلام وانسجام مع بقية خلق الله؛ وما من إنسان سوي إلا وينفر من العنف والإرهاب إرهاب الأفراد والجماعات وإرهاب الدول، الصغيرة منها والمتوسطة الحجم والعظمى، وما من قول يجسد هذه الحقيقة مثل قوله عز وجل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". نعم؛ ليتعارف الناس ويتقاربوا، لا ليتحاربوا ويتنافروا ويكره بعضهم بعضاً. أكرمهم عند الله أتقاهم، أي أكثرهم مخافة منه، ومن هذه المخافة مخافة المخلوق من ربه في خلقه، وليس أكرمهم ذلك الذي يفرض إرادته ويحقق مطامعه في العالم بأسره بإلحاق الأذى بالشعوب والتسبب في الدمار للبشر وللبيئة، ضارباً عرض الحائط بشرائع السماء وقوانين الأرض، بما فيها القانون الدولي، ويملأ الأرض بالظلم، ويعين الظالمين، ثم يصف نفسه بأنه خيّر والآخرين أشرار.
أعتقد بأن هذه السيدة بعد استقالتها من مهمتها المستحيلة ستتفرغ لمشاهدة شاشات التلفزة، وهي تنقل وقائع التدمير في الشرق الأوسط. ولكن للأسف الشديد لن يكون بوسعها مشاهدة التدمير والإبادة البطيئة التي ترتكب في مكان آخر غير بعيد عن العراق، في فلسطين، أي على بعد خمسمائة كيلومتر إلى الغرب من بغداد؛ لأن شاشات التلفزة في بلادها لن تعرض تلك المشاهد التي نراها كل يوم، والتي هي حتى الآن سبب التشويه الرئيس لصورة بلادها، في منطقتنا وفي العالم.
أصبح الإنسان خائفاً في هذا العالم. ليس هذا رأيي، ولكنه قول يستند إلى دليل يدعمه خبر نشر في اليوم نفسه الذي نشر فيه خبر استقالة هذه السيدة، ويقول وهو صادر من مركز الأمن الداخلي والعالمي التابع لمؤسسة Equity International إن حكومات العالم ستنفق في هذا العام نحو 550مليار خمسمائة وخمسين ألف مليون دولار، على الأمن الداخلي، وأن هذا المبلغ سيرتفع إلى 572مليار دولار بحلول عام 2005م، أي إلى مبلغ ألفين ومائة وأربعة وخمسين مليار ريال سعودي. ومن هذا الإجمالي الضخم ستنفق الولايات المتحدة الأمريكية ما لا يقل عن 56مليار دولار على أمنها الداخلي، أي ما يقرب من عشر إجمالي الإنفاق على الأمن الداخلي في العالم.
وهذا في وقت أعلنت فيه الأمم المتحدة قبل أسبوعين، وعلى رؤوس الأشهاد، وبلسان السيد جيمس موريس، مدير برنامج الغذاء العالمي التابع لها، أمام لجنة برلمانية أمريكية، هزيمتها في المعركة ضد الجوع في العالم.
لعل العالم في هذا العام يتخذ شعاراً له قول الشاعر العربي:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوّتَ إنسان فكدتُ أطيرُ
وهذا إن كان هذا البيت قابلاً للترجمة إلى لغات العالم.
يبقى السؤال الأهم: كيف تحولت صورة الولايات المتحدة الأمريكية لدى شعوب العالم بين عشية وضحاها أو لنقل في غضون أقل من عامين من تلك التي كانت تبعث على الإعجاب والمرتبطة بالحرية والانطلاق والعلم والتقدم إلى هذه الصورة السيئة المرتبطة بالقمع والاضطهاد ومصادرة حريات الأمم والشعوب؟، وكيف تحولت من بلد يعول عليه في كبح نوازع الشر التي تهدد البشرية إلى قوة همها الوحيد الاستيلاء على مقدرات الآخرين وثرواتهم وقمع أحلامهم في امتلاك قرارهم الحر في التصرف بما يملكون؟.
هذا ليس ما يراه العرب ولهم أو لغالبيتهم العظمى أكثر من مبرر لذلك بل ما تعتقده شعوب أوروبا وآسيا وغيرها، وما على من يشك في هذه الحقيقة إلا أن يتابع ما تكتبه الصحف الأوروبية والآسيوية. والأمريكان الذين أجروا مؤخرا دراسات بهذا الشأن في عدة مناطق من العالم يؤكدون صحة ما أقول.
كيف تخرج الولايات المتحدة من هذا المأزق، الذي يهددنا في هذه المنطقة ويهدد كيانها هي على المدى الطويل؟ وكيف تستعيد "صورتها" أو لنقل سمعتها الإيجابية في منطقتنا وفي العالم؟ أعتقد أن لدي حلاً سحرياً، وهذا الحل السحري يتمثل وباختصار شديد في أن تتصرف إدارة الرئيس جورج دبليو بوش مع الجنرال أرييل شارون وأعوانه كما تعاملت إدارة رئيس بلاده السابق بيل كلنتون مع رئيس يوغوسلافيا السابق سلوبودان ميلوسوفيتش وأعوانه.
لو فعلها الرئيس بوش لاستحق أن يوضع له تمثال يحل محل تمثال "الحرية"، ولاكتسبت الولايات المتحدة وهجاً أكبر بكثير من وهج ماضيها القريب، ولحق له ألا يشك العالم في نوايا إدارته عندما يتعلق الأمر بالعراق وغيره. وليته وهو منهمك في هذا العمل الجليل الذي سيخدم العدل والسلام في العالم يلقي القبض على من اندسوا في البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية في غفلة من الزمن أولئك الذي يسميهم باتريك سيل دجاج واشنطن، ريتشارد بيرل وأمثاله ويرسلهم إلى معتقل غوانتانامو.
حينها ستقول له شعوب منطقتنا في المستقبل: تفضل يا سيد بوش، أو نرجوك أنقذنا يا سيد بوش؛ هذا ديكتاتور يتسلط على عباد الله في منطقتنا، يصادر حريات مواطنيه ويدوس على كرامتهم؛ أدبه أو خلصنا منه، ولك ولبلادك منا جزيل الشكر والامتنان، وفوق الشكر امتيازات اقتصادية لن يحلم بها بلد آخر. سنأكل الهامبورجر ونشرب كل مشروباتكم الغازية المفعمة بالميلامين والملونات الضارة كل يوم.. وإلى أن يتحقق ذلك، سيظل منطق إدارتك ومعاونيك مرفوض، ومصداقية سياساتك المتعلقة بالعراق وبمنطقتنا معدومة، وسنظل ننظر إلى مغامرة إدارتك العسكرية في العراق على أنها: أكبر محاولة سطو مسلح على ممتلكات الآخرين (Hold-up)، ترتكب جهاراً نهاراً في التاريخ.