قرأت لكم
إضاءة
على رواية (كــان) للروائي والنّاقد (زياد صلاح)
بقلم \ محمد فتحي المقداد

يتوقّف القارئ مثلي مدهوشًا أثناء مطالعته لرواية (كــان). هذا النّوع من الكتابة المُتقنة، بتركيزها الفائق على أفكارها، وأجمل وصف وجدتُه لها: "إنّها كمحطّة القطار في عمّان، ما زالت تحتفظ بمقتنياتها". روايةٌ مؤثّثة بأدواتها الفكريّة، والسرديّة القائمة على حوار الشخصيّات، وعلى نمط من حوارات الأشياء والجمادات، في محاولة من الروائي (زياد صلاح) لإعطاء بُعدٍ رابع لها، لإضفاء سمة الأنسنة عليها بأسلوب بديع، يلفت الانتباه إليه.

عنوان الرواية هو عتبتها، وكونُه فعلًا ماضٍيًا، تأكّد أنه انصبّ على الماضي، وله علاقة وثيقة بالذكريات، اعتمادًا على تدفّقها بذاتها عبر الذّاكرة، وهي متماسكة بقوّة، كما الشّال الأسود الذي سمّاه الرّوائي (قيد الحريّة)، حينما كانت أمّه تربطه به موصولًا بمعصمها خوفًا على ابنها، ومن ثمّ أرسله أحدهم إلى الشّاطئ؛ ليكون حبل نجاة أخير.

ذاكرة أبطال الرواية استعادت وهج المكان في مدينة عمّان، فجاء الوصف شاملًا لأماكن عديد في وسط البلد، واستنهضت ذاكرة المكان، ومسحت غُبار الزمن عنها.

رواية (كــان) مُثقّفة لما قدّمته للقارئ وجبة دسمة، في مختلف شؤون الحياة، من خلال الاشتغال على المونولوج الداخلي لشخوص الرواية. وتفصيل الظروف المصاحبة لكل فعل، وردّة الفعل من الطرف الآخر، أو ردّة الفعل الداخليّة للشخص نفسه، بما يُشبه الانفجار الذاتي تجاه موقف مثير، (الإحساس بالزمن، ليس هو الزمن، فتلك خدعة ذاتية لا تنطلي إلّا على الذين يعبدون أنفسهم تحت الشمس). (لم أنسَ أن أُعرّف بنفسي.. ولكنني كنتُ أبحث عن باب كبير ومستدير مثلي، كي أدخل منه إلى هنا). (في حلق الباب تمامًا.. تواجهنا لأوّل مرّة، فاصطدمنا ببعضنا بقوّة، ولكن.. دون أن يمسّ أحدنا الآخر). (كان يظنّ بأنّه يُصافح شخصًا ثالثَا.. أمّا أنا، فلقد كنتُ أشعر أنني أصافح نفسي).

وكذلك أيضًا تعتبر في بعض جوانبها رواية مفاهيميّة، من خلال تركيزها الواضح على مفاهيم دقيقة في الفلسفة وعلم النّفس، والحياة وما وراءها، في تحريض مباشر ، وإثارة الأسئلة الكثيرة، على طريقة المُتوالية الهندسيّة، فكلّما ظننت الوصول لمحطة من الممكن التوقّف فيها لالتقاط الأنفاس؛ فإنك تفاجأ بانفتاح نافذة جديدة تؤدّي إلى أسئلة جديدة. وهكذا دواليْك.
(تنقص الأعمار - تمامًا - بقدر ما تزيد). (أحبّ النوافذ.. وأكره الأبواب، فالنوافذ لا يطرقها أحد).(كم كنتُ أمنّي نفسي بالقفز عن ذلك الحائط، فلقد كان، وفي الوقت الذي يُظهرني للآخرين.. يحجبني عنّي). (الشّرفة التي تصلني بالعالم، وتفصلني عنه في آن واحد). (ياللعجب..!!، كيف يمكن لأحدنا السفر من حجرته إلى الحجرة المجاورة بالطائرة؟). (من قال بأنّ اللحظة لاتفصل بين قرنيْن من الزّمن؟). (ما أصعب أن يكون وجه الشّبه بين شيئين بلا ملامح).

الرواية مليئة بومضات أدبيّة قصصيّة، فيها روح الـقصّة القصيرة جدًّا (ق.ق.ج)، بنصوص متكاملة، وفيها الحدث والخاتمة المدهشة بمفارقاتها اللّافتة لنظر القارئ، والأمثلة كثيرة، أنقل بعضًا منها على سبيل الاستشهاد فيما ذهبتُ إليه:
(عندما كنتُ طفلًا، كنتُ أحيانًا أغمضُ عينيّ؛ لكي لا يراني أحد). (أدركها النّدم الذي لم تكن يومًا تحبّ الالتفات إليه، فاستدارت إلى الخلف، وشعرت كأنّها استيقظت للتوّ من النوم، وهي واقفة على الرّصيف). (تصافحنا، وكأننا نعتذر سلفًا عن لقاء مُنتظر..، ثم افترقنا على أمل أن نلتقي مرّة أخرى..، ولو في حلق باب آخر). (رأس تلك الطفلة البريئة ثمنًا لصراع مرير بين باطل يرتدي ثوب الحق، وحقٌّ يرتدي ثوب الباطل). (اتّجه إلى باب المنزل.. أمسك بمقبضه الصدئ.. وشدّه إلى الأسفل بقوّة.. وعلى عجلٍ.. فانفتح الباب..وهمَّ بالخروج. لكنّه لم يجد الخارج).ٍ (سأوجّه ناظريّ إلى بنادق الصّيد، وأنتزعها بهما دون تردّد، وسوف أكونُ جريئًا، وأنا أصوّبها نحو البعيد، ثم أطلقُ الرّصاص على غيابك الذي طال..؛ لكي تعود).

تتميّز الرواية بموضوع هام، ألا وهو أنسنة الأشياء الجامدة والمعنوية، وبثّ روح الحياة فيها، من خلال حوارات صامته فيما بين شيئين متجاورين، (أتخيّل التاريخ شيخًا طاعنًا في السنّ، يقطن في أوّل الزّمان وحيدًا، بلا زوجة.. ولا أولاد.. ولا أحفاد، يغفو على شهيق الأرض، ويصحو على زفيرها). (كلّ مدينة أردنيّة، هي نقطة مضيئة في آخر السّطر). (كلّ عربة من عربات القطار.. تحمل تأويلًا ثقيلًا.. لحلم من أحلامنا المستحيلة). (إنّ الخيال.. غالبًا ما يحتاج إلى أن يستدرّ عطف الصّدفة، حتّى تتيح له بأن يتطابق مع الواقع). (تابع مسيرك نحو " سبيل حوريات" الذي يمسك بقبضته الحجريّة القويّة "سقف السّيل"، كي لا يسقط حاضرنا على ماضينا؛ فيتحطّم القادم، ويستحيل إلى ركام) سقف السّيْل وحوريات الماء، مكانان في مدينة عمّان. (أظلّ أنا مثل هوائيّ قديم، ليس له من شأن، سوى التقاط أخبار الآخرين، وإعادة بثّها إليهم من جديد، وفي كلّ اتّجاه). (لا يوجد من هو مخطئ على الدّوام، فحتّى السّاعة المتوقّفة تكون على حقّ مرّتيْن في اليوم). (ثمّ انصرفوا جميعًا.. فتبعته سحابة من الدخان إلى خارج المقهى، وبينما كانت هبّاتٌ من الهوى المنعش؛ تتظافر لتبدّد تلك السّحابة من فوق رؤوسهم..؛ أجمعوا هذه المرّة على ألّا يتحدّثوا عن نهاية المطاف..، بل معها).

هناك ظاهرة فريدة في الرواية، وهي تتضمّن الكثير من المصطلحات المستخدمة في الحياة، وإعادة تدويرها بطريقة مبتكرة، دالّة على عمق ثقافة الروائي زياد صلاح، فعلى سبيل المثال لا الحصر.
- ضرع الأرض الثالث (الحليب الأسود): أي النّفط.
- السّرنمة: السّير أثناء النوم.
- النّمرسة: النّوم أثناء السّير.
- قاع المدينة: للدلالة على وسط مدينة البلد.
- إنكار الذّات: من التفاني في خدمة الآخرين، وعدم حبّ الظهور للعلن للتباهي بجميل ما فعل.
- السياسة المثلثة الأضلاع: دلالة على سياسة "هنري كيسنجر" على احتواء الصّين مثلا.
- قيد الحرية: انظر حريّة مع قيد لها، كيف يتطابق ذلك.
- الأبابة: كلمة عربيّة أصيلة فصيحة، وهي دالّة على داء يصيب الغريب، وهو شدّة الحنين إلى وطنه، وهي المرادف بتطابق معناها للمصطلح المستخدم عالميّا (نوستالجيا) الذي يقصد به: ألم الحنين إلى الماضي والأهل والديار وفراقهم.

يُحسب للروائي (زياد صلاح) احترامه الشّديد للقيم الدينية، وفهمه الحقيقي البنّاء لما ذهب إليه في بعض القضايا التي ناقشتها روايتة (كــان)، مع تعدّد الأصوات داخلها، مما أثرى المشهد السردي المتوزع فيما بين المفهوم والمقالة والـ (ق.ق.ج) والمصطلح، لتقرأ خلطة عجيبة جاءت بالجديد في عالم الرواية المثقّفة، والتي أعتقد أنها أقرب إلى رواية النّخبة، بارتفاع مستواها الذي يحتاج إلى تمهّل وتأنٍّ أثناء قراءتها؛ لاستيعاب ما تذهب إليه في تجلية الأفكار.
وفي الحقيقة أنني تورّطتُ في متعة قراءتها، ودقيق تفاصيلها، وقد غُصتُ في الأعماق، حتّى كان من الصّعب عليّ الخروج من وهج دائرتها الزمكانيّة، التي اتّسعت أفقيًّا وعرضيّا، لتشمل العالم أجمع، لذلك دعوتُ نفسي للتصالح معها، وابتسمتُ للروائي زياد صلاح بهدوء، وأنا أغادر مكتبه في عمّان، بعد جولة نقاشيّة مُطوّلة، حول بعض مدارات أفكار الرواية.

عمّان – الأردن
13\ 8 \ 2018