محمد أمير ناشر النعم

مجتزأ من نص:

في ريعان شبابه ذرع نيكوس كزنتزاكس إيطاليا من طرفها إلى طرفها الآخر، في رحلة لن تتكرر غبطتها مرة أخرى في حياته بتاتاً! طوال تلك الرحلة كان نسيمٌ فاتن يهب على حوانيه، وهو يشاهد الرسوم والتماثيل والكنائس والقصور، إلى درجة أنه قال: "أية وقاحة يتمتع بها الإنسان ليطمع في سعادة أعظم"، ولكنه وهو في خضمِّ تلك السعادة الهائلة المركّزة المصفّاة تملّكه رعب، فراح يبحث عن خطط للتقليل من هذه السعادة، حتى اهتدى إلى حيلة شراء حذاء ضيّق، بل شديد الضيق، فانتعله، وصار يمشي متألماً أعرج كأنه غراب، وقال تلك الكلمة الرهيبة: (الآلهة مخلوقات حسودة)، ومن الخطر أن تكون سعيداً، وأن تعرف أنك سعيد. وبعد أن كدّر سعادته بيده، قبل أن تكدِّرها الآلهة صار بإمكانه أن يتابع رحلته وهو يعرج، ولكنه كان متطامناً رخيَّ الحال والبال.


وحقيقة فإنني ما رأيت كلمة تنطبق على حكامنا، وعلى أبنائهم، وعلى أشياعهم في الزمن الغابر، وفي زمننا الحاضر كهذه الكلمة!


(الآلهة مخلوقات حسودة) يروعها دائماً أن تزاحمها في تفرِّدها،


الآلهة، وأبناء الآلهة، وشيعة الآلهة كانت وما زالت أعينهم ضيقة، لا يسلم منهم أحد في محيَّاه لمحة أمل، أو في عيونه بارقة فطنة.


أو أن تدانيها في رفعتها، ويقلقها أن تراك شريكاً لها في الامتياز، أو مقارباً لها في الاعتبار، ويزعجها للغاية أن يُتمَّم الفضل عليك، وأن تحوزه بيدَيْك، لذا وجب أن تحجّم نفسك بنفسك، وأن تعيب وتفسد أشياءك بذاتك، {وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردتُ أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً}.


الآلهة، وأبناء الآلهة، وشيعة الآلهة كانت وما زالت أعينهم ضيقة، لا يسلم منهم أحد في محيَّاه لمحة أمل، أو في عيونه بارقة فطنة.


ولو عدنا إلى التاريخ فسنجد الأشياع أكثر حسداً ولؤماً، ليس أشياع السلطة فقط، ولكن أشياع الفكر أيضاً، ولكم عجبتُ من هذه الأحاديث المنسوبة للنبي الكريم، التي وضعها أهل السنة، أو الأحاديث المنسوبة لأبنائه الأئمة التي اختلقها الشيعة، والتي سخّفت وهدّمت كل شخصية على وجهها لحسة لبن، فأوسعوها سباً وشتماً، وتمزيقاً وهتكاً! نسبوا للنبي الكريم تنبّؤاً بظهور الإمام الشافعي يقول فيه: (يكون في أمتي رجلٌ يُقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس)! ويالفظاعة هذا الحسد ذي الطاقة التدميرية القتّالة الذي سعى لاستئصال شأفة الإمام الشافعي من جذوره! أما أشياع الأئمة فلم يرق لهم بتاتاً أن يكون خارج نور إمامهم أدنى بصيص ضوء، فراحوا كالثيران الهائجة ينطحون ويحطّمون، ولم يوفِّروا أيَّ شخصية معاصرة لهؤلاء الأئمة، عليهم السلام، سواء كانوا حكاماً، أو علماء، أو فقهاء، أو زهاداً ومتصوفين، وأكتفي بمثالٍ واحد نقلوه عن الإمام محمد الباقر، عليه السلام، أنه قال غداة موت عمر بن عبد العزيز: (اليوم تبكيه أهل الأرض، وتلعنه أهل السماء)!! ولو رحت أتتبع أمثال هذه الأحاديث لذُهل الناس من المبدأ الديكتاتوري الكامن فيها، والذي يرفض أشد الرفض أن يترك للآخر أدنى فسحة للاختلاف.


يحدثنا التاريخ أيضاً أن ابن حاكم مصر عمرو بن العاص ضرب قبطياً، لأنه سبقه في سباق، وقال له: "أتسبقني وأنا ابن الأكرمين"! ولا ندري من أين خُيّل لهؤلاء الأبناء أن لآبائهم كرامة فوق كرامة الناس، ورفعة تتجاوز حدود الناس، سوى رؤيتهم في آبائهم أنهم آلهة، وفي أنفسهم أنهم مرشحون ليكونوا آلهة قادمة! وقد يجادل بعضهم في صحة هذه الرواية، وفي مصداقيتها، ولكن من ذا الذي يجادل ويماري في صحة قصة باسل الأسد الذي سبقه الفارس عدنان القصَّار، فلم يكتف ابن الأسد بضربه، بل رمى به في قعر السجن، وظل الفارس العادي 21 عاماً يتنقل من سجن إلى سجن من دون محاكمة، لأنه، فقط، تجاسر وسبق الفارس الذهبي، وفي يوم وفاة باسل في 1994م أخرجه سجّانوه من زنزانته، واعتدوا عليه بالضرب المبرّح المؤذي، تشفياً وتنفيساً من دون أن يعرف هو سبب ذلك وباعثه.


ولا غرو فالولد سرُّ أبيه، وخلائقه من خلائقه، ولو كان .... في عهد النبوة لما قلت إلا أنَّ قوله تعالى: {من شرِّ حاسد إذا حسد} نزل فيه وحده، ولم ينزل في غيره. ومن أجل ذلك قتل من قتل، واعتقل حتى الموت من اعتقل، ودمّر ما دمّر، ولم يولِّ على رئاسة الوزراء إلا كل دميم تقتحمه العين، أو كل أخرق يقتحمه العقل، ومن لم يكن على خلاف هذه الصفات فإنما وُلّي في ساعة غفلة، وعمد في أثناء ذلك إلى العوائل الدمشقية العريقة فاختار منها أفراداً، دفع بهم إلى الواجهة، وجعلهم ممسحة ومبصقة ومحطة لكل أصناف الاستهزاء، وهو جالس في قصره يضحك، وعلى المنوال نفسه سار الابن الوريث! وريث الحسد.


ويالفظاعة أمثلة الحسد في وطننا العربي البائس التي تنط وتتقافز الآن ملء سمعي وبصري، كأنها حبات الذرة التي تتفجر وتغدو (فشاراً)، وحسبي هنا أن أخص بالذكر دهقان الآلهة، وكبير المتعاظمين في أنفسهم معمّر القذافي الذي غيّب الإمام موسى الصدر، ذلك الكاريزمي الهائل، الذي يراه المسلم فيظن أنه المهدي، ويراه المسيحي فيتساءل: هل رجع المسيح؟ وأكاد أجزم أن تغييب الإمام الصدر كان مطلباً عاماً لجميع الآلهة القميئة، من المحيط إلى الخليج، وأن جميع من ذُهل واستنكر إنما كان يضحك في سره ويتلمظ، وأولهم حافظ الأسد نفسه.



والبغضاء والشنآن هو العاطفة الوحيدة التي تضمرها، وهل عادى ..... الملك حسين إلا بدافع الحسد؟! من أين يأتي بنسبٍ كنسبه؟ وأسرة كأسرته؟ أوعز للباحثين، وأزّ الدارسين على أن يفتّشوا ويبحثوا ويمحّصوا! عسى أن يوجَد له نسبٌ في الماجدين عريق، وبعد الاختلاق والتزوير لم ينتسب إلا إلى قبيلة (كلب)، وشتان، في عرف العرب وفهمهم، ما بين بني (كلب) وبني (هاشم)! وسوف يقول الأسد ساعتئذٍ: إنها العداوة ما حييت.


(الآلهة مخلوقات حسودة)، وحسدها يدمر الأوطان، ويقتل الإنسان، ويقوّض التاريخ، ويفني الحاضر، ويسد أفق المستقبل.