رسائل الطاحونة

( الرسالة الخامسة )
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet







للكاتب: ألفونس دوديه

عربها: فيصل الملوحي



حكاية راعي النجوم

في سماء البروفانس


تصوّروا أنّي كنت أصحب البهائم في لوبرون أسابيع متتالية بلا انقطاع، لا أرى خلالها جنس آدميّ، معزولاً في المرعى مع كلبي و قطعان الماشية التي نرعاها معاً، اللهمّ إلا من ناسك مونتدولور إذا مرّ ليتفقّد المساكين، أو فحّامي بييمون حين ألمح وجوههم السوداء، و ما هم إلا قوم سذَّج، خاملون تقهرهم العزلة، لا يتوقون إلى حديث، يجهلون كلّ ما يجري في الأسفل من حياة مدنيّة. أضف إلى ما سبق أصواتاً تصدرها أجراس تعلّقت بغلَ حقلنا، وهو يحمل لي مؤونة أسبوعين تاليين، ورأس حارس الحقل اليقظ يظهر لي في طرف التلّ الأعلى، و كُمَّةُ العجوز نوراد (غطاء رأسها الأشقر ). فما كان أسعدني بمرآهما.
ما كان أروع أن تُروى لي حكايات القوم في الأسفل، كطقوس التعميد و حفلات الزواج، غير أنّ أشدّ ما كنت أتوق إليه أخبار جميلة الجميلات الآنسة ستيفانيت بنت معلميّ، التي كانت تمتلك أراضـيَ ممّا حولنا يقدّر قطر دائرتها بعشرة فراسخ (أربعين كيلو متراً). لقد كنت أستخبر – حريصاً ألا أبديَ أنّ الأمريعنيني- أ كانت تتردّد كثيراً إلى الحفلات والسهرات، أو تتقبّل تصرّفات المتحرّشين المستظرفين!! و لو سُئلتُ: إلام تطمع من تقصّي هذه المعلومـات؟ لأجبت: ألا تراني؟! أنا شابّ في العشرين من عمري، و طموحي كبير، و ستيفانيت أجمل من رأيت عيناي!!
ثمّ حدث ما لا يخطر على بال: كنت كعادتي كلّ يوم أحد أنتظر مؤونة الأسبوعين التاليين ، بيد أنّها تأخّرت كثيراً عن ميعادها، فقلت في نفسي: لعلّ القدّاس هو السبب، أو ربما أبطأت العاصفة التي هاجت في الظهيرة فعطّلت مسير البغلة على الطريق.
و ما هي إلا ثلاث ساعات حتى انقشعت الغيوم، و أشرقت الشمس على الجبل، وتدفّقت المياه فيه، وسمعت بين أوراق الشجر التي تجفّ، و الجداول الكثيرة الثرّارة، أصوات أجراسَ البغلة التي تمرّ، فغمرت نفسي بهجة، و بعثت في جسدي نشاطاً، لا أحسّ بهما حين أسمع دقّات الناقوس الكبير في عيد الفصح. هل تتصوّرون – يا أولادي؟! لم يكن حارس الحقل يسوق البغل، و لا العجوز نوراد، إنّما كانت تلك آنستنا بلحمها و شحمها، تجلس منتصبة القامة بين أكياس الصفصاف، و قد ألقى على وجنتيها هواء الجبل وردا، فأوحى وجهها بالانتعاش الذي أحدثته العاصفة.
كيف حدث كلّ هذا؟! لقد علمت بعبارات لاهثة من الحسناء ستيفانيت وهي تترجّل أنّ الصغير كان مريضا، و الخالة نوراد في زيارة لأولادها، و أنّها تأخّرت لأنّها تاهت في الطريق. لكنّي حين رأيتها في ثيابها الأنيقة، و إكليلها الورديّ، و نطاقها ( تنّورتها ) المزخرفة، و ما يزيّنه من مخرّمات(dentelles )، غلب على ظنّي أنّها تأخّرت عن حفلة راقصة، وأنّها مضطرّة أن تجد طريقها بين الأحراش.
ما أحلى ما خلق الله! إنّ عينيّ لا تكلان من النظر إليك. أقرّ لكم أنّي لم أر قبل الآن هذا الحسن من قرب. كنت في أيّام الشتاء أراها وأنا عائد مساء إلى المزرعة، و قطعان الماشية تنزل إلى السهل، تمرّ أنيقة تشمخ بأنفها قليلا، و تعبر القاعة بحيويّة ونشاط،وقلّما كانت تُكلّم خلالها الخدم.
و هاهي الآن أمامي، لي وحدي دون غيري، أفلا يفقد الإنسان عقله؟!
و حين بدأت تُخرج المؤونة من السلّة، شدّتها المناظـر من حولها، فأخذت تتأمّلها بشغف. و رفعت قليلاً ذيل نطاقها ( تنّورتها ) الجميل خوف أن يتلوّث، و دخلت الحديقة تريد أن ترى الزاوية التي أنام فيها، و مزود القشّ ( حيث يُخزّن ) وجلد الخروف، و معطفي المعلّق على الجدار وعصاي و مشحذ السكاكين الحجريّ. فسرّها ما رأت!

- يا مسكين، أها هنا تعيش؟ ألا تضجر من عزلتك الدائمة! ماذا تفعل، و إلام تطمح؟
- أردت أن أُقول: أنت مولاتي، ولا أستطيع أن أكتم عنك الحقيقة، ومشكلتي الكبرى أنّي لا أستطيع أن أجد كلمة أعبّر بها عمّا في نفسي، و أظنّ أنّها فهمت ما يدور في خلدي دون أن أنبس ببنت شفة، فأرادت ( الملعونة ) أن تزيد من اضطرابي بسخرياتها المثيرة، فقالت:
- ثمّ، ألا تأتيك- أيّها الراعي- بعض الأحيان صويحبتك المعطاء لتراك! لا شكّ في هذا ، لا شكّ أنّ عنزة من ذهب تحملها إليك، أوالحوريّة إيستيريل التي يستهويها أن تجريَ على أطراف الجبل!
بل كانت آنستنا هي الحوريّة إيستيريل نفسها تحدّثني، و تضحك ضحكتها الخلابة، و تدير ظهرها في عجلة تريد أن تنهيَ زيارتها:
- وداعاً، - أيّها الراعي- !
- سلاماً، يا مولاتي!
- و غادرتني تحمل سلالها الفارغة.
أحسست حين أخفاها المنعطف أنّ الحصى التي تتعثّر بها حوافرالبغلة، ترجم قلبي واحدة إثر واحدة! ولم يزُل هذا الإحساس منّي حتّى آخر النّهار، وبقيت بين نوم ويقظة، لا أجرؤ على التحرّك من مكاني خشيةَ أن يطيرَ منامي!
وعندما حلّ المساء، حين أخذت الزرقة تلوّن أعماق الوديان، و تروح البهائم متدافعة إلى زريبتها وهي تثغو، سمعت صوتاً يناديني من جانب الوادي، حدّقت، تصوّروا من رأيت! تلك كانت آنستنا، لكنّ ضحكتها المعهودة اختفت، و بدنها كان ينتفض برداً وخوفاً و بللا.
ثمّ تبيّن لي أنها أرادت عبورالطريق التي غمرتها مياه العاصفة، فاستعانت بكلّ قوتها، لكنّها تعرّضت للغرق. والخطر كلّ الخطر أن تعود إلى المزرعة في هذا الوقت من الليل، فالطريق القصيرة لا تستطيع آنستنا أن تتعرف عليها وحدها، وأنا لا يمكن لي أن أترك القطيع، فأرهبها المبيت على الجبل في الليل، و بخاصّة أنّ ذويها سوف يُقلقهم غيابها.
لقد حاولت جهدي أن أطمئنها، فقلت:
- لا تقلقي، يا معلّمتي، فليالي تمّوز (juillet.= July) قصيرة، و ما هي إلا لحظات سيّئة تمرّ كلمح في البصر!!
وبادرت سريعاً إلى إيقاد نار ذات لهب لتجفّف بها قدميها ورداءها الغارق بمياه ( سورج ). و قدّمت لها الحليب و الجبن الأبيض، لكنّ المسكينة ما كان الدفء يعنيها، و لا الطعام يثير جوعها، فعبراتها المدرار كانت تنسكب من عينيها، و كدت أبكي معها إشفاقاً عليها.
شحّت أشعّة الشمس، فلم يبق منها إلا بصيص يُرى على قمم الجبال، وسديم من نور في جانبها الغربي،ّ فخيّم الليل. كنت أرجو أن تدخل آنستنا لترتاح في الحديقة. لقد فرشت لها على قشّ طريّ جلداً جميل المنظر، جديداً كلّ الجدّة، وألقيت عليها تحيّة المساء، و تركتها إلى الباب، وجلست في الخارج.. ويشهد الله ( هذه ترجمة حرفيّة، لم يحرّفها المعرّب ) أنّي رغم لهيب العشق في قلبي، و دمي الذي به يحترق، ما راودتني وساوس السوء، إلا ما كان من شعور عارم بالاعتزاز بأنْ أقومَ برعاية ابنة معلميّ.
(هذه من القيم التي سادت المجتمع الغربيّ آنذاك، وهي قريبة ممّا يعتزّ بها فريق منّا، لكنّ الدراويش كهذا الراعي ( المعتّر) هم وحدهم غالباً الذين لا يكتفون بالاعتزاز بل يُضيفون إليه الالتزام - المعرّب)
دخلت ترتاح في ركن من حديقتي، بجانب القطيع الذي أدهشه منظرها وهي نائمة. كأنّها النعجة الأنصع الأعزّ بين أقرانها.
لم أر السماء من قبل بمثل هذا السموّ، و لا النجوم بمثل هذا البريق..
و فجأة أضاء طريق الحديقة، وبانت حسناؤنا ستيفانيت. لم تستطع النوم،فالبهائم أخذت تثغو، و تعبث بالقشّ، و النار جذبتها بدفئها، فبادرتُ من فوري إلى جلد ماعز ووضعته على كتفيها، و سعّرت النار، و ظللنا جالسَيْن جنباً إلى جنب صامتين لا ننبس ببنت شفة.
لو كُتب لك أنْ تُمضيَ ليلة تزيّنها النجوم، لعلمت أنّنا حين ننام تستيقظ دنيا من الأسرار في قلب العزلة والصمت، فتفصح الجداول في غنائها، و تبعث برك الماء بصيصاً من نور. و تتحرّك كلّ نسمة من روح الجبل حرّة لا يُعكّر مزاجها شيء، و تبعث دغدغات الهواء ضجّة غير مسموعة، لا تعجبنْ! فهل تُسمع أغصان الشجر حين تنمو،أويُلتفت إلى صوت العشب حين ينجم ( ينبت)؟!
النّهارمعاش الأحياء،أمّا الليل فمعاش الجمادات، لكنّ الخوف يسيطر على نفوسنا حين نواجه ما لم نألفه. هذا ما وقع لحسنائنا، فقد كان كلّ جسمها ينتفض، فتلتصق بي لأدنى ضجّة تُسمع. حين صعد إلينا صوت أنين مستطيل متماوج يوحي بالحزن من جانب بركة الماء التي انطفأ بصيصها،عبر فوق رأسَيْنا من حيث جاء الأنين شهاب سماويّ بهيّ، فخُيّل لنا أنّهما جاءا مترافقين.
- همست إليّ ستيفانيت: ما هذا؟
- قلت: هذه روح من الجنّة، معلّمتي. و صلّبتُ ( قمت بحركة إشارة الصليب ).
و صلّبَتْ معي ، و اضطربت هنيهة،ثمّ انكمشت على نفسها، و بادرتني بسؤال:
- هل أنتم الآخرون- أعني الرعاة- حقّاً سحرة ؟
- لا، أبداً، آنستنا، كلّ ما في الأمر أنّنا نعيش هنا أقرب من الآخرين إلى النجوم، فخبرناها أكثر من أهل السهل!!
فأسلمت وجهها لراحتيها، وأخذت تحدّق في السماء الفسيحة.
انظرإليها وقد لفّ كتفيها جلدُ الخروف، فبدت للناظرين كأنّها راعية النجوم.
ثمّ عادت تتساءل:
- ترى، ماذا هناك؟ ما أبدع هذا الجمال ! لم أر مثله من قبل. أيّها الراعي،أ تعلم أسماء مانراه؟
- لاشكّ في الأمر، معلّمتي، انظري فوقنا مباشرة! هذا(درب التبّانة) درب القديس يعقوب، يسير من فرنسة بلا انحراف إلى أسبانيّة. لقد خطّه القديس يعقوب في غاليس الأسبانيّة ليهتديّ به في الذهاب إلى شارلمان الهُمام غازي أهل البرانس.
ثمّ انظري بعده إلى (الدبّ الأكبر) العربة التي تنقل الأرواح، بعجلاتها الأربعة المتألّقة. أمّا النجوم الثلاثة فجياد العربة، و أمّا النجيمة التالية فهي الحوذيّ.
ألا ترَيْن هذا المطر من الشهب التي تتساقط؟ إنْ هي إلا أرواح طردها الله- سبحانه- من رحمته.
و إلى الأسفل قليلاً آكل العسل أو الملوك الثلاثة ( برج الجوزاء). يدلّنا - نحن الآخرين!- على الوقت، ما أنْ ننظر إليه حتى نعرف أْنّْ قد مضى من الليل نصفه.
اهبطي أكثر إلى الأسفل، لا تغيّري اتجاه الجنوب، فسترَيْن الحدأة البراقة - مشعل النجوم- ( كوكب الشعرى ). و يروي الرعاة أنها دُعيت بصحبة الملوك الثلاثة و الثريّا إلى عرس نجمة صديقة، أمّا الثريّا فقد كانت في عجلة من أمرها، فذهبت قبلهم، و سارت في الدرب العلويّ. انظري إليها في العلوّ حيث طرف السماء الأقصى. وأمّا الملوك الثلاثة فقد ساروا في الدرب الأدنى، وأدركوها، و أمّا الحدأة الكسلى التي تتأخّر في نومها فوصلت بعدهم، أخذت تصيح بهم أنْ توقّفوا، و رمت لهم بعصاها. لهذا يُسمّى الملوك الثلاثة أيضاً عصا الحدأة.. و لكنّ أجمل الجميلات بين النجوم- يا معلّمتي - هي نجمتنا، نجمة الراعي التي تسطع في الفجر فتُنير لنا الطريق و نحن نغدو بالقطيع، وفي المساء أيضاً حين نروح به. نحن نسميّها أيضاً الحسناء ماجيلون التي تسعى وراء بطرس البروفانس( زُحَل ).، فتدركه كلّ سبع سنوات، وتقترن به.
- هل هذا معقول، أيكون زواج بين النجوم؟
- طبعاً- يا معلّمتي –
عندما أخذت أفسّر لها معنى هذه الزواج، أحسست على كتفي بشيء غضّ ذي ثُقل ظريف خفيف. كان هذا رأسها الذي أرهقه النعاس، فاستند عليّ، في روعة ما يزيّنه من شرائط مجعّدة و مخرّمات(dentelles ) وشعر متمّوج. و بقيت على هذه الحالة دون حركة حتى بهتت النجوم في السماء، و محا أثرَها بزوغُ النهار. كنت أضطرب في أعماقي و أنا أنظر إليها في نومها، لكنّ رعاية الربّ المقدّسة في هذه الليلة المباركة لم تمنحني غير الأفكار الطيّبة. لم يتغيّر شيء فالنجوم تابعت مشوارها الهادئ الطيّع كأنّها قطيع كبير. خُيّل لي في لحظات أنّ نجمة متميّزة من هذه النجوم بلطفها و بريقها قد ضلّت طريقها، فحطّت عليّ، وخلدت إلى النوم!