نساء مؤثرات في التاريخ هيباتيا.
اعداد: جامعة سانتا كروز –كاليفورنيا- كلية العلوم/ قسم الفيزياء
ترجمة: ريم بدر الدين بزال.
هيباتيا الاسكندرية (1):
“قسمت هيباتيا المجتمع إلى فريقين، أحدهما اعتبرها مشعلاً من النور بينما اعتبرها الفريق الآخر رسولةً للظلام.” (2)
مضت حركة النهضة في القرن الرابع الميلادي بايقاعٍ بطيءٍ نسبياً مقارنةً بالقرون السابقة. ولكن هذا لا ينفي وجود من قاد الحركة النهضوية، وكانت امرأةٌ تعتبر الأشهر بين العلماء من النساء حتى عصر ماري كوري. وهكذا اعتبرت هيباتيا خلال أربعة عشر قرناً المرأة العالمة الوحيدة في التاريخ. وعلى الرغم من أن قصة حياتها وموتها المأساوي احتلتا حتى يومنا هذا حيزاً أكبر من الحديث عن إنجازاتها لكن هذا لا ينفي حقيقةً أنها المرأة الوحيدة المذكورة في التاريخ كعالمة فلكٍ ورياضيات (3).وقد تكون هيباتيا أقدم امرأةٍ عالمةٍ توفرت الوثائق حول حياتها بالرغم من أن أغلب كتاباتها قد أتلفت، لكن وجود العديد من المراجع التي أشارت إلى هيباتيا ساهمت في الحصول على التوثيق الكافي، بالإضافة إلى أنها توفيت في وقتٍ مناسبٍ بالنسبة للمؤرخين. كانت العالمة الوثنية الأخيرة في العالم الغربي وتزامن هذا مع بداية انهيار الإمبراطورية الرومانية. وبما أنه لم تكن هناك خطوات كبيرة في علم الفلك والفيزياء والرياضيات خلال ألف عامٍ، فإن هيباتيا اعتبرت نهاية الباحثين في هذا المجال من العلم. ومن المتفق عليه أنه بالرغم من أن الانحدار العلمي بدأ قبل موتها بعدة قرونٍ، ولكن بعد موت هيباتيا دخل العالم في فوضى وبربرية عصور الظلام.عندما ولدت هيباتيا في 370 م كانت الحياة العلمية في الإسكندرية تعاني من تناقضاتٍ خطيرةٍ. ففي ذلك الوقت كانت الإمبراطورية الرومانية تتحول إلى المسيحية. وكان معظم المتحمسين للمسيحية يرون أن الشر والهرطقة يكمنان في الرياضيات والعلوم: “يجب أن تمزق الوحوش أجساد العلماء أو أن يحرقوا أحياء.” ومن ناحية أخرى قام بعض الآباء المسيحيين بإحياء النظرية القائلة بأن الأرض مسطحة، وأن العالم مبني على هيئة الخيمة. وقد نشأ صراعٌ عنيفٌ بين الوثنيين واليهود والمسيحيين أثاره ثيوفليس بطريرك الإسكندرية. وهذا يؤشر إلى أن تلك الحقبة الزمنية لم تكن مبشرةً بالنسبة لشخصٍ يريد أن يكون عالماً أو فيلسوفاً.كان ثيون، والد هيباتيا، عالماً رياضياً وفلكياً في المتحف. وقد أولى تعليم ابنته هيباتيا عنايةً دقيقةً. وكما تقول الأسطورة فإنه قرر بكامل قواه العقلية أن يحول ابنته إلى إنسانٍ مكتملٍ -في ذلك الوقت اعتبرت المرأة أقل من درجة الإنسان-وكانت هيباتيا بالفعل امرأةً استثنائيةً. سافرت إلى أثينا وإيطاليا وسحرت الجميع بتعليمها وجمالها، وعند عودتها للاسكندرية أصبحت معلمةً للرياضيات والفلسفة في ذلك المتحف حيث كان له مكانةٌ مهمةٌ في الحركة العلمية.افتتحتْ في الاسكندرية مدارس للوثنيين وللمسيحيين ولليهود وعلمتْ الرياضيات والفلسفة لأتباع الأديان جميعها، وعقدت مناظراتٍ علنيةٍ في الفلسفة.يقول واضع الموسوعات البيزنطي سويداس: “عينت هيباتيا رسمياً لشرح تعاليم أفلاطون وأرسطو وغيرهم”. وكان الطلاب يشدون الرحال إلى الإسكندرية لحضور محاضراتها في الرياضيات والفلك والفلسفة والميكانيكا، وأصبح بيتها مركز إشعاعٍ فكريٍّ حيث استقطب الباحثين للاجتماع والنقاش في مسائل فلسفيةٍ ورياضيةٍ.تداول طلاب هيباتيا كتاباتها على شكل نصوصٍ، لكن هذه النصوص لم تسلم من التحريف غير أن ما حفظ نصوصها الأصلية هو أن الكثير منها دمجت بشكلٍ كاملٍ في بحوث ثيون. أما المعلومات المتوفرة لدينا حالياً عن إنجازاتها فهي من الرسائل التي احتفظ بها تلميذها وتابعها سنشيوس السيريني والذي أصبح فيما بعد أسقفاً ثرياً ومتنفذاً.كان أهم عملٍ لهيباتيا هو ما قدمته في علم الجبر، فقد ألفت ثلاثة عشر كتاباً في شرح حساب ديوفانتوس. وكان ديوفانتوس عالماً رياضياً عاش في القرن الثالث في الاسكندرية، وكان يسمى “أبو علم الجبر”. وقد طور معادلاتٍ عنقوديةً وهي معادلاتٌ تحتمل حلولاً عديدةً. (المثال الشائع عن هذه المعادلة هي الحلول العديدة لتغيير شكل بركةٍ بالاعتماد على نفس المقاييس)، كما أنه طور المعادلات التربيعية. وتضمنت شروحات هيباتيا على حلولٍ مقترحةٍ وطرحت الكثير من المسائل الجديدة التي دمجت مع مخطوطات ديوفانتوس.كما ألفت هيباتيا بحثاً عن تقويم أبولونيوس في ثمانية كتبٍ. وكان أبولونيوس البرقاوي عالماً رياضياً في الجبر عاش في الإسكندرية في القرن الثالث وقد وضع نظرية فلك التدوير والناقل لشرح المدارات غير النظامية للكواكب. وكان نص هيباتيا بمثابة نشرٍ علنيٍّ لبحثه.وكأسلافها الإغريق القدماء، فإن هيباتيا كانت مأخوذةً بالمقطع المخروطي (الأشكال الهندسية المتكونة عندما يدخل سطح مستوي ضمن مخروط). وبعد وفاتها أصبح المقطع المخروطي طيّ النسيان حتى بداية القرن السابع عشر، عندما أدرك العلماء أن الكثير من الظواهر الطبيعية كالانعطاف يمكن شرحها بطريقةٍ ممتازةٍ بالاعتماد على المنحنيات المتشكلة في المقطع المخروطي.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيهيباتيا
وقد عملت هيباتيا مع والدها ثيون على مراجعة وتطوير نظرية إقليدس في الجبر وحررت معه على الأقل مقالةً واحدةً عن إقليدس. الجدير بالذكر أن النسخة المتوفرة من النظرية في أيامنا الحالية هي تلك التي عدل عليها ثيون.بالإضافة إلى هذا ألفت هيباتيا كتاباً يتناول دراسة ثيون لأعمال بطليموس الذي وضع منهجيةً لدراسة الرياضيات والفلك المعاصر في كتابٍ من ثلاثة عشر جزءاً أطلق عليه عنوانٌ متواضعٌ هو”مقالاتٌ في الرياضيات”. ولكن العرب في العلوم الوسطى أعادوا عنونته فسموه “المجسطي” وهي كلمةٌ تعني الكتاب العظيم. وبقي كتاب بطليموس الرائد في علم الفلك حتى ظهور كوبرنيكوس في القرن السادس عشر.ومن هنا يغلب الظن أن الجداول التي وضعتها هيباتيا حول حركة الأجرام السماوية والقوانين الفلكية قد تكون جزءاً من مراجعة ثيون لأعمال إقليدس.
وكانت هيباتيا مهتمةً بالميكانيك والتكنولوجيا العملية جنباً إلى جنب مع اهتمامها بالرياضيات والفلسفة واحتوت رسائلها إلى سنشيوس التصاميم لعدة آلاتٍ ومنها الاسطرلاب المستوي والذي كان يستخدم لقياس مواقع النجوم والشمس والقمر ولحساب الوقت وعلامات الأبراج.
كما طورت هيباتيا أدواتٍ للحصول على الماء المقطر وآلاتٍ لقياس مستوى الماء ومقياس السوائل النحاسي المدرج لتحديد مستوى الجاذبية وكثافة السوائل.
كانت الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي مركزاً لطلاب مذهب الأفلاطونية الجديدة وربما تكون هيباتيا قد تلقت دراستها في مدارس الأفلاطونية الجديدة على يد بلوتارك الصغير وابنته اسكلبيجينا في أثينا والتي استقطبت الكثير من المتابعين الذين درسوا الرياضيات وفق منهج الأفلاطونية الجديدة (4). ومن الواضح أن تنافسيةً كبيرةً نشأت بين طلاب المدرسة في كل من أثينا والإسكندرية حيث ركزت المدرسة الأثينية على الغموض والسحر، ومن أجل هذا اعتبر المسيحيون أن الأفلاطونيين هراطقةً.
لكن هيباتيا تورطت في الحياة السياسية للإسكندرية بما لا يقبل الجدل. وقد كتب تلميذها اليهودي هيشينوس: كانت ترتدي عباءة الفلاسفة وتشق طريقها وسط شوارع المدينة، وتلقي محاضراتها وكتاباتها عن أفلاطون وسقراط وغيرهم من الفلاسفة علناً لمن يحب أن يستمع إليها. وكان القاضي يستشيرها في إدارة شؤون المدينة.غير أن هيباتيا استشعرت خطورة موقفها في مدينةٍ يزداد بها عدد المسيحيين كونها وثنيةً ومتحدثةً باسم المنطق اليوناني العلمي بالإضافة إلى كونها شخصيةً سياسيةً مؤثرةً. وتعززت مخاوفها عندما رُسَم سيريل بطريركاً للإسكندرية عام 412 ميلادية وكان متعصباً وعلى عداءٍ واضحٍ مع أوريستوس قاضي مصر وتلميذ هيباتيا وصديقها.قام سيريل بعد فترة من تسلمه السلطة بنفي اليهود وإبعاد الآلاف منهم خارج المدينة. وبالرغم من المعارضة العنيفة التي قوبل بها من أوريستوس إلا أنه حوَل كل اهتمامه للقضاء على الأفلاطونيين. وقد رفضت هيباتيا التنازل عن أفكارها والتحول إلى المسيحية متجاهلةً مناشدات أوريستوس.وقد سجل المؤرخ المسيحي سقراط سكولاستيكوس في القرن الخامس الميلادي جريمة قتل هيباتيا فقال:
أحاطها كل الرجال بآيات التبجيل والإعجاب لتفوقها العلمي ومواهبها العقلية المتفردة. ونتيجةً لذلك فقد كان لها الكثير من الحساد والأعداء. ولأنها حصلت على الكثير من المنح لقرابتها الكبيرة من أوريستوس، فقد حمّلها العامة جريرة الجفاء ما بين الأسقف وأوريستوس، باختصارٍ فإن بطرس رئيس الكنيسة في وقتها راقب خروج المرأة من بيتها وأوعز إلى الغوغاء فقاموا بجرها خارج عربتها وأدخلوها إلى الكنيسة القيصيرية ثم عرّوها من ملابسها وقشطوا جلدها ثم جرحوه بالأصداف الحادة إلى أن فارقت الحياة ثم قطعوا جسمها إلى أجزاءٍ وجروها إلى محرقة سينارون وأحرقوها حتى تحولت إلى رمادٍ.
وقع هذا في آذار من العام 415 ميلادية بعد قرنٍ كاملٍ من قتل الوثنيين للعالمة الإسكندرية المسيحية كاثرين. قتلة هيباتيا كانوا من رهبان كنيسة القديس سيريل في القدس المتعصبين مدعومين من قبل رهبان نتريان.وبقي السؤال معلقاً فيما إذا كانت الجريمة قد تمت فعلاً بتوجيهٍ من سيريل أم لا. لكن الحقيقة أنه ساهم بخلق مناخٍ سياسيٍّ وفّر الظروف لحدوث هذه المجزرة الفظيعة (5) وقد حوكم سيريل فيما بعد. غير أن أوريستوس وثّق أحداث المجزرة وطلب من روما البدء بتحقيقٍ حولها. ومن ثم فقد استقال من منصبه وهجر الإسكندرية. لكن التحقيقات أجّلت بشكلٍ متكررٍ بسبب نقص الشهود وادعى سيريل في نهاية الأمر أن هيباتيا حيةٌ وأنها تقيم في أثينا.إن مقتل هيباتيا الوحشي كان نقطة النهاية للتعاليم الأفلاطونية في الإسكندرية خلال حكم الإمبراطورية الرومانية. ولكن مع انتشار المسيحية وظهور تياراتٍ دينيةٍ متعددةٍ أشاعت جواً من الفوضى الدينية والاهتمام بعلم الفلك والتنجيم حيث حلت مكان البحث العلمي.احتل العرب الإسكندرية في العام 640 ميلادية ودمروا ما بقي من متاحفها. ورغم ذلك، فإن العرب استطاعوا إنقاذ العلوم الإغريقية من الاندثار في الوقت الذي كانت أوروبا فيه قد دخلت عصورها المظلمة.• المستند متوفر باللغة الانكليزية بصيغة PDF على الموقع التالي:
https://www.google.com/url…
الهوامش:
11 من كتاب “تراث هيباتيا، نساء عالمات من العصور القديمة وحتى القرن الثامن عشر” لمؤلفته مارجريت أليك (مطبعة بيكون 1986).
2 معلمون عظام ألبرت هبرد، المجلد 10 من كتاب (رحلات صغيرة إلى منازل العظماء) كيفلاند وورلد للنشر 1928. ص 2803 الصورة التي رسمها ألبرت هبرد لهيباتيا كانت غريبةً وتهكميةً وقد اتبع في هذا تاريخ جون الأسقف القبطي الذي أعاد كتابة التاريخ وفقاً لرأيه المتحيز وبالتالي أكد هبرد أن هيباتيا سحرت تلاميذها بالغواية الشيطانية. بينما عرّفها بعض الكتاب بالكيميائية. وقد تناول تشارلز كينزلي الكاتب البريطاني المعروف حياة هيباتيا روائياً وقال أنها قتلت في القرن الخامس والعشرين بدلاً من القرن الخامس والأربعين وصورها على أنها متعصبة للأفلاطونية الحديثة قبض عليها لتورطها في مؤامرات سياسية. وانشغل المؤرخين طويلاً بمسألة عفة هيباتيا رغم أنها لم تتزوج أبداً.
وقام رتشاردسون في كتابه “محبو النجوم” بالمطابقة بين كل المحاكمات التي طالت النساء العالمات في التاريخ. وقد ضمن كتابه فصلاً كاملًا عن النساء العالمات في الفلك لكنه تجاهل الكثير منهن وسخر من العالمات اللواتي ذكرهن في كتابه حيث كرس القسم الأكبر من هذا الفصل للنساء المتنبأت وسماهن ما بعد الفلكيات. وقد كتب تعريفاً لهيباتيا: امرأةٌ متعلمةٌ ماتت دفاعاً عن المسيحية. وتبعتها كاثرينا “وهي امرأةٌ متعلمةٌ بدرجةٍ رفيعةٍ من طبقة النبلاء، ماتت في 307 م دفاعاً عن المسيحيين”.
4 أديرت هذه المدرسة الأثينية بواسطة ابنة اسكلبيجينا. أما الفرع المشرقي من الأفلاطونية الجديدة فقد ضم العديد من النساء منهم سوسيبارتا زوجة حاكم كابادوكيا. وقد سرت شائعات أن هيباتيا كانت من هذه المدرسة وفق تقاليد بلوتينوس لكن “رست” قدم دليلاً ملموساً على أن فلسفة بلاتينوس لم تكن معروفةُ في الإسكندرية حتى ما بعد القرن الخامس عشر وأن هيباتيا وسينشيوس لم يكونا مهتمين بتعاليمه على الإطلاق.5 يرجح إدوارد غيبون أن سيريل كان يشعر بالغيرة من تأثير هيباتيا وشعبيتها لدرجة أنه عجل أو قبل بالتضحية بعذراء تعتنق ديانة الإغريق. ويتوقع ريست أن جنون الغوغاء أثاره الصوم الكبير.