"رحلة"قديمة .. أعيد إرسالها .. أو نشرها.
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. وبعد ..
قال ابن المختار – غفر الله له ولوالديه – فلما قارب شهر شوال،من السنة الثالثة والثلاثين بعد المائة الرابعة والألف من هجرة الحبيب صلّ الله عليه وسلم على الانتصاف .. ورأت العين بيت الله المعظم وقد خف زحام الطائفين به .. والساعين .. حنت النفس إلى العمرة .. فلما ساعد عجز الابن "أحمد" والبنت "آمنة" من الاستفادة من تسجيل موادهما في جامعة الملك عبد العزيز عبر موقع الجامعة .. وقررا الذهاب بنفسيهما لإتمام تسجيل المواد .. واتت الفرصة ... وابتسم الحظ .. فعقدنا العزم – أنا و زوجتي – أن نصحبهما .. ولكن إلى بيت الله الحرام .. لنظل بجواره أياما معدودة ..
فلما كانت ليلة الأحد .. ليلة انتصاف شهر شوال من السنة المذكورة .. أسرجنا (سيارتنا) ... وانطلقنا بعون الله متجهين إلى مسجد الميقات (ذو الحليفة) ... وعند دنو الساعة من النصف بعد الثالثة ليلا – وليس صباحا – غادرنا مسجد الميقات .. ثم صلينا الفجر في محطة يقال لها (ساسكو) .. وعند اقتراب الساعة من النصف بعد السابعة صباحا .. كنا إلى جوار بيت الله المعظم ... وقد زالت عن النفس دهشة (دفنه) تحت جبال من شاهق البنايات – وهذه هي النفس البشرية،يصدمها الأمر .. ثم تألفه – حتى تضاءل سامق المنارات .. فالله المستعان.
هذه هي رحلة السير كلها .. فلا رأينا أحداً ... اللهم إلا عاملين آسيويين .. أو ثلاثة .. ينضح النوم من عيونهم .. ولا رآنا أحدٌ .. ولا أخذ أحدٌ (علومنا) .. ولا أخذنا (علوم) أحدٍ.
الغرض من كتابة هذه الأسطر .. ليس أكثر من التذكير بهذه النعمة الكبيرة التي عشتها .. سويعات قليلة وكنا في مكة المكرمة .. وكانت هذه الرحلة تستغرق 10 – 12 يوما .. على الإبل بطبيعة الحال ..
فأصبح المسافر إذا أمضى ست ساعات أو أكثر .. يسأل بقلق حقيقي .. عن سبب التأخير.
مما يؤسف له أن مثل هذه النعم أصبحت من (البديهيات) .. وذلك ما يُذهل أحدنا عن شكر المنعم سبحانه وتعالى ,,, فللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الشكر ولك المنة ولك الجود ولك الثناء الحسن .. حمدا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك .. وجزيل عطائك .. وتتابع نعمائك ..
وإني لأسمع قهقهات (لسان الحال) .. والحروف لا تكاد تخرج من بين شفتيه – لشدة الضحك - .. كيف لو سافر هذا بالطائرة .. نصف ساعة توصله إلى جدة .. وأقل من ساعة تكفي للوصول إلى بيت الله الحرام؟!!
ولكنني أبشركم أنني ألقمته حجرا .. بل حجرين :
أولا : كل ما قَلّتْ مدة الرحلة .. زادت النعم .. وكانت أحقَ بالشكر ..
ثانيا : ماذا لو أن رحلة السعودية (ألغيت)؟!!!
إشارة (لسان الحال) إلى الوقت القصير الذي يُوصل من جدة إلى مكة المكرمة .. جعل (نَظْما) نائما في زاوية من زوايا الذاكرة يطل برأسه .. أو ببعض ملامحه .. فقد (محي) بعضه أو بعض عباراته .. والنظم لأحد الشناقطة .. يقول فيه :
قال محمد ابن أبتِ *** خرجنا مغربا من جدةِ
على جمال واهيت الأرجلِ *** يمشين مشي الجمل "المنسفلِ"
حتى إذا تمت "المنازل" *** ؟؟؟ مطاياهم ونزلوا
حتى إذا طلعت ذكاء *** ذهبوا يمشون ثم جاءوا
مكة بيت الله لصفرارا *** طوبى لمن طاف به وزارا
كادت محاولة تذكر النظم أن تنسيني بعض ملاحظاتي .. أو ما استنكرته النفس عند أداء العمرة .. مثل كثرة حديث المعتمرين في جوالاتهم،أثناء الطواف والسعي .. حتى إن الإنسان ليرى بعض الوجوه المتوضئة باللحى .. تتبادل الحديث الضاحك .. أثناء الطواف!!!
كما توجد ملاحظة أخرى ... وهي تحويل بعض المعتمرات من إحدى الجنسيات العربية محاولتهن استلام الحجر الأسود .. إلى صراخ وأصوات تتعالى ... وكأنهن في سوق شعبي .. لا إلى جوار بيت الله المعظم !!
بل أخبرتني زوجتي أنها سمعت (جنديا) يقول لامرأة بأن استلام الحجر من قبل النساء قد أوقف .. في تلك اللحظة لأن امرأة (صفعت) أخرى!!!!!!
بما أن هذه (الرحلة) لم تستطع – رغم الاستطرادات – أن تملأ صفحة واحدة .. فقد رأيت أن أختم حديثي بمقتطف قصير من رحلة أخينا محمد أسد – رحم الله والديّ ورحمه – ثم ألوح مودعا بلمحة من رحلة (زميل) آخر .. أما (أسد) فقد كتب يقول :
(تركنا المدينة في ساعة متأخرة من الليل سالكين الطريق "الشرقي"(..) وسرنا بقية الليل حتى مطلع الفجر. وبعد أن توقفنا قليلا لأداء صلاة الصبح عاودنا السير في النهار،وكان يوما أشهب غائما. وبدا المطر ينهمر عند الضحى،وسريعا ما ابتلت ثيابنا واخترقها الماء حتى جلودنا.وأخيرا رأينا،عن بعد،مضربا بدويا صغيرا إلى يسارنا،فقررنا أن نتقي المطر في احد بيوت الشعر السوداء. كان المضرب صغيرا لجماعة من بدو حرب استقبلونا صائحين : "حياكم الله يا أهل الطريق،وأهلا وسهلا بكم."وفرشت حرامي فوق الحصر المصنوعة من شعر الماعز في بيت الشيخ،وبينما كانت زوجته – سافرة شان معظم النساء البدويات في تلك المنطقة – تردد عبارات الترحيب التي استقبلنا بها زوجها. (..) ومن احد بيوت الشعر ظهرت امرأة تحمل على رأسها إناء نحاسيا كبيرا،وكان واضحا أنها كانت تنوي ملاه من إحدى البحيرات الكبيرة المنتشرة في الصخور.كانت تبقي ذراعيها مفتوحتين،وممدودتين إلى الجانبين،مرفوعتين إلى أعلى،وتمسك بيدها ذيل ثوبها كالأجنحة،وتتمايل برشاقة وهي تقترب. كانت تنساب كالماء إذ يسيل ببطء من بين الصخور .. وقلت في نفسي : إنها جميلة كالماء ... وعن بعيد سمعت هدير الجمال العائدة.){ص 373 – 374 ( الطريق إلى الإسلام) - نقله إلى العربية : عفيف البعلبكي / بيروت / دار العلم للملايين / الطبعة الخامسة 1977م، ( عنوان الكتاب – كما جاء في الغلاف الداخلي - بالإنجليزية The Road to Mecca )}.
غفر الله لنا ولأخينا (أسد).
أما (الزميل) الآخر .. فهو القاسم بن يوسف التجيبي السبتي – وعنوان رحلته "مستفاد الرحلة والاغتراب" - والكتاب ليس بين يديّ ولكن الذاكرة احتفظت بعبارة له .. لغرابتها .. فقد كانت المرة الأولى التي أقرأ لأحد (يدعو) على البحر!!
يقول (الزميل) والعهدة على الذاكرة .. فلما تركنا ميناء "عيذاب"الوحش وركبنا بحر الحجاز الشريف .. هاج علينا البحر وأرانا أهواله الفرعونية .. "سلط الله عليه اليَبَسَ"!!
وفي الختام .. كما في البدء .. الحمد لله رب العالين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ..

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 23/10/1433هـ