نقد نظرية أصل الأجناس في التوراة/مصطفى إنشاصي (الحلقة الأولى)
بناء على القصة المختلقة الكاذبة التي لا يوجد عليها أي دليل علمي على صحتها إلا ما جاء في كتاب اليهود التوراة، الذي لا يمكن بأي حال أن يُعتبر كتاب دين سماوي ولا كتاب تاريخي موثوق يمكن الاستدلال بما جاء فيه عن تاريخ أنساب الأجناس البشرية بعد الطوفان، رد علماء الأجناس والانثروبولوجيا والتاريخ والآثار وغيرهم الغربيين أصل جميع أجناس الأرض بعد الطوفان إلى أبناء سيدنا نوح عليه السلام! وصنفوهم كالآتي: (الساميون) وهم العرب واليهود وقد رفعوا نسبهم وأصلهم العرقي إلى مَنْ زعمت التوراة أنه (سام بن نوح). و(الحاميون) وهم الزنوج والأفارقة وقد رفعوا نسبهم وأصلهم العرقي إلى مَنْ زعمت التوراة أنه (حام بن نوح). والأوروبيين والأجناس الأخرى وقد رفعوا نسبهم وأصلهم العرقي إلى مَنْ زعمت التوراة أنه (يافث بن نوح)؟!. وذلك التقسيم الغربي التوراتي لأصل الأجناس البشرية تقسيم غير صحيح، يكذبه القرآن الكريم/ وتكذبه الحقائق العلنية الثابتة التي تُكذب خرافات التوراة العلمية وغيرها عن أصل الكون وبداية خلق الإنسان وغيرها. ولنبدأ بالقرآن الكريم:
(كـذب النسـابـون
بداية أود التذكير فقط بأنه قد ورد أن الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان كان يُمسك ويقول: "كذب النسابون، فلا يتجاوزه". رواه الطبراني. وذكر القرطبي: فقد روي عن النبي صلَ الله عليه وسلّم لما سمع النّسابين ينسبون إلى معدّ بن عدنان ثم زادوا فقال: "كذب النسابون إن الله يقول : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }. (إبراهيم: 9). وقد رُوي عن عُرْوة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسمعيل. وقال ابن عباس: بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أبا لا يُعرفون. وقال الطبري في تفسيره في قوله تعالى: (لا يَعْلَـمُهُمْ إلاَّ اللّهُ)، لا يحصي عددهم ولا يعلـم مبلغهم إلا الله. وروى أن ابن مسعود كان يقرؤها: (وعادا وثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدَهِمْ لا يَعْلَـمُهُم إلاَّ اللّهُ) ثم يقول: كذب النسابون. وذكر ابن كثير في قوله: {لا يَعْلَـمُهُمْ إلاَّ اللّهُ} كذب النسابون. وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان. وفي كتب الحديث جاء في "جامع المسانيد والمراسيل" في "الجزء الخامس" الحديث رقم (16225) "كَانَ إِذَا انْتَسَبَ لَمْ يُجَاوِزْ فِي نِسْبَتِهِ مَعَدَّ بْنِ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ، ثُمَّ يُمْسِكُ وَيَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: {وَقُرُونَاً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيراً}" ابن سعد عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُمَا.ووورد في "الجزء 20" الحديث رقم (16222)، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ النَّبيَّ كَانَ إِذَا انْتَهٰى إِلٰى مَعَد بْنِ عَدْنَانَ أَمْسَكَ وَقَالَ: كَذَبَ النَّسّابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالٰى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيراً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ شَاءَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَعْلَمَهُ لَعَلِمَهُ". وبزيادة رواه "فيض القدير": ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل وإنما الخلاف في عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء فمقل ومكثر وكذا من إبراهيم إلى آدم لا يعلمه على حقيقته إلا اللّه تعالى. والحديث ورد بنفس النصوص أو قريب منها في معظم كتب التفاسير والأحاديث.
أصل البشرية بين رؤية التوراةورؤية القرآن
فإن كان رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى لم يتجاوز عدنان عندما كان يرفع نسبه، ويقول: "كذب النسابون"، فما بال أولئك القوم الذين يؤصلون لأنساب القبائل والبشرية جميعاً إلى أبي البشر جميعاً آدم عليه السلام؟ مستندين إلى التوراة المحرفة التي أكد القرآن مراراً على أنها حُرفت وزورت! ويرجعون جميع أنساب أهل الأرض إلى مَنْ تزعم التوراة أنهم أبناء سيدنا نوح (سام وحام ويافث)! ونعجب للمؤرخين والكتاب المسلمين الذين يوثقون أنساب أسماء القبائل أو الأشخاص نقلاً عن التوراة معتبرين أنها أنساب صحيحة! وذلك لأننا نفهم من كتاب الله تعالى أن أصل الأجناس البشرية بعد الطوفان لا يعود إلى نوح وأبنائه فقط ولكن إلى الجماعة التي آمنت بدعوته من قومه ونجت معه في السفينة من الغرق. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ{26} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود:25 ـ27). نفهم من الآيات أنه اتبع سيدنا نوح نفر من قومه وليس أبنائه فقط كما ذكرت تلك القصة الخرافة في التوراة. قال ابن كثير: ما نراك اتبعك إلا أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا. وقد أكد الله تعالى تلك الحقيقة عند حديثه عن نجاة نوح وقومه في الفلك، في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} (هود: 40).قال ابن كثير: وقوله {وَمَنْ ءَامَنَ} أي من قومك {وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥ إِڑ قَلِيلٌ} أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل كانوا عشرة.وذلك يكذب ما جاء في التوراة: (وقال الرب لنوح: هيا أدخل أنت وأهل بيتك جميعاً إلى الفلك لأني وجدتك وحدك صالحاً أمامي في هذا الجبل) (التكوين: 7/1). كما أن القرآن الكريم لم يخبرنا عن أبناء لنوح نجوا معه في الفلك أو أحد من أهله بالاسم؛ ولكن الله تعالى أخبرنا أن أحد أبنائه وزوجه لم يكونوا مؤمنين ولم يركبوا معه في السفينة ولم يكونوا من الناجين من الغرق. قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } (هود42). أي أن سيدنا نوح نادى ابنه ـ وكان في مكانٍ عَزَل فيه نفسه عن المؤمنين ـ فقال له: يا بني اركب معنا في السفينة, ولا تكن مع الكافرين بالله فتغرق. وبعد أن رفض وأجابه بأنه سيأوي إلى جبل مرتفع يعصمه من الماء، توجه نوح على الله تعالى قائلاً: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }هود46 } (هود45 ـ 46). وعندما نادى نوح ربه: رب إنك وعَدْتني أن تنجيني وأهلي من الغرق والهلاك, وإن ابني هذا من أهلي, وإن وعدك الحق الذي لا خُلْف فيه, وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم.قال ابن كثير: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِى مِنْ أَهْلِى} أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين {قَالَ يَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: {وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ} فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحاً عليه السلام. وقال القرطبي وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: "وَأَهْلَكَ"لأنه كان عنده مؤمناً في ظنه، وكان ابنه يُسِرّ الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحاً بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقاً.وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه وإنما كان ابن زنية، وبعضهم يقول كان ابن امرأته. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط قال: وقوله: {إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي الذين وعدتك نجاتهم، وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة. أما عن زوجة نوح فقد أخبر المولى عز وجل بقوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم: 10). ضرب الله مثلا لحال الكفرة - في مخالطتهم المسلمين وقربهم منهم ومعاشرتهم لهم, وأن ذلك لا ينفعهم لكفرهم بالله- ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يُغْني أحدٌ في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما الدِّين، حال زوجة نبي الله نوح, وزوجة نبي الله لوط: حيث كانتا في عصمة عبدَين من عبادنا صالحين, فوقعت منهما الخيانة لهما في الدين. قال القرطبي: وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القُشَيريّ. إنما كانت خيانتهما في الدِّين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى (الله) إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين؛ وقيل للزوجتين: ادخلا النار مع الداخلين فيها. أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لمّا عَصتَا شيئاً من عذاب الله؛ تنبيهاً بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ذلك يعني أن زوجة نوح أيضاً لم تكن من الذين آمنوا معه، ولا من الذين ركبوا السفينة ونجوا من الغرق، ولكنها كانت من الهالكين، ما يُكذب الأسطورة التوراتية. ولكن الله تعالى أخبرنا بأن والدي نوح عليه السلام كانا مؤمنين. قال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح: 28). ذكر القرطبي: أي دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وقال سعيد بن جُبَيْر: أراد بوالديه أباه وجدّه. وقال ابن عباس: {رَّبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوَٰلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} أي مسجدي ومصلاّي مصلّياً مصدّقاً بالله. وعنه أيضاً: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدِّين. وعن ابن عباس أيضاً: يعني صديقي الداخل إلى منزلي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. مجمل القول: يقصد أتباعه الذين آمنوا معه من قومه. وحقيقة أنه آمن مع نوح ثلة من قومه، وركبوا معه السفينة ونجوا من الغرق، ومنهم ومن ذرية نوح تشكلت أجناس الأرض، أكدها الله تعالى وذكرها في مواضع عدو من القرآن الكريم، في قوله تعالى: {قِيلَ يَـٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مِّنَّا وَبَرَكَـٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰۤ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (هود: 48). قال ابن كثير: يخبر تعالى عما قيل لنوح عليه السلام حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة. كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. وفي قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (الإسراء: 3) أي يا سلالة الذين أنجيناهم وحَمَلْناهم مع نوح في السفينة لا تشركوا بالله في عبادته، وكونوا شاكرين لنعمه، مقتدين بنوح عليه السلام؛ إنه كان عبدًا شكورًا لله بقلبه ولسانه وجوارحه.وقال ابن كثير: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍۚ} تقديره ياذرية من حملنا مع نوح، فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي ياسلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم. وذكر الطبري،وعنى بـالذرية: جميع من احتـجّ علـيه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمـم، عربهم وعجمهم من بنـي إسرائيـل وغيرهم، وذلك أنّ كلّ من علـى الأرض من بنـي آدم، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح فـي السفـينة. كان يجب على المؤرخين والكتاب المسلمين أن يتوقفوا مع هذه الحقيقة القرآنية قطعية الدلالة، بأنه كان هناك آخرين آمنوا مع نوح ونجوا من الطوفان لم تذكرهم التوراة ولم تذكر أنساب ذريتهم، ومع توقف الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم عند رفع نسبه إلى عدنان وعدم تجاوزه، ليس ذلك فقط ولكنه أخبر بكذب النسابون، وذلك التكذيب لا يحتاج كبير جهد ليدرك المسلم أنه يقصد به ما ورد في التوراة عن أنساب أهل الأرض من آدم إلى تاريخ كتابة التوراة، ومَنْ نقل عنها، ومع إخبار القرآن أن اليهود حرفوا توراة موسى عليه السلام، ويدركوا أن تلك الأنساب غير صحيحة وأنه لا يمكن أن يعتمدوا التوراة كتاب موثوق في تاريخ الأنساب وأصول الأعراق البشرية!. أضف إلى ذلك أنه إذا لم يلتفت السلف إلى هذه الحقيقة؛ كان يجب أن يلتفت مؤرخي وكتاب عصرنا من المسلمين وغير المسلمين، وخاصة المؤمنين بالعلم وبسببه شككوا في كثير أو قليل مما جاء وصَدق فيه القرآن الكريم، ويسألوا أنفسهم: إن كان العلم يقول أن الكون مخلوق منذ عشرات بل مئات ملايين السنين، أو على الأقل عشرات الآلاف من السنين، وأن العلماء اكتشفوا هياكل أو بقايا هياكل عظمية أو جماجم بشرية يرجع عمرها إلى ملايين السنين، أو لنقل إلى عشرات الآلاف من السنين، والبعض منهم عندما يؤرخ لبدايات تأسيس المدن أو بدء حياة الاستقرار البشري ومعرفة الزراعة واستئناس الحيوان، أو لنشأة الحضارة في فلسطين نفسها …إلخ؛ لنقل في متوسطها الذي لديهم عليه أدلة مؤكدة بحسب علومهم ما بين عشرة ألاف إلى خمسة عشرة ألف سنة، وهناك من يذهب إلى عشرون ألف سنة!. وذلك ليس تاريخ خلق الكون ولا تاريخ الإنسان الذي مر بحسب النظرية العلمية الشهيرة التي اتخذها أنصار العلم والعقل أهم وسائلهم لمحاربة الدين والتشكيك فيه، نظرية "النشوء وارتقاء"، في مراحل تطور متعددة إلى أن حدثت الطفرة! تلك الطفرة التي لم يخبرنا عن كيفية حدوثها لا دارون ولا العلماء المؤمنين بتلك النظرية وأعطت الإنسان شكله الحالي (هيكله)؟! كان يجب أن يلفت انتباه أولئك حساب اليهود لتاريخ البشرية منذ خلق الله الكون الذي تزامن مع خلق آدم إلى اليوم.فقد أخبرت التوراة أن الله خلق الإنسان في اليوم السادس من خلق الكون: (ورأى الله ذلك فاستحسنه. ثم قال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا، فيتسلط على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى الأرض، وعلى كل زاحف عليها) (التكوين: 1/25 ـ 26). وبناء على ذلك وعلى أعمار آدم وذريته التي سجلها كتبة التوراة في (سفر التكوين) حسب اليهود عمر الكون وتاريخ الإنسان منذ خلقه، الذي على تلك الحسابات لا يتجاوز ستة ألاف سنة! واعتبروه التاريخ التقويم اليهودي التوراتي المعمول به لدى اليهود والمسمى (التقويم العبري)؟! كان عليهم أن يلفت انتباههم ذلك ليدركوا أن التوراة كتاب غير موثوق بل كاذب وأن ما جاء فيه ما هو إلا خرافات وأساطير! فكيف والعلم الحديث أثبت أن التوراة كتاب تاريخ خرافات وأساطير جميع الأمم السابقة والتي كانت معاصرة عندما كتب اليهود توراتهم؟!. وعلى الرغم من ذلك ما زال السواد الأعظم من المؤرخين والعلماء والكتاب يعتمد عليه في موضوع الأنساب وغيره من الحوادث التاريخية وتاريخ الأقوام والشعوب القديمة على أنه مصدر تاريخي موثوق؟!. ذلك ما يؤكد صواب رأي مَنْ ضعف أو نفى صحة الحديث المروي في مسند أحمد وسنن الترمذي عن رسول الله صلَ الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم". وكما بدأ التاريخ بـ (سام)واختيار اليهود شعب الله المختار متجاهلين تاريخ البشرية قبل وبعد الطوفان، حاصرين له في اليهود فقط، يبدأ تاريخ فلسطين أيضاً منذ دخول بني إسرائيل إليها في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، ويتم تجاهل آلاف السنين من تاريخ فلسطين قبل ذلك التاريخ وبعده، وينتهي تاريخ فلسطين اليوم بعودة اليهود الميمونة إلى وطن الآباء والأجداد، مهدهم ومهد الحضارة الأول ـ كما يدعون ـ بمعنى أنهم اختزلوا تاريخ البشرية وفلسطين والعالم أجمع في تاريخ اليهود فقط.