"خوارق اللاشعور" و علي الوردي"سلام مراد""إن الإنسان يستغرب ما لم يعهده، حتى لو حدثه أحد، أنه لو حك خشبة بخشبة، لخرج منها شيء أحمر، بمقدار عدسة، يأكل هذه البلدة وأهلها، ولم يكن رأى النار قط، لاستغرب ذلك وأنكره".
إنه قول للإمام الغزالي كان يردده بشكل مستمر؛ بعد هذا القول بين د. علي الوردي إن من البلاهة إذاً أن نحاول إقناع غيرنا على رأي من الآراء بنفس البراهين التي نقنع بها أنفسنا، يجدر بنا أن نغير وجهة إطاره الفكري أولاً وإذ ذاك تجده قد مال إلى الإصغاء إلى براهيننا بشكل يدعو إلى العجب الشديد.
والباحث وضح أنه لا يقصد إقناع جميع القرَّاء، من خلال بحثه، فالذي تعود أن ينظر إلى الحقيقة من ناحية مختلفة عن الناحية التي ينظر منها، فإنه من المستحيل إقناعه مهما كانت قوة البراهين التي يعرضها عليه.
ثم توصل إلى نتيجة مختصرة وجميلة وهي: "إني لا أريد بهذا البحث أن أقنع إلا من يريد أن يقتنع، أما الذي لا يريد أن يقنع فليس لدينا إزاءه أية حيلة".
إن التقصد والتعمل والتكلف والتعجل أمور مناقضة لحوافز اللاشعور ومفسدة لها؛ وبهذا فإن الحريص المتكالب على شيء يخطئ كثيراً ويصيب قليلاً، وقد يضيع عليه إذن قسط كبير من معالم النجاح.
ثم يستدرك الوردي بأنه لا يستصغر من أهمية الإرادة والجهد والسعي وأثرها في نجاح الفرد، هناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد، وهناك أوقات أخرى تقتضي من الفرد الانسياب والاسترسال واللامبالاة وقلة الحرص؛ والسعيد هو من استطاع أن يفرّق بين هذه الأوقات وتلك ثم يسلك في كل حين حسبما يقتضيه المقام.
ويوضح الباحث بأنه في بحثه هذا لا يحاول أن يغفل أمر العامل الاقتصادي أو الاستهانة بالنظام السياسي وأثره في حياة الفرد.
فلا نكران في أن النظام المتفسخ من الناحية السياسية والاقتصادية كثيراً ما يميت المواهب ويمنع الفرد من استثمار قواه النفسية استثماراً صحيحاً.
كما أن كل نظام من الأنظمة السياسية والاقتصادية يشمل مجموعة كبيرة من الأفراد حيث يوجد بينهم الناجح والمخفق، والمؤلف في بحثه يركز على العوامل النفسية التي جعلت هذا الفرد ناجحاً وذلك مخفقاً في داخل نظام معين.
وبرأيه إن النجاح أمر نادر، لا يستطيع أن يناله إلا القليل من الناس مهما كان نوع النظام الذي يعيشون فيه؛ فلو نجح جميع الناس وبرعوا كلهم على درجة واحدة لوقف التطور الاجتماعي ولأصبح البشر مثل أسراب النحل التي تصنع الخلية وتجمع العسل، كل نحلة بارعة في وظيفتها منهمكة فيها بحيث لا يتطرق الخلل أو النقص إلى شيء مما تعمل.
"إن تطور المجتمع البشري ناشئ من هذه المنافسة الحادة التي تدفع كل فرد على أن يبرع وأن يتفوق على غيره. فالتطور قائم إذن على أكوام من أبدان الضحايا، أبدان أولئك الذين فشلوا في الحياة" فصعد على أكتافهم الناجحون.
وبين الكاتب أنه لن يتطرق إلى أسباب النجاح الزائف الذي يأتي من الوساطة أو القربى أو الاستطراء أو التملق والسمسرة، تلك الطرق التي يلجأ إليها بعض ضعاف النفوس في سبيل الوصول إلى النجاح، فهذا النجاح غير حقيقي، والحقيقي هو الذي يستفيد منه الفرد والمجتمع معاً. وهذا هو النجاح الذي يبقى أثره على مرور الأجيال. إنه نجاح المخترع والمكتشف والعالم والباحث والمعلم والطبيب والمهندس والمحامي والمدير والتاجر والقائد والزعيم والخطيب وغيرهم من أولئك الذين يضيفون إلى تراث الحضارة البشرية كل يوم شيئاً جديداً.
"لقد ثبت علمياً بأن قسطاً كبيراً من هذه الإنجازات الخالدة التي قام بها هؤلاء الناجحون والنابغون جاء نتيجة الإلهام الذي انبثق من أغوار اللاشعور".
ثم عرج المؤلف على موضوع القوى النفسية الذي يعتبر جديداً، فهو لم يبدأ بشكله التجريبي الراهن إلا حوالي سنة 1930، هذه السنة يمكن اعتبارها نقطة تحول في تاريخ الفكر البشري، أسست جامعة (ديوك) في أمريكا فرعاً خاصاً لدراسة هذه القوى دراسة مختبرية تحت إشراف البرفسور (راين).
حيث ألف عدة كتب لخص فيها نتائج بحوثه؛ حيث أثار بذلك ضجة كبرى في الأوساط العلمية.
وقد جابه العلماء هذا الموضوع بشيء من السخرية والاستنكار أول الأمر وقاومه كثير من الأساتذة والهيئات الجامعية إذ اعتبروه نكسة في تطور العلم ورجوعاً إلى الخرافة والسذاجة البدائية. هذا ولكن جامعة (ديوك) ثابرت على خطتها في تشجيع هذا الموضوع.
وقد أخذت الضجة ضده تخفت وبدأ العلماء ينظرون إليه نظرة جدية بعد أن لمسوا نتائجه التجريبية التي تكاد لا تقبل الشك. وشرعت عدة جامعات أخرى تدخل الموضوع في مناهجها تدريجاً، وكذلك جامعتا أوكسفورد وكمبردج أخذتا تشجعان هذا الموضوع عن طريق الهبات وتوزيع الزمالات.
فموضوع القوى النفسية أصبح اليوم موضوعاً تجريبياً محترماً، يشتغل فيه أساتذة من طراز عالمي وتؤسس له المختبرات وتؤلف فيه الكتب الجامعية.
ويأسف الوردي أن يرى العالم العربي بعيداً كل البعد عن مواكبة هذا التطور العلمي أو الاقتباس منه والتأثر به.
فلا يزال المثقفون غافلين عنه ولعل بعضهم لم يسمع عنه قليلاً أو كثيراً.
وأورد الدكتور الوردي حادثة بينه وبين أحد زملائه، فقال: "ذات مرة كنت مع أحد مثقفينا الكبار وتحدثت معه حول هذا الموضوع وكيف أن الإنسان يملك في عقله الباطن قوى نفاذة تخترق حجب الزمان والمكان فوجدته يتململ اشمئزازاً ويسرع إلى التكذيب والاستهزاء. وقد أخذ هذا المثقف الكبير يتعجب كيف جاز لرجل مثلي أن يصدق بمثل هذه السخافات التي لا تلائم ,على حد زعمه, معايير المنطق والتفكير السليم.
أما الدكتور الوردي فيتعجب بدوره كيف جاز لرجل مثل هذا المثقف الكبير وهو على تلك الدرجة العالية من الثقافة الحديثة أن يرفض نتائج بحوث مختبرية بحجة أنها تخالف معايير المنطق والعقل.
ويكمل الوردي حديثه أن تلك المعايير نسبية تستند إلى المصطلحات والتقاليد الحضارية وتتغير بتغيرها، وما الفرق بين هذا المثقف وبين ذلك الأمي المتعصب الذي يرفض مقررات العلم الحديث لمجرد أنها تخالف ما تعود عليه من عقائد وتقاليد.
ويقول الوردي على أي حال، لا يجوز أن نشتد في لوم هذا المثقف المحترم، فكل إنسان, كما ذكرنا, ميال إلى رفض ما يخالف مألوفاته السابقة.
والواقع أن موضوع القوى النفسية يستدعي, بطبيعته ,الاستغراب أو التكذيب إذا ما جوبه به المفكر من غير أن يكون له معرفة سابقة به.
إنه موضوع غريب حقاً نظراً إلى ما تعود عليه طلبة العلم في المدارس الحديثة من مفاهيم ومقولات منطقية.
-لمزيد من المعلومات والتوسع في الموضوع كتاب خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة.
-الكاتب: د. علي الوردي
-الدار: منشورات ثامن الحجج- قم المقدسة 2006 م.