وقف حروب.. لكن لا تسويات نهائية بعد!
صبحي غندور*
هناك الآن محاولاتٌ جادّة لوقف الحروب والأزمات المشتعلة في المنطقة، والتي تشمل ساحاتها كلّاً من سوريا والعراق واليمن وليبيا، وهي البلدان التي امتزجت فيها صراعاتٌ محلية وتدخّلٌ عسكري إقليمي ودولي سافر، مع مواجهاتٍ عسكرية مفتوحة ضدّ الإرهاب الذي يقوده الآن تنظيم "داعش" وإفرازات "القاعدة".
ولعّل هذا المزيج المركّب، من عناصر الصراعات المحليـة والإقليميـة والدوليـة المجتمعـة في هذه الأزمات، ما يجعل من الصعب التوصّل لحلول وتسـويات نهائيـة لها، لكن مخاطر اسـتمرار وتصعيد هذه الأزمات أصبح هو الدافع الآن للبحث عن اتفاقياتٍ مؤقتّـة تُنهي الحروب، لا جذور الصراعات.
فهناك ارتفاعٌ دولي مشترَك لمنسوب المخاوف من تفاعلاتٍ ممّا يحدث تحديداً على الأرض السورية، إن كان لجهة زيادة دور الجماعات الدينية المتطرّفة، والمحسوبة إسمياً على جماعات "داعش" و"القاعدة"، أو أيضاً لمحاذير إمتداد الصراعات المسلّحة إلى مواجهات إقليمية ودولية، كما هي الأزمة الآن بين روسيا وتركيا، العضو في حلف "الناتو".
إنّ سوريا هي قضيةٌ حاضرة الآن في كلّ الأزمات الدولية، وسيكون مصير الحرب المشتعلة فيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيُحدّد مصير الأزمات الأخرى. كذلك، فإنّ استمرار الحرب يعني استمرار التأزّم الغربي مع موسكو وطهران، ويعني مخاطر حربٍ إقليمية قد تشترك فيها (إسرائيل)، إضافةً إلى التورّط التركي الكبير الحاصل في الأزمة السورية ممّا قد يؤدّي إلى تورّط "الناتو" عسكرياً، وهو أمرٌ لا ترغب بـه الآن الولايات المتحدة وحُلفاؤها الأوروبيون.
أيضاً، فإنّ مخاوف إدارة (أوباما) من زيادة نفوذ جماعات التطرّف المسلّحة في سوريا ومخاطر إنتشارها إلىأمريكا ودول الغرب، لا يمكن إزالتها من دون تسوية سياسية للحرب الدائرة في سوريا وعلى سوريا. فكلّما زاد التصعيد العسـكري كلّما زاد نفوذ هذه الجماعات وتأثيراتها على مسـتقبل الأحداث في عموم المنطقـة. ولا خيار الآن أمام إدارة (أوباما) إلّا البحث عن تسـويـةٍ سـياسـيـة ودعم الجهود الدوليـة الجاريـة الآن لتسـهيل هذه التسـويـة لدى الأطراف السـوريـة المعنيّـة بالأزمـة، إذ ليسـت واشـنطن بوارد التدخّل العسـكري المباشـر، ولا هي تثق بمصير السـلاح الذي يمكن أن تُقدّمـه لبعض قوى المعارضـة السـوريـة!
مراهناتٌ دولية وإقليمية كثيرة على الحرب في سوريا وصلت حتّى الآن إلى طريقٍ مسدود، كما هو أيضاً الخيار بالحلّ العسكري عند كلّ طرف. وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية هي في جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي، و(إسرائيل) ومن لديها من عملاء أو حُلفاء على المستويين الإقليمي والدولي. فلا مصلحـة لهذين الطرفين في إنهاء الصراع الدموي في سـوريا، أو في التفاهمات الدوليـة، وما قد تُفرزه هذه التفاهمات من نتائج سـلبيـة على كلٍّ منهما.
ما يحصل في سـوريا هو أشـبـه بتقاطع طُرق لمشـاريع عديدة في المنطقـة؛ بحيث نرى تكاملاً بين بعضها وتناقضاً بين بعضها الآخر، لكن في المحصّلـة هي "مشـاريع" لها خصوصياتها الإقليميـة أو الدوليـة، ولا أجد أنّ أياًّ منها يُراهن على تصعيد نيران الحرب في سـوريا باسـتثناء "المشـروع الإسـرائيلي"، الذي وجد مصلحـةً كبيرة في تداعيات الأزمـة السـوريـة وانعكاسـاتها التقسـيميـة العربيـة، على مسـتوى الحكومات والشـعوب. فـ (إسـرائيل) لا يوافقها توصّل واشـنطن وأوروبا، من جهة، وموسـكو وطهران من جهـةٍ أخرى، إلى اتفاقٍ كاملٍ بشـأن الأوضاع في سـوريا لأنّ ذلك يوقف النزيف الدموي في الجسـم السـوري، والعربي عموماً، ولأنّـه يعني أيضاً تفاهماتٍ أمريكيـة/غربيـة مع روسـيا وإيران تتجاوز المسـألة السـوريـة، ممّا قد يدفع أيضاً بإعادة فتح الملف الفلسـطيني ومسـؤوليـة (إسـرائيل) تجاهـه..!!
إنّ المراهنات الإسـرائيليـة في الأزمـة السـوريـة هي على مزيدٍ من التفاعلات السـلبيـة أمنياً وسـياسـياً وعدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل؛ فمن مصلحـة (إسـرائيل) بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشـرق العربي والمهدّد لوحدة الأوطان والشـعوب. كذلك، تُراهن حكومـة (نتنياهو) على صراعاتٍ عربيـة ـــــ إيرانيـة لتكون مدخلاً لصراعاتٍ عُنفيـة مذهبيـة محلّيـة في المنطقـة لتغيير خرائطها ولإقامـة دويلاتٍ طائفيـة وإثنيـة، ولتعزيز حاجـة أمريكا والغرب (لإسـرائيل) بحكم ما سـينتج عن الحروب الإقليميـة، "الدينيـة" و"الإثنيـة"، من تفاعلات لأمدٍ طويل تُثبّت مقولـة: (إسـرائيل) "دولـة يهوديـة"!
لقد تحدّث الرئيس (أوباما)، في سنة حكمه الأولى في "البيت الأبيض" بالعام 2009، عن الحاجة لوقف السياسة الإنفرادية الأمريكية وللتخلّي عن أسلوب الحروب الإستباقية، وهما الأمران اللذان سارت عليهما إدارة (جورج بوش) الابن وأوصلا الولايات المتحدة والعالم إلى أزماتٍ سياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة. والبديل عن هذه السياسة هو الإقرار الأمريكي بعصر التعدّدية القطبية، وبالسعي لتفاهمات مع القوى الكبرى الأخرى في العالم من أجل صياغة تسويات لما هو قائمٌ من أزماتٍ دولية تهدّد، في حال عدم تدارك تداعياتها، مصير العالم كلّه.
ولم تجد إدارة (أوباما) أيَّ مصلحةٍ في تصعيد التوتّر مع إيران أو في تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية منذ العام 2009 بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية لتصنيع الطاقة النووية، بل نظرت إدارة (أوباما) إلى هذا العمل العسكري، الذي كان مطلباً إسرائيلياً، كخطرٍ أكبر على أمريكا ومصالحها من أيّة حربٍ أخرى خاضتها في المنطقة.
لذلك حصلت التفاهمات الأمريكية/الروسية على كيفيّة التعامل مع الملف النووي الإيراني، وجرى التوصّل لاتفاقٍ دولي مع طهران بشأن ملفّها النووي، دون أن يعني ذلك حدوث "يالطا" جديدة الآن، أو تفاهماتٍ على توزيع الحصص الجغرافية في العالم، كما حصل بين موسكو وواشنطن عقب الحرب العالمية الثانية. فالتفاهمات هي الآن على مبدأ تحقيق تسـويات سـياسـيـة، وعلى منع اسـتمرار الإنحدار السـلبي للأزمات المشـتعلـة في "الشـرق الأوسـط"، وعلى توفير أوسـع جبهـة دوليـة ممكنـة لمواجهـة خطر التطرّف والإرهاب المهدّد حالياً للجميع.
فخيار التسـويات السـياسـيـة، وليـس المزيد من التصعيد العسـكري، هو المرغوب حالياً من قِبل الأقطاب الدوليين، حتّى لو كانت هناك عقبات أو "معارضات" لهذه التسـويات على مسـتوياتٍ محليـة وإقليميـة. لكن هذه التسويات الدولية الممكنة لأزماتٍ في المنطقة ومحيطها هي مراهناتٌ عربية جديدة على "الخارج" لحلّ أزماتٍ مشكلتها الأساس هي ضعف "الداخل" وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لصالحهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح هذه الأطراف، الإقليمية والدولية، غير العربية؟! فكلّ طرفٍ معنيٌّ بصراعات المنطقة سيُحاول تحسين وضعه التفاوضي على "الأرض" قبل وضع الصيغ النهائية للتسويات، بينما العرب منقسمون ومتصارعون! إذ مهما حدث من تطوّراتٍ إيجابية محتملة على صعيد التفاهمات الدولية والإقليمية، فإنّ السؤال يبقى: كيف سـيكون هناك مسـتقبلٌ أفضل للشـعوب والأوطان العربيـة إذا كان العرب مسـتهلَكين بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع..!؟
وسـتبقى الأوطان العربيـة مهدّدةً بمزيدٍ من الصراعات والتشـرذم، ليـس حصيلـة التدخّل الأجنبي والدور الإسـرائيلي فقط، بل أصلاً بسـبب البناء الهـش لمعظم دول هذه الأوطان، ولما فيها من تخلّف فكري في مسـائل فهم الدين ومسـألـة الهويّات المتعدّدة للإنسـان العربي!
المنطقـة العربيـة لم تسـتفد بعد من دروس مخاطر فصل حرّيـة المواطن عن حرّيـة الوطن، ومن إنعدام الممارسـة الصحيحـة لمفهوم المواطنـة. ولم تسـتفد المنطقـة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنـة على الخارج لحلِّ مشـاكل عربيـة داخليـة. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضيـة، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهليـة والإنقسـامات الشـعبيـة على أُسـسٍ طائفيـة أو إثنيـة، حيث تكون هذه الإنقسـامات دعوةً مفتوحـة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربيـة...!!!
14/12/2015
*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)