الفلسفة وتجلياتهادمشق ـ عرض سلام مراد:
الكتاب : تجليات الفلسفة العربية : منطق تاريخها من خلال منزلة الكلّي في الأفلاطونية
الكاتب : أبو يعرب المرزوقي .
الناشر : دمشق – دار الفكر – 2001 م .
الفلسفة هذا العلم الإشكالي الغني ، مازال يطرح الأسئلة على الإنسان ومازال يتجلى بصور شتى . امتداد الفلسفة مازال مستمرا ً من سقراط وأفلاطون وارسطو إلى أيامنا هذه ويزداد هذا العلم توسعا ً وغنى ، بالفلاسفة والحكماء والبحث عن المعرفة والحقيقة الكلية من خلال الأسئلة التي تطرحها الفلسفة بشكل عام وتأثيرها وتجلياتها على العلوم الأخرى .
إن البحث عن الإجابة هو ما يشكل دائما ً نواة كل معرفة ، وبفضله تراكمت العلوم والمعارف التي ننعم اليوم بها ، ومن دون البحث ومحاولة الإجابة ربما لا يكون للحياة معنى ، ولا لفهمنا ذلك بعمق .
الحوار والفكر و الفكر الموازي والتأثير والتأثر مازال موجودا ً ، مسيرة الفلسفة طويلة وغنية ، الفلسفة توجهنا نحو جمهورية العقول ، التي يطمح إليها سبينوزا كما يطمح إليها كانط .
إن الحقائق التي تبدو للفيلسوف كلّية ، شاملة ، تبدو في أول الأمر ، وكأنها غير مفهومة ، إذن فهي غير مقبولة إلا لديه هو ، وحده ، بين كل الآخرين .
وكل منهج فلسفي يصدر عن ردّ فعل شعور إنساني ما اتجاه العالم ، أو - إذا شئنا – تجاه تصور معين للعالم لا تكون ذاته إلا فردية . غير أن هذه الذات تخضع لمقتضيات كلّية .
إشكالية الكلّي وأبعادها :
التحول الفلسفي والعلمي الذي تمخض عن حمل أرسطو لازمة التواطؤ التي مدّ بها العلم اليوناني ، في عصره الذهبي ، أبرز النتائج الإبستمولوجية للدور الذي أدّاه مفهوم التناسب الرياضي والكلّي المنطقي في الفلسفة القديمة وما تلاها من الفلسفات المؤلفة منها ، خلال المرحلة الفاصلة بين أر سطو وبداية الفلسفة العربية .
اصبح الكلّي بما هو المعلوم معرفيا ً والقائم وجوديا ً طبيعيا ً ، محور كل تفكير علمي في المنطق والرياضيات ( صورة المعلوم وعلمها ) وكل تفكير فلسفي نظري في أسسهما الميتافيزيقية ( صورة الموجود الطبيعي وعلمها ) . كما أصبح الكلّي ، بما هو المعمول عمليا ً والقائم وجوديا ً – شريعيا ً ، محور كل تفكير علمي في التاريخ والسياسيات ( صورة المعمول وعلمها ) وكل تفكير فلسفي عملي في أسسهما الميتاتاريخية ( صورة الموجود الشر يعي وعلمها ) .
لكن التأرجح الأرسطي بين واقعية المعقول الأفلاطوني وواقعية المحسوس السوفسطائي ، مكن الفكر اليوناني من العودة ، في الأفلاطونية المحدثة خاصة ، إلى كلّي واقعي ألّه المثل الرياضية المنطقية ، والقيم السياسية التاريخية ، بفضل نظرية العقول الفائض بعضها عن البعض والمسيرة للآلة الفلكية ، والفاعلية المعرفية ، ( فيض الكلّيات من العقل الفعال على العقل الإنساني المنفعل في النظر والعمل ) ، والوجودية ( فيض الكلّيات على المادة الأولى المنفعلة ) ، مثلما تعّين ذلك في فلسفة الفارابي التي تمثل أحسن تمثيل الصياغة الأولى للأفلاطونية المحدثة العربية ، حيث يلتقي بحكم مزيج غريب ، أفلاطون وأرسطو في حل أفلوطين .
وفعلا ً ، فإن اختيار أرسطو لحل وسط بين واقعية أفلاطون العقلية التي تعتبر العقلي موجودا ً عينيا ً واقعيا ً ( له قيام خارج الذهن هو غير المحسوس ) ، وواقعية السوفسطائيين الحسية التي تعتبر الحسي موجودا ً عينيا ً واقعيا ً ( له قيام خارج الذهن هو المحسوس ) أي حل وسط جعل هذا الكلي عاما ً في الأذهان عقليا ً وخاصا ً في الأعيان حسيا ً ، قد ربط منزلة الكلي في العلوم النظرية ( الرياضيات والمنطق خاصة ) ، وفي العلوم العملية ( السياسيات والتاريخ خاصة ) . بمسألة أعم منها لكونها تتعلق بجذر المعلوم والمعمول أو الموجود الطبيعي والشر يعي ، أعني منزلة الكلي الأنطولوجية في الفلسفة منذ أشهر منظومتيها الأوليين ، أي الأفلاطونية والأرسطية ، إلى الآن ، فلا غرابة عندئذ أن تكون جميع الإشكالات الدائرة حول هذه المنزلة منطلقة من الحل الأرسطي الذي ، لكونه حلا ً وسيطا ً ، جعل مثل هذا المزيج الغريب الذي أشرنا إليه ، يصبح أمرا ً ممكنا ً ، فالمحرك الأول في السماع ( المقالة الثامنة ) أصبح ، في الميتافيزيقيا ( مقالة اللام ) عقلا ً غاية غيره يتحرك بتأمله ( العقول الفلكية ) أو يتحرك بالشوق إليه ( الطبائع السفلية ) . مما جعل الأفلاطونية المحدثة العربية صاحبة الفيض المتدرج من العقل إلى النفس إلى المادة ، تنتسب بنفس الوجاهة إلى الأرسطية انتسابها إلى الأفلاطونية بتوسط علمي النفس الشخصية بالنسبة إلى الأولى ، أو الشخصية والكلية بالنسبة إلى الثانية .
الأستاذ أبو يعرب المرزوقي يوضح من خلال البحث في المسألة الإبستمولوجية المتعلقة بطبيعة شكل العلمين النظريين ( الرياضيات والمنطق ) ، والعلمين العمليين ( السياسيات والتاريخ ) ، وبطبيعة موضوعي الزوجين يعود إلى البحث في الجذر الواحد لهاتين المسألتين : أعني طبيعة المنزلة الأنطولوجية للكلّي ، التي من نتائجها منزلة العلمين النظريين ، ومنزلته فيهما ، ومنزلة العلمين العمليين ومنزلته فيهما : بحيث إن العلاقات الرابطة بين منازل هذه العلوم أفقيا ً ( بين العلمين العمليين أو بين العلمين النظريين ) ، وعموديا ً ( بين أحد العلمين النظريين وأحد العلمين العمليين ) ، ووظائف كل منهما في الفكر الفلسفي تعود جميعا ً إلى خاصيات المنزلة الأنطولوجية التي تستند إليها فلسفة أفلاطون أو فلسفة أرسطو أو الفلسفة التي تمثل ما فيهما من تساند إحداهما إلى الأخرى أعني فلسفة أفلوطين .
تلك هي الخطة الأولى من البحث في هذه المسألة : وهي خطة ، بما تولد عنها من تحديد مؤقت لمعالم الإشكال ، جعلت من الواجب أن ننطلق من جذرها ، وليس من نتائجها ، وذلك أن مسألة المنزلة الأنطولوجية للكلي ، في عمومها ، أصبحت بؤرة الإشكالات الفلسفية جميعا ً الإبستمولوجي منها والإكسيولوجي ، أعني وهنا الكلام للدكتور المرزوقي من حيث نظرية العلم ونظرية العمل ، خلال المرحلة العربية التي نهتم بها ، وذلك بحكم التقابل والتساند بينهما وبين مرونة الحنيفية المحدثة ( أعني القرآن والحديث ) بخصوص الروح وخلودها ، وحدوث العالم وفنائه : وهي جميعا ً عقائد لا يمكن التوفيق بينها وبين واقعية الكلي بمعناها الأفلاطوني أو الأرسطي أو الأفلوطيني .
ولعل صياغة هذه المعضلات وعلاجها الفلسفي هو المميز الأساس للحقبة العربية من تاريخ العقل الإنساني .
وبذلك تصبح مسالة المنزلة التي تشغلها الرياضيات والمنطق في الفلسفة العربية جزءا ً أولا ً من نتائج المنزلة الأنطولوجية للكلي ، أما الجزء الثاني منها والذي لا يقل عنها أهمية فهو المنزلة التي تشغلها السياسيات والتاريخ فيها .
ومعنى ذلك أن ذروة الردود الكلامية على المنطق ، في النظريات توازيها ذروتها في الردود على السياسة المدنية ، في العمليات وذلك هو البعد الإبستمولوجي من البحث في مسالة الكلي .