(التلفاز كعائلة جديدة : ولي الأمر الثالث)
يستطع الإنسان أن يفهم – ببساطة – أن يهتم (أهل العلم) بالحكم الشرعي،عند وجود (نازلة) ما ... مثل دخول (التلفاز) إلى البلاد،فيصدرون أحكاما من الناحية الشريعة،لذلك وجدنا من يسميه (تلف الدين) أو (تلف العيون) إلخ. .. ولكن الذي لا يمكن فهمه أن يغيب (المفكرون) و(علماء الاجتماع) عن قراءة (تجربة) من سبقنا التعامل مع ذلك (الجهاز)،وقام بدراسة الآثار الناتجة عند مشاهدته .. وخصوصا تلك الدراسات التي تأتي من الذين اخترعوا ذلك الجهاز!أقول ذلك كمدخل إلى إطلالة على مقالتين،رأيت أهميتهما .. (( الصورة الأولى من فيلم " تيليبوليس" : لمسات أحرف آلة كاتبة قديمة تقفز قضبانها تحت ضغط الأصابع،كأنها أيدي فنان ممشوقة تستخرج أصوات البيانو. أي قصة تروي لنا؟ الأحرف تتسجل {هكذا} بالأبيض على خلفية سوداء. ((كان يا ماكان .. مدينة بلا صوت. أحدهم سرق أصوات كل سكانها.)) تلك هي نقطة الانطلاق التي اختارها السينمائي الأرجنتيني الشاب (..) " اليوم.و في وسط الديمقراطية، نحن ضحايا فساد بلا قياس مشهود يوميا على التلفاز. هدفه أن يفقد الجمهور اهتمامه وأن يبتعد عن السياسة. تستخدم الصورة كأدوات اجتياح لتفكيرنا. ورجال السلطة والإعلام يسيرون الرأي العام عن بعد وهم متضامنين.( (..) "تيليبوليس" يدعو، من وجهته، إلى مقاومة حلم السيطرة الذي يسكن "السيد تي في"، مدير البرامج التلفزيونية وديكتاتور النظام. يرتدي بذلة مقلمة جديرة بأفلام العصابات، رأسه نصف أصلع يغطيه بصباغ بدل الشعر المستعار. أب العائلة هذا " لديه سر" كما يقول ابنه الذي يكرهه.(..) هذه الشخصية التي تملك صناعة ضخمة لكافة المنتجات التي يستهلكها المشاهدون عندما يبتلعون بأعينهم أنواعا من الكعك اللولبي المزين. فهل هو الشعار الملصق على غطاء سيارة المرسيدس التي يتنقل بها صاحب السلطان أم أنها إشارة الانتساب إلى شبكة الإنترنت. (..) صمت المقابر لا يكسره سوى (الصوت). صوت المغنية ذات الجسد الغاوي والتي تأسر الجماهير ما أن تطلق على الشاشة الصغيرة نداءها بمرافقة الراقصات على إيقاعات الرومبا والبوليرو : "يصيبني اليأس من العيش بلا حبك. تعال. إني أنتظرك". برامج تسلية لا تتوقف يقطعها نقل مباريات الملاكمة .. الوصفة معروفة .. نبتسم .. وهل ينجح الشاب الذي يصّلح أجهزة التلفزة والمصروف ظلما من الخدمة،مع زوجته وأولاده، في التغلب على أزلام الديكتاتور وإعادة الصوت لمن فقدوه؟){ النسخة العربية من ( لوموند ديبلوماتيك ) عدد يوم الجمعة 1/2/1429هـ = 8/2/2008م.}.الكلام السابق، منقول عن مقالة : ( فرنسوا بارتيليمي). بينما يكتب( داني دوفور )، تحت عنوان :( هل يصقل التلفزيون أناسا أم خرافا ؟: العيش كالقطيع مع الشعور بالحرية :( ليست الفردانية هي مرض عصرنا هذا، بل إنها الأنانية " حب الذات" هذا العزيز على قلب آدم سميث الذي يتغنى به الفكر الليبرالي بمجمله، إنه عصر الترويج للأنانية،وإنتاج العديد من "الأنا" العمياء أم المعمية،لدرجة أنها لم تعد تلاحظ لأي درجة يمكن تجييشها داخل مجموعة جماهيرية. إنها "الأنا" تحديدا.ذلك أن الناس يعتقدون أنهم متساوون في حين يخضعون،في الواقع، للسيطرة على ما يجدر تسميته بــ"القطيع" وفي هذه الحالة، قطيع المستهلكين بالتحديد.إن العيش ضمن قطيع مع التظاهر بالحرية لا يشهد على شيء سوى على علاقة بالذات مرتهنة بصورة كارثية،كونها تفترض إرساء علاقة كاذبة مع الذات كقاعدة حياتية. ومن هنا،مع الآخرين هؤلاء الذين يعيشون خارج الديمقراطيات الليبرالية،عندما نقول لهم بأننا جئنا – مع بعض الأدوات كهدايا أو مدججين بالسلاح في حال رفضوا ذلك – لمنحهم الحرية الفردية، في حين أننا نتطلع قبل كل شيء إلى إدخالهم في قطيع المستهلكين الكبير. لكن ما ضرورة هذه الكذبة ؟ الجواب بسيط. يجب أن يتوجه كل شخص ( بحرية) نحو البضائع التي يصنعها من أجله نظام الإنتاج الرأس مالي الجيد.(بحرية) لأنه في حال إرغامه على ذلك سيقاوم. لذا يجب أن يترافق الإرغام المستمر على الاستهلاك دوما بخطاب عن الحرية، الحرية المزيفة طبعا،بمعنى تلك التي تسمح بالقيام بــ(كل ما تريده).ومجتمعنا في سياق اختراع نموذج جديد لخليط اجتماعي يضع على المحك تركيبة غريبة من الأنانية وغريزة القطيع أسميها بـ(الأنانية الغريزية) وتشهد هذه التركيبة على أن الأفراد يعيشون منفصلين عن بعضهم،الأمر الذي يمدح أنانيتهم،مع إبقائهم على ارتباط بنمط افتراضي من أجل توجيههم نحو مصادر الوفرة. وتلعب الصناعة الثقافية هنا دورا كبيرا : التلفزيون،الإنترنت، وقسم كبير من السينما التي يرتادها الجمهور الكبير، وشبكات الهاتف المحمول المتخمة بالعروض " الشخصية". ويشكل التلفزيون، قبل أي شيء،وسيطا منزليا،وقد أتى ليستقر في أسرة كانت تعاني أساسا من أزمة في كيانها. فقد تم الحديث عن "فردانية"،و"خصخصة"،و"تعددية" الأسرة، الناتجة عن تفككات لم يسبق لها مثيل للعلاقات الزوجية وللعلاقات بين الأهل والأولاد. حتى أن البعض من الكتاب يتحدث عن (تفكك مؤسساتي)، يجب إرجاعه إلى تداعي الروابط السلطوية لمصلحة روابط قائمة على المساواة. هكذا تحولت العائلة من مجموعة مبنية على أقطاب وأدوار،إلى مجرد تجمع وظيفي بسيط لمصالح اقتصادية- عاطفية : يستطيع كل واحد الاهتمام بأشغاله الخاصة،دون أن يترتب على ذلك حقوق أو واجبات محددة لأي منهم. مثلا سيذهب كل واحد – الأب، الأم أو الأولاد- لتجميع حاجاته من الطعام من البراد ما يكفي لسد جوعه قبل أن يعود إلى غرفته أمام التلفزيون أو الفيديو، دون المرور بالطقس المشترك لوجبة الغداء أو العشاء العائلية. تلك نواحي معروفة. لكن ما لا يعرفه الناس جيدا هو التعديلات التي أدخلها استخدام التلفزيون. إذ يغير هذاالأخير أطر الحيز المنزلي، عبر إضعاف أكبر للدور الذي أساسا تقلص للعائلة الحقيقية، ومن خلال إنشاء ما يشبه العائلة الافتراضية التي أتت لتلتصق بالعائلة السابقة.ومنذ وقت طويل، أطلقت بعض الدراسات التي أجريت في أمريكا الشمالية اسم (ولي الأمر الثالث) على التلفاز . يجب تناول هذا التعبير بمعناه الحرفي وعدم اعتباره مجرد صورة مجازية،لما يحتله ولي الأمر الثالث هذا من مكانة تفوق مكانة وليي الأمر الأوليين أهمية.( ..) لم تنتبه العلوم الاجتماعية لهذا التوسع الافتراضي للعائلة من خلال ولي الأمر الثالث. علما أنه تم تحديد هذه الظاهرة بصورة جلية كاملة من قبل الآداب، منذ بدايات عهد التلفزيون. ففي العام 1953 وفي رواية استباقية مدهشة (451 Fahrenheit) أظهر الكاتب الأمريكي راي براد بوري عن نواحي عدة من المشكلة في وقت كانت الرؤية تقتصر غالبا على تناول ناحية واحدة : مجتمع حل فيه التلفزيون مكان الكتب. وقد استوحى من هذا الكتاب فيلم من إخراج (..) في عام 1966 تدور أحداثه في مستقبل قريب يعتبر فيه المجتمع أن الكتب خطيرة وبأنها تشكل عائقا في وجه ازدهار البشر. وإن تم إدراك مسألة العلاقة بين التلفاز والكتاب بشكل جيد، إلا أن المسألة المصيرية الثانية التي تطرحها هذه القصة لم تؤخذ كثيرا بعين الاعتبار : التلفزيون كعائلة جديدة. علما أن هذه الناحية موجودة، بشكل قوي،من خلال الدور الكبير الذي تلعبه زوجة مونتاغ في القصة. فميلدريد ( ليندا في الفيلم) خاضعة، بشكل تام، لنظام الحياة المعقم والسعيد جبريا الذي أسسته ( الحكومة) وهي تستهلك ما يكفي من المهدئات لتفادي أي شعور بالقلق. وتعيش خاصة مع التلفزيون الموجود في جميع غرف المنزل والذي يغطي مساحة الجدار بأكملها (القصة متقدمة قليلا على تقنياتنا، لكننا لحسن الحظ أصبحنا نمتلك شاشات مسطحة تزداد اتساعا). تمثل تلك (الجدران الناطقة)، كما يسميها الراوي،"عائلته" التي تعيش شخصياتها الافتراضية، كل يوم،في صالون ميلدريد. حتى أن الطموح الأكثر دلالة للبطلة هو شراء شاشة جدارية رابعة لتحسين ... الحياة العائلية. تكمن قوة هذه الرواية في كونها كشفت باكرا جدا عن هذه السمة : في حين كانت العائلة الحقيقية – مع أنظمتها وأماكنها وتراتبياتها- تتلاشى تدريجيا،وكان يتم استبدالها بمجتمع جديد ضخم ومتبحر، يخلقه التلفزيون ومنذ العام 1953 فهم براد بوري أن المشاهدين بدأوا ينتمون من خلال تخليهم عن العلاقات الاجتماعية الحقيقية القديمة،إلى "عائلة" واحدة، إذ أصبح لديهم فجأة نفس " الأعمام" الذين يروون عادة القصص المضحكة ونفس "الخالات"المازحات، ونفس "الأنسباء" الذين يكشفون عن حياتهم الخاصة. هكذا فإن برامج النقاش العديدة جدا وغيرها من البرامج الترفيهية التي تبث اليوم على القنوات العمومية،تؤمن مجموعة كبيرة من صور العائلة : من الخجول المثابر إلى الثرثار الذي لا يمكن إصلاحه، مرورا بصاحب امتياز الامتعاض، والمناضل السابق المنتقل إلى صفوف الشهرة، والأستاذ الأبله، ومناصر البيئة ممن يحبون المأكولات الجيدة، والصلف بالأسلوب الغالي، والشقراء المفرقعة ذات الجسم المقوى اصطناعيا، ومحبوب الشباب الدائم، والمغني العاطفي المتقدم في السن، ونجمة السينما الإباحية المدافعة عن حقوق الإنسان، والمثلي الجنسي في كافة تنويعاته،والمعاق المضحك،والمتحول جنسيا بأصنافه، والمفكر المعتمد، وابن المهجرين المهذار،(..) وأصبح المشاهد يجد اليوم أنسباءه وأعمامه وخالته وهو ينقل القنوات إضافة إلى أنهم مرحون أو يفترض كونهم كذلك. وما لم تعد القصص العائلية "الصغيرة والكبيرة، المضحكة والمأساوية" تؤمنه،أصبحت " عائلة" التلفزيون هي المدعوة إلى منحه.فهي التي تعري الباقين وحيدين وتحيي المجموعات التي تنقصها الحيوية. هكذا، إن " التلفزيون" لا يؤمن فقط "عائلة"،لكنه يحول أيضا مشاهديه إلى عائلة كبيرة.( ..) وفي الواقع، ليس بعيدا إلى هذا الحد الزمن الذي كان فيه أفراد العائلة الحقيقية يختنقون. فشعار "أيتها العائلة،إنني أكرهك" الذي أطلقه أندريه جيد، والذي استعاده طلاب ثورة 1968 الطلابية،لا يرجع سوى إلا جيل أو جيلين. بهذا المعنى أليست" العائلة" الافتراضية أفضل من العائلة الحقيقية، مع العلم أنه، في حال الشعور بالتعب الحقيقي، تكفي كبسة زر دون الاضطرار، كما في الماضي، لــ"قتل الأب". الإجابة على هذا السؤال بسيطة : فالمشاهد الذي يحب شخصيات هذه "العائلة" لا يمكنه أن يحصل على شيء منها في المقابل، لأن هؤلاء، كونهم وهميين، لا يمكنهم سوى أن يكونوا لا مباليين تماما لمصيره. ومن هنا يتبع سؤال جديد وجواب جديد. لماذا القيام بكل هذا الإنفاق في مجال التكنولوجيا (كاميرات،تقنيون،شبكات برامج،أقمار اصطناعية،شبكات،الخ) والاستثمارات المختلفة ( مالية، شبقية، الخ) إن لم يكن ذلك لجعل الأشخاص الذين يشاهدون التلفزيون يعيشون فعلا من خلال تمضية كل هذا الوقت أمامه؟ فهل تمثل هذه "العائلة" عهد التسلية الصرف؟ نعلم أن التسلية كانت في الماضي محصورة بالملك ضمن نطاق دعمه للجميع، في حين لم يكن يلقى دعما من أحد. وتفاديا للخطر الكبير بإصابة الملك بالسويداء، لم يكن هناك من وسائل أخرى سوى تسليته باستمرار. قد نكون اليوم في وضع مشابه، بفارق أنه اليوم،وفق ما تفرضه ديمقراطية السوق،يجب تسلية الجميع. (..) هكذا بات الجميع مطلعا على أقوال السيد باتريك لولاي، رئيس قناة ( TF1 ) التي أدلى بها أساسا في اجتماع صغير : " الهدف من برامجنا هو وضع " دماغ المشاهد"في حالة من الجهوزية، أي تسليته وراحته من أجل تحضيره لرسالتين. فما نبيعه لكوكاكولا هو وقت من جهوزية الدماغ البشري،وما من شيء أصعب من الحصول على هذه الجهوزية". (..) وأنا أطرح هنا إذا الفرضية القائلة بأن ما يسمح لهؤلاء المشاهدين بالتحول إلى متعبدين للتلفزيون يجد تفسيرا له في لعب التلفزيون دور العائلة الافتراضية البديلة. من الضروري إذا أخذ هذه "العائلة" بعين الاعتبار لمن يريد فعلا وصف عالمنا وناسه والتعمق بهم. فذلك سيسمح له بالكشف عن طبيعته الحقيقية. هكذا، يشير برنار ستيغلر في كتاب حيوي صغير حول التلفزيون والبؤس الرمزية {هكذا} إلى أن : (( "المرئي والمسموع" يؤدي إلى تصرفات قطيعية وليس إلى تصرفات فردية، بعكس إحدى الأساطير. إن القول بأننا نعيش في مجتمع فرداني ليس سوى كذبة واضحة وخدعة مزيفة بصورة مذهلة (..) إننا نعيش في مجتمع قطيع، كما فهمه واستبقه " نيتشه" ..)). إن العائلة هي إذا في الواقع "قطيع" يقتصر الأمر فقط على أخذه إلى حيث نريده أن يشرب ويأكل، أي نحو منابع ومصادر محددة بوضوح. (..) ففي كتابه (ماهي الأنوار ؟) .. ( 1784) .. يطور "كانت" موضوع تحويل الناس إلى قطيع. إذ يعتبر أن هذا التحويل يحصل عندما يعدل الناس عن التفكير بعقولهم الخاصة ويضعون أنفسهم تحت حماية "حراس يقترحون" من كرم لطفهم، السهر عليهم فبعد أن يجعلوا قطيعهم ساذجا( Hausvieh، وتعني حرفيا " قطيع منزلي") ويتوخون كل الحذر من أن تتمكن هذه الكائنات المسالمة من التجرؤ على القيام بأية خطوة خارج الحديقة المسيجة التي حُبسوا داخلها،ينبهونه إلى المخاطر التي ستواجهه في حال ذهبت إحداهم وحدها)). (..) أما بالنسبة لتوكفيل، فمن المدهش أن يكون هذا المفكر البارز الذي تناول الديمقراطية قد بحث في إمكانية تحويل الشعوب إلى قطعان،عندما تساءل عن نوع الاستبداد الذي يجب أن تخشاه البلدان الديمقراطية، إذ يظهر مفهوم "القطيع" تحديدا في 1840،عندما يشير إلى أنالشغف الديمقراطي بالمساواة يمكنه "تحويل كل بلد ليصبح مجرد قطيع من الحيوانات الخجولة والشغالةمحررة من "الاضطراب الذي يولده التفكير". وفي الواقع هذا الأمر صحيح : فضمن القطيع،نحن جميعا متساوون حقا. هكذا بعد تحويل العمال إلى بروليتاريا،بادرت الرأس مالية إلى "تحويل المستهلكين إلى بروليتاريا". (..) وتكمن عبقرية بيرنايز بأنه رأى باكرا جدا الاستفادة التي يمكنه الحصول عليها من أفكار فرويد. وفي الواقع منذ العام 1923، شرح في كتابه (بلورة الرأي العام)،بأنه يمكن للحكومات وأصحاب الإعلانات "تطويع الأذهان كما يطوع العسكريون الأجساد". (..) يوصي بيرنايز دائما بالتحدث معه عن رغبته "هو" ويهدف هذا الجمع للأفراد داخل قطيع إلى خلق تجانس في التصرفات،بطريقة تسمح باكتساح الأسواق وبالتالي تحقيق أقصى حد ممكن من الأرباح، بالاعتماد خصوصا على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة الجماهيرية، ومنها الراديو، والسينما، ثم التلفزيون الذي تم اختراعه فيما بعد(..) لاشك أننا أمام نموذج جديد نوعا ما من "التجمع" يُفترض تحليله بسرعة، ذلك أن منحاه الأناني يمنعه أبدا من اكتشاف نفسه ككائن جماعي, فنحن أمام تلك التركيبات الأنانية القطيعية كمن يقف أمام وحوش تفرزها الديمقراطية.وحوش، نعم، لأن تلك التركيبات معادية للديمقراطية في الجوهر : تعمل على الإغفال الطوعي والنهج المخادع اللذين يتكرران باستمرار، وعلى شراء الضمائر،وضربات الحظ،والربح السريع الأقصى،وهي علاوة على ذلك،تصيب بالعدوى بصورة متزايدة الآلية الديمقراطية الفعلية الباقية إذ أنها تساهم، بشكل خاص، في تحويل السياسة إلى نجومية اجتماعية). (..) .. "غالبا ما يتم وضع الأولاد تقريبا بالقوة أمام التلفزيون من قبل الأهل كي يهدأوا". ففي حال قبل هذا العرض،شبه الإجباري،للتفرج،يكون العضو في القطيع قد" وقع في الفخ"، لأنه سيتفرج معتبرا بأنه يشاهد التلفزيون بحرية. حينها يتم تجييش إحدى ميزات غريزة المتابعة البصرية هذه : عكس وجهة النظر،ما يسمح في النهاية ألا يعود المشاهد هو الذي ينظر إلى التلفزيون،بل أن يكون،واقعا، التلفزيون هو الذي ينظر إلى المشاهد. ويجب طبعا أن تكون عملية المعاكسة هذه غير مؤلمة قدر الإمكان. كل شيء ينطلق من عقد كاذب يعتقد المشاهد بموجبه أنه قادر على المشاهدة دون أن يراه أحد. من هنا،يولد هذا الشعور بالقوة الفائقة الأنانية التي تطال ذلك الذي يعتقد بأنه "يقوم بما يريده"عبر مشاهدته ما يريد فعلا مشاهدته. كون الإثبات النهائي على ذلك هي قدرته على تغيير القنوات على هواه. ولكن في الواقع، هذا المشاهد ليس فائق القوة، بل بعيدا عن ذلك : إذ لاشك أنه محط مشاهدة،بل محط تدقيق أكثر مما هو مُشاهِد. ولا ننسى أنه ما من نشاط اجتماعي آخر يتم تقييمه وقيساه أكثر من ذلك المرتبط بالممارسة التلفزيونية.){النسخة العربية من ( لوموند ديبلوماتيك ) عدد يوم الجمعة 2/1/1429هـ = 11/12008م}.أعرف أن هذا النقل الطويل، كي لا أقول الطويل جدا،ليس جيدا! كان يُفترض بي أن أقطع المادة التي أنقلها، ببعض عباراتي الخاصة،أو ألخص بعض أفكار المقالة، ثم أنقل، بين هلالين بعضا من المقالة، تعبيرا عن الأمانة! ولكنني فضلت أن أختار جزء من المقالة، بشكل متواصل.ولعلكم لاحظتم، كثرة تكرار عبارة (القطيع)؟ وأن الأفكار المتعلقة بتحويل كامل المجتمع إلى (قطيع)، ذات غور في الفلسفة الغربية(1840). إذا كانت فكرة (القطيع)، قد بدأت تتبلور من ذلك التاريخ القديم، فنحن، في زماننا، نشهد، لا نهاية التاريخ، ولكننا، نشهد، إدخال ذلك ( القطيع)،إلى ( حظيرة " العولمة"..). حيث يراد لنا أن نتحول جميعا إلى (نسخة واحدة)... نفس الملابس – رغم وجود خروقات هنا، وخروقات هناك- ..نأكل نفس الطعام .. نتحدث اللغة نفسها-الإنقليزية، خصوصا الإنقليزية{مهما بلغت بالإنسان "الأمية" فلابد أن يعرف "ثانكيو" و"بليز" وقبل كل ذلك "يس"}- .. نعشق نفس المواصفات – والتي تتغير، حسب الموضة،كي لا نصاب بالملل،وهو مرض العصر- .. نشاهد نفس الأشياء – يتحقق ذلك، عند إقامة كأس العالم، لكرة القدم - .. أو نشاهد أشياء متقاربة .. أفلام ..أفلام .. فديو كليب .. فديو كليب .. أغاني... أغاني .. بلا نهاية .. في السينما .. التلفاز .. راديو السيارة ... نغمات الجوال .... أغاني ... أغاني.إنه فعلا (عصر القطيع).أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 10/9/1433هـ